سبيلا لدلالة العقل على استحالة تكليف من لا يفهم
فإن قيل العقل سابق على أدلة السمع والمخصص ينبغي أن يتأخر لأن التخصيص إخراج ما يمكن دخوله تحت اللفظ وخلاف المعقول لا يمكن تناول اللفظ له
قلنا نحن نريد بالتخصيص الدليل المعرف إرادة المتكلم وأنه أراد باللفظ الموضوع للعموم معنى خاصا والعقل يدل على ذلك وإن كان متقدما فإن قلتم لا يسمى ذلك تخصيصا فهو نزاع في عبارة
وقولهم لا يتناوله اللفظ قلنا يتناوله من حيث اللسان لكن لما وجب الصدق في كلام الله تعالى تبين أنه يمتنع دخوله تحت الإرادة مع شمول اللفظ له وضعا
الثالث الإجماع فإن الإجماع قاطع والعام يتطرق إليه الاحتمال وإجماعهم على الحكم في بعض صور العام على خلاف موجب العموم لا يكون إلا عن دليل قاطع بلغهم في نسخ اللفظ إن كان أريد به العموم أو عدم دخوله تحت الإرادة عند ذكر العموم
الرابع النص الخاص يخصص اللفظ العام فقول النبي صلى الله عليه و سلم لا قطع إلا في ربع دينار خصص عموم قوله تعالى السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقوله عليه السلام لا زكاة فيما دون خمسة أوسق
خصص عموم قوله فيما سقت السماء العشر ولا فرق بين أن يكون العام كتابا أو سنة أو متقدما أو متأخرا وبهذا قال أصحاب الشافعي وقد روي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى أن المتأخر يقدم خاصا كان أو عاما وهو قول الحنفية لقول ابن عباس كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من امر رسول الله صلى الله عليه و سلم ولأن العام يتناول الصور التي تحته كتناول اللفظ لها بالتنصيص عليها ولو نص على الصورة الخاصة لكان نسخا فكذلك إذا عم وهذا فيما إذا علم المتأخر فإن جهل فهذه الرواية تقتضي أن يتعارض الخاص وما قابله من العام ولا يقضي بأحدهما على الآخر وهو قول طائفة لأنه يحتمل أن يكون العام ناسخا لكونه متأخرا ويحتمل أن يكون مخصوصا فلا سبيل إلى التحكم وقال بعض الشافعية لا يخصص عموم السنة بالكتاب وخرجه ابن حامد رواية لنا لقوله تعالى لنبين للناس ما نزل إليهم ولأن المبين تابع للمبين فلو خصصنا السنة بالقرآن صار تابعا لها
وقالت طائفة من المتكلمين لا يخصص عموم الكتاب بخبر الواحد وقال عيسى بن أبان يخص العام المخصوص دون غيره وحكاه القاضي عن أبي حنيفة لأن الكتاب مقطوع به والخبر مظنون فلا يترك به المقطوع كالإجماع لا يخص بخبر الواحد
وقال بعض الواقفية بالتوقف لأن خبر الواحد مظنون الأصل مقطوع المعنى واللفظ العام من الكتاب مقطوع الأصل مظنون الشمول فهما متقابلان ولا دليل على الترجيح
ولنا في تقديم الخاص مسلكان
أحدهما أن الصحابة ذهبت إليه فخصصوا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم برواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم لا تنكح المرأة على
عمتها ولا على خالتها وخصصوا آية الميراث بقوله لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ولا يرث القاتل وإنا معاشر الأنبياء لا نورث وخصصوا عموم الوصية بقوله لا وصية لوارث وعموم قوله حتى تنكح زوجا غيره بقوله حتى يذوق عسيلتها إلى نظائر كثيرة لا تحصى مما يدل على أن الصحابة والتابعين كانوا يتسارعون إلى الحكم بالخاص على العام من غير اشتغال بطلب تاريخ ولا نظر في تقديم ولا تأخير
الثاني أن إرادة الخاص بالعام غالبة معتادة بل هي الأكثر واحتمال النسخ كالنادر البعيد وكذلك احتمال تكذيب الراوي فإنه عدل جازم في الرواية وسكون النفس إلى العدل في الرواية فيما هو نص كسكوتهاإلى عدلين في الشهادات ولا يخفى أن احتمال صدق أبي بكر رضي الله عنه في روايته عن النبي صلى الله عليه و سلم نحن معاشر الأنبياء لا نورث
أرجح من احتمال أن تكون الآية سيقت لبيان حكم ميراث النبي صلى الله عليه و سلم فلذلك عمل به الصحابة والعمل بالراجح متعين
فأما قول من قال بالتعارض والوقف فهو مطالبة بالدليل لا غير وقد ذكرنا الدليل من وجهين وبينا أن احتمال إرادة الخصوص أرجح من احتمال النسخ فإن أكثر العمومات مخصصة وأكثر الأحكام مقررة غير منسوخة وكون النبي صلى الله عليه و سلم مبينا لا يمنع من حصول البيان بغيره فقد أخبر الله تعالى أنه أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء وقولهم المبين تابع غير صحيح فإن الكتاب يبين بعضه بعضا والسنة يخصص بعضها بعضا وليس المخصص تابعا للمخصوص وقد بينا فيما تقدم جواز التخصيص بدليل سابق وبالإجماع
ويجوز تخصيص الآحاد بالتواتر وليس فرعا له
وقولهم إن الكتاب مقطوع به
قلنا دخول المخصوص في العموم وكونه مرادا ليس بمقطوع بل هو مظنون ظنا ليس بالقوي بل ظن الصدق أقوى منه لما ذكرنا
ثم إن براءة الذمة قبل السمع مقطوع بها بشرط أن لا يرد سمع ويشتغل بخبر الواحد
جواب آخر إن وجوب العمل بخبر الواحد مقطوع به بالإجماع وإنما الاحتمال في صدق الراوي ولا تكليف علينا في اعتقاد صدقه فإن تحليل البضع وسفك الدم واجب بقول عدلين قطعا مع أنا لا نقطع بصدقها كذا الخبر
الخامس المفهوم بالفحوى ودليل الخطاب فإن الفحوى قاطع كالنص ودليل الخطاب حجة كالنص فيخص عموم قوله عليه السلام في أربعين شاة شاة بمفهوم قوله في سائمة الغنم الزكاة في إخراج المعلوفة
السادس فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم كتخصيص عموم قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن
بما روت عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض ولذلك ذهب بعض الناس إلى تخصيص قوله الزانية والزاني برجمه لماعز وتركه جلده
السابع تقرير رسول الله صلى الله عليه و سلم واحدا من أمته بخلاف موجب العموم وسكوته عليه فإن سكوت النبي صلى الله عليه و سلم عن الشيء يدل على جوازه فإنه لا يحل له الإقرار على الخطأ وهو معصوم وقد بينا أن إثبات الحكم في حق واحد يعم الجميع
الثامن قول الصحابي عند من يراه حجة مقدم على القياس يخص به العموم فإن القياس يخصص به فقول الصحابي المقدم عليه أولى
فإن قيل فالصحابي يترك مذهبه للعموم كترك ابن عمر مذهبه لحديث رافع بن خديج في المخابرة فغيره يجب أن يتركه
قلنا إنما تركه لنص عارضه لا للعموم
التاسع قياس نص خاص إذا عارض عموم نص آخر فيه وجهان
أحدهما يخص به العموم وهو قول أبي بكر والقاضي وقول الشافعي وجماعة من الفقهاء والمتكلمين
والوجه الآخر لا يخص به العموم وهو قول ابي اسحق بن شاقلا وجماعة من الفقهاء لحديث معاذ ولأن الظنون المستفادة من النصوص أقوى من الظنون المستفادة من المعاني المستنبطة ولأن العموم أصل والقياس فرع فلا يقدم على الآصل ولأن القياس إنما يراد لطلب حكم ما ليس منطوقا به فما هو منطوق به لا يثبت بالقياس
وقال قوم يقدم جلي القياس على العموم دون خفية لأن الجلي أقوى من العموم والخفي ضعيف والعموم أيضا يضعف تارة بأن لا يظهر منه قصد التعميم ويظهر ذلك بأن يكثر المخرج منه ويتطرق إليه تخصيصات كثيرة فإن دلالة قوله لاتبيعوا البر بالبر على تحريم بيع الأرز أظهر من دلالة قوله تعالى وأحل الله البيع على إباحة بيعه متفاضلا ودلالة تحريم الخمر على تحريم النبيذ بقياس الإسكار أغلب في الظن من دلالة قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه على إباحته فإذا تقابل الظنان وجب تقديم أقواهما كالعمل في العمومين والقياسين
المتقابلين ثم القائلون بهذا اختلفوا في القياس الجلي ففسره قوم بأنه قياس العلة والخفي بقياس الشبه وقيل الجلي ما يظهر فيه المعنى كقوله عليه السلام لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان وتعليل ذلك بما يدهش الفكر حتى يجري ذلك في الجائع وقال عيسى بن أبان يجوز ذلك في العام المخصوص دون غيره لضعف العام بالتخصيص وحكاه القاضي عن أبي حنيفة
وجه الأول أن صيغة العموم محتملة للتخصيص معرضة له والقياس غير محتمل فيفضي به على المحتمل كالمجمل مع المفسر
فأما حديث معاذ فإن كون هذه الصورة مرادة باللفظ العام غير مقطوع به والقياس يدلنا على أنها غير مرادة ولهذا جاز ترك عموم الكتاب بخبر الواحد وبالخبر المتواتر اتفاقا
ورتبة السنة بعد رتبة الكتاب في الخبر
والسنة لا يترك بها الكتاب لكن تكون مبينة له والتبيين يكون تارة باللفظ وتارة بمعقول اللفظ وقولهم إن الظنون المستفادة من النصوص أقوى فلا نسلم ذلك على الإطلاق وقولهم لا يترك الأصل بالفرع
قلنا هذا القياس فرع نص آخر لا فرع النص المخصوص به والنص يخص تارة بنص آخر وتارة بمعقول النص ثم يلزم أن لا يخصص عموم القرآن بخبر الواحد وقولهم هو منطوق به
قلنا كونه منطوقا به أمر مظنون فإن العام إذا أريد به الخاص كان نطقا بذلك القدر وليس نطقا بما ليس بمراد ولهذا جاز التخصيص بدليل العقل
القاطع مع أن دليل العقل لا يقابل النص الصريح من الشارع لأن الأدلة لا تتعارض
فصل في تعارض العمومين إذا تعارض عمومان فأمكن الجمع بينهما بأن يكون أحدهما أخص من الآخر فيقدم الخاص أو يكون أحدهما يمكن حمله على تأويل الصحيح والآخر غير ممكن تأويله فيجب التأويل في المؤول ويكون الآخر دليلا على المراد منه جمعا بين الحديثين إذ هو أولى من إلغائهما وإن تعذر الجمع بينهما لتساويهما ولكونهما متناقضين كما لو قال من بدل دينه فاقتلوه من بدل دينه فلا تقتلوه فلا بد أن يكون أحدهما ناسخا للآخر فإن أشكل التاريخ طلب الحكم من دليل غيرهما
وكذلك لو تعارض عمومان كل واحد عام من وجه خاص من وجه مثل قوله عليه السلام من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإنه يتناول الفائتة بخصوصها ووقت النهي بعمومه مع قوله لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس يتناول الفائتة بعمومه والوقت بخصوصه
وقوله من بدل دينه فاقتلوه مع قوله نهيت عن قتل النساء فهما سواء لعدم ترجيح أحدهما على الآخر فيتعارضان ويعدل الى دليل غيرهما
وقال قوم لا يجوز تعارض عمومين خاليين عن دليل الترجيح لأنه يؤدي إلى وقوع الشبهة وهو منفر عن الطاعة
قلنا بل ذلك جائز ويكون مبينا للعصر الأول وإنما خفي علينا لطول المدة واندراس القرائن واللأدلة ويكون ذلك محنة وتكليفا علينا لنطلب دليلاآخر ولا تكليف في حقنا إلا بما بلغنا وأما التنفير فباطل فقد نفر طائفة من الكفار من النسخ ثم لم يدل ذلك على استحالته والله أعلم
فصل
في الاستثناء
صيغته إلا وغير وسوى وعدا وليس ولا يكون وحاشا وخلا وأمرالباب إلا
وحده أنه قول ذو صيغة متصل يدل على أن المذكور معه غير مراد بالقول الأول ويفارق الاستثناء التخصيص بشيئين
أحدهما في اتصاله
والثاني أنه يتطرق إلى النص كقوله عشرة إلا ثلاثة والتخصيص بخلافه ويفارق النسخ أيضا في ثلاثة أشياء
أحدها في اتصاله
والثاني أن النسخ رافع لما دخل تحت اللفظ والاستثناء يمنع أن يدخل تحت اللفظ ما لولاه لدخل
والثالث أن النسخ يرفع جميع حكم النص والاستثناء إنما يجوز في البعض
شروط الاستثناء
فصل ويشترط في الاستثناء ثلاثة شروط أحدها أن يتصل بالكلام بحيث لا يفصل بينهما كلام ولا سكوت يمكن الكلام فيه لأنه جزء من الكلام يحصل به الإتمام فإذا انفصل لم يكن إتماما كالشرط وخبر المبتدأ فإنه لو قال أكرم من دخل داري ثم قال بعد شهر إلا زيدا لم يفهم كما لو قال زيد ثم قال بعد شهر قائم لم يعد خبرا وكذلك الشرط
وحكي عن ابن عباس أنه يجوز أن يكون منفصلا وعن عطاء والحسن جواز تأخيره ما دام في المجلس وأومأ إليه أحمد رحمه الله في الاستثناء في اليمين والأولى ما ذكرناه
الشرط الثاني أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه فأما الاستثناء من غير الجنس فمجاز لا يدخل في الإقرار ولو أقر بشيء واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلا وهذا قول بعض الشافعية
وقال بعضهم ومالك وأبو حنيفة وبعض المتكلمين يصح لأنه قد جاء في القرآن واللغة الفصيحة قال الله تعالى لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم و وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وقال الشاعر ... وما بالربع من أحد ... إلا أوارى ... ويلدة ليس
بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس ...
ومثله كثير ولنا أن الاستثناء إخراج بعض ما يتناوله المستثنى منه بدليل أنه مشتق من قولهم ثنيت فلانا عن رأيه وثنيت العنان فيشعر بصرف الكلام عن صوبه الذي كان يقتضيه سياقه فإذا ذكر ما لا دخول له في الكلام الأول لولا الاستثناء فما صرف الكلام ولا ثناه عن وجه استرساله فتكون تسميته استثناء تجوزا باللفظ عن موضعه وتكون إلا ههنا بمعنى لكن قال هذا ابن قتيبة وقال هو قول سيبويه وقاله غيرهما من اهل العربية وإذا
كانت بمعنى لكن لم يكن لها في الإقرار معنى فلم يصح أن ترفع شيئا منه فتكون لاغية فإن لكن إنما تدخل للاستدراك بعد الجحد والإقرار ليس بجحد فلا يصح فيه ولذلك لم يأت الاستثناء المنقطع في إثبات بحال
الشرط الثالث أن يكون المستثنى أقل من النصف وفي استثناء النصف وجهان وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين يجوز استثناء الأكثر ولا نعلم خلافا في أنه لا يجوز الكل واحتج من جوزه أي جوز الأكثر بقوله فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين وقال في أخرى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فاستثنى كل واحد منهما من الآخر وأيهما كان الأكثر حصل المقصود وقال الشاعر ... أدوا التي نقصت تسعين من مائة ... ثم ابعثوا حكما بالحق قواما ...
ولأنه إذا جاز استثناء الأقل جاز استثناء الأكثر
ولأنه رفع بعض ما تناوله اللفظ فجاز في الأكثر كالتخصيص
ولنا أن الاستثناء لغة وأهل اللغة نفوا ذلك وأنكروه
قال أبو اسحق الزجاج لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير
وقال ابن جني لو قال قائل مائة إلا تسعة وتسعين ما كان متكلما بالعربية وكان كلامه عيا من الكلام ولكنة
وقال القتيبي يقال صمت الشهر كله إلا يوما واحدا ولا يقال صمت الشهر إلا تسعة وعشرين يوما ويقول لقيت القوم جميعهم إلا واحدا أو اثنين ولا يجوز أن يقول لقيت القوم إلا أكثرهم إذ ثبت أنه ليس من اللغة فلا يقبل ولو جاز هذا لجاز في كل ما كرهوه وقبحوه وأما الآية التي احتجوا بها فقد أجيب عن احتجاجهم منها بأجوبة
منها أنه استثنى في إحدى الآيتين المخلصين من بني آدم وهم الأقل وفي الآخرى استثنى الغاوين ومن جميع العباد وهم الأقل فإن الملائكة من عباد الله قال تعالى بل عباد مكرمون وهم غير غاوين
ومنها أنه استثناء منقطع في قوله إلا من اتبعك من الغاوين بمعنى لكن بدليل أنه قال في آية أخرى وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم
وأما البيت فليس فيه استثناء مع أنه قد قال ابن فضالة النحوي هذا بيت مصنوع ولم يثبت عن العرب
وأما القياس في اللغة فغير جائز ولو كان جائزا فهو جمع بغير علة ومثل هذا لو جاز استثناء البعض جاز استثناء الكل ويعارضه بأنه إذا لم يجز استثناء الكل فلا يجوز استثناء الأكثر والفرق بين القليل والكثير أن العرب استعملته في القليل دون الكثير فلا يقاس في لغتهم ما أنكروه على ما حسنوه وجوزوه
الجمل بعد الاستثناء
فصل إذا تعقب الاستثناء جملا كقوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم
يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا وقول النبي صلى الله عليه و سلم لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه رجع الاستثناء إلى جميعها وهو قول أصحاب الشافعي
وقال الحنفية يرجع إلى أقرب المذكورين لأمور ثلاثة
أحدها أن العموم يثبت في كل صورة بيقين وعود الاستثناء إلى جميعها مشكوك فيه فلا يزول أي العموم المتيقن بالشك
الثانية أن الاستثناء إنما وجب رده إلى ما قبله ضرورة أنه لا يستقل بنفسه فإذا تعلق بما يليه فقد استقل وأفاد فلا حاجة إلى تعليقه بما قبل ذلك فلو تعلق به صار كالاستثناء من الاستثناء
والثالثة أن الجملة مفصول بينها وبين الأولى فأشبه مالو فصل بينهما بكلام آخر
وأدلتنا ثلاثة
أحدها أن الشرط إذا تعقب جملا عاد إلى جميعها كقوله نسائي طوالق وعبيدي أحرار إن كلمت زيدا فكذلك الاستثناء فإن الشرط والاستثناء
شيئان في تعلقهما بما قبلهما وبغيرهما له ولهذا يسمى التعليق بشرط مشيئة الله استثناء فما يثبت لأحدهما يثبت في الآخر فإن قيل الفرق بينهما أن الشرط رتبته التقديم بخلاف الاستثناء قلنا إذا تأخر الشرط فلا فرق بينهما ثم إن كان متقدما فلم لا يتعلق بالجملة الأولى دون ما بعدها فإذا تعلق بجميع الجمل تقدم أو تأخر فكذلك الاستثناء فإنه مساو للشرط في حال تأخره
الثاني اتفاق أهل اللغة على أن تكرار الاستثناء عقيب كل جملة عي ولكنة ولو لم يعد الاستثناء إلى الجميع لم يقبح ذلك بل كان متعينا لازما فيما يريد فيه الاستثناء من جميع الجمل
الثالث أن العطف بالواو يوجب نوعا من الاتحاد بين المعطوف والمعطوف عليه فتصيرالجمل كالجملة الواحدة فيصير كأنه قال اضرب الجماعة الذين هم قتلة وسراق إلا من تاب
وقولهم إن التعميم مستيقن ممنوع فإن العموم والإطلاق لا يثبت قبل تمام الكلام وما تم حتى أردف باستثناء يرجع إليه ثم يبطل بالشرط والصفة وقد سلم أكثرهم ذلك ولما ذكر الله تعالى خصال كفارة اليمين الثلاثة ثم قال فمن لم يجد رجع ذلك إلى جميعها وقولهم إن الاستثناء إنما تعلق بما قبله ضرورة ممنوع بل إنما رجع إلى ما قبله لصلاحيته ثم يبطل أيضا بالشرط والصفة أما الاستثناء من الاستثناء فلم يكن عودة إلى الأولى لأن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي فتعذر النفي من النفي وهكذا كل ما فيه قرينة تصرفه عن الرجوع لا يرجع إلى الأول كقوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا لا يعود إلى التحرير لأن صدقتهم إنما تكون بمالهم فالعتق ليس حقا لهم
الشرط
فصل الشرط ما لا يوجد المشروط مع عدمه ولا يلزم أن يوجد عند وجوده
والعلة ما يلزم من وجودها وجود المعلول ولا يلزم من عدمها عدمه في الشرعيات
والشرط عقلي وشرعي ولغوي
فالعقلي كالحياة للعلم والعلم للإرادة
والشرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم
واللغوي كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق وإن جئتني أكرمتك مقتضاه في اللغة اختصاص الإكرام بالمجيء فينزل منزلة التخصيص والاستثناء والاستثناء والشرط يغير الكلام عما كان يقتضيه لولاه حتى يجعله متكلما بالباقي لا أنه يخرج من الكلام ما دخل فيه فإنه لو دخل لما خرج فإذا قال أنت طالق إن دخلت الدار معناه أنك عند الدخول طالق وقوله على عشرة إلا ثلاثة معناه له على سبعة فإنه لو ثبت له عليه عشرة لما قدر على إسقاط ثلاثة ولو قدر على ذلك بالكلام المتصل لقدر عليه بالمنفصل فيصير موضوع الكلام ذلك فقوله تعالى ويل للمصلين لا حكم له قبل إتمام الكلام فإذا تم كان الكلام مقصورا على من وجد منه السهو والرياء لا أنه دخل فيه كل مصل ثم خرج البعض كذلك الاستثناء والشرط
المطلق والمقيد
فصل المطلق هو التناول لواحد لا بعينه باعتباره حقيقة شاملة لجنسه وهي النكرة في سياق الأمر كقوله تعالى
فتحرير رقبة وقد يكون في الخبر كقوله عليه السلام لا نكاح إلا بولي والمقيد هو المتناول لمعين أو لغير معين موصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه كقوله تعالى وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين قيد الرقبة بالإيمان والصيام بالتتابع وقد يكون اللفظ مطلقا مقيدا بالنسبة كقوله رقبة مؤمنة مقيدة بالإيمان مطلقة بالنسبة إلى السلامة وسائر الصفات ويسمى الفعل مطلقا نظرا إلى ما هو من ضرورته من الزمان والمكان والمصدر والمفعول به والآلة فيما يفتقر إلى الآلة والمحل للأفعال المتعدية وقد يتقيد بأحدها دون بقيتها والله أعلم
أقسام ورود المطلق والمقيد وحكم كل
فصل إذا ورد لفظان مطلق ومقيد فهو على ثلاثة أقسام
القسم الأول أن يكونا في حكم واحد كقوله عليه السلام لا نكاح إلا بولي وقال لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فيجب حمل المطلق على المقيد وقال أبو حنيفة لا يحمل عليه لأنه نسخ فإن الزيادة على النص نسخ فلا سبيل إلى النسخ بالقياس وقد بينا فساد هذا فإن قوله فتحرير رقبة ليس بنص في إجزاء الكفارة بل هو مطلق يعتقد ظهور عمومه مع تجويز الدليل على خصوصه والتقييد صريح في الاشتراط فيجب تقديمه
القسم الثاني أن يتحد الحكم ويختلف السبب كالعتق في كفارة الظهار والقتل قيد الرقبة في كفارة القتل بالإيمان وأطلقها في الظهار فقد روى عن احمد رحمه الله ما يدل على أن المطلق لا يحمل على المقيد وهو اختيار أبي اسحاق بن شاقلا وهو قول جل الحنفية وبعض الشافعية واختار القاضي حمل المطلق على المقيد وهو قول المالكية وبعض الشافعية لأن الله تعالى قال وأشهدوا ذوي عدل منكم وقال في المداينة
واستشهدوا شهيدين من رجالكم ولم يذكر عدلا ولا يجوز إلا عدل فظاهر هذا حمل المطلق على المقيد ولأن العرب تطلق في موضع وتقيد في موضع آخر فيحمل أحدهما على صاحبه كما قال ... نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف ...
وقال آخر ... وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني ... أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني ...
وقال أبو الخطاب يبني عليه من جهة القياس لأن تقييد المطلق كتخصيص العموم وذلك جائز بالقياس الخاص على ما مر فإن كان ثم مقيدان بقيدين مختلفين ومطلق الحق بأشبههما به وأقربهما إليه ومن نصر الأول قال هذا تحكم محض يخالف محض وضع اللغة إذ لا يتعرض القتل للظهار فكيف يرفع الإطلاق الذي فيه والأسباب المختلفة تختلف في الأكثر شروط واجباتها ثم يلزم من هذا تناقض فإن الصوم مقيد بالتتابع في الظهار وبالتفريق في الحج حيث قال تعالى ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم
ومطلق في اليمين فعلى أيهما يحمل وفي المواضع التي استشهدوا بها كان التقييد بأمر آخر والله أعلم
القسم الثالث أن يختلف الحكم فلا يحمل المطلق على المقيد سواء اختلف السبب أو اتفق كخصال الكفارة إذ قيد الصيام بالتتابع وأطلق الإطعام لأن القياس من شرطه اتحاد الحكم والحكم ههنا مختلف
باب في الفحوى والإشارة
فصل فيما يقتبس من الألفاظ من فحواها وإشارتها لا من صيغها وهي خمسة أضرب
الأول يسمى اقتضاء وهو ما يكون من ضرورة اللفظ وليس بمنطوق به إما ألا يكون المتكلم صادقا إلابه كقوله لا عمل إلا بنية أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا بدونه كقوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة أي فأفطر فعدة كقولهم اعتق عبدك عني وعلي ثمنه يتضمن الملك ويقتضيه ولو لم ينطق به أو من حيث يمتنع وجوده عقلا كقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم يتضمن إضمار الوطء ويقتضيه ويجوز أن يلقب هذا بالإضمار ويقرب من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه
الضرب الثاني فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب كقوله تعالى السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما يفهم منه كون السرقة علة
وليس بمنطوق به ولكن يسبق إلى الفهم من فحوى الكلام وكذا قوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم أي لبرهم وإن الفجار لفي جحيم أي لفجورهم وهذا قد يسمى إيماء وإشارة وفحوى الكلام ولحنه وإليك الخيرة في تسميته
الضرب الثالث التنبيه وهو فهم الحكم في المسكوت من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده ومعرفة وجود المعنى في المسكوت بطريق الأولى كفهم تحريم الشتم والضرب من قوله تعالى فلا تقل لهما أف ولا بد من معرفتنا المعنى في الأدنى ومعرفة وجوده في الأعلى فلولا معرفتنا أن الآية سيقت للتعظيم للوالدين لما فهمنا منع القتل إذ يقول السلطان إذا أمر بقتل ملك لمنازعته له في ملكه اقتله ولا تقل له أف ويسمى مفهوم الموافقة وفحوى اللفظ
واختلف أصحابنا في تسميته قياسا فقال أبو الحسن الخرزي وبعض الشافعية هو قياس لأنه إلحاق المسكوت بالمنطوق في الحكم لاجتماعهما في المقتضى وهذا هو القياس وإنما ظهر فيه المعنى فسبق إلى الفهم من غير تأمل فأشبه القياس فيما ظهرت العلة فيه بنص أو غيره مثل قياس الجوع المفرط على الغضب في المنع من الحكم لكونه يمنع كمال الفكر وقياس الزيت على السمن في حكم النجاسة إذا وقعت الفأرة فيه حال جموده أو كونه مائعا بغير الفأرة
وقال القاضي أبو يعلي والحنفية وبعض الشافعية ليس بقياس إذ هو
مفهوم من اللفظ من غير تأمل ولا استنباط بل يسبق إلى الفهم حكم المسكوت مع المنطوق من غير تراخ إذ كان هو الأصل في القصد والباعث على النطق وهو أولى في الحكم ومن سماه قياسا سلم أنه قاطع فلا تضر تسميته قياسا
وقد يلتحق بهذا الفن ما يشبهه من وجه ولا يفيد القطع كقولهم إذا ردت شهادة الفاسق فالكافر أولى لأن الكفر فسق وزيادة فهذا ليس بقاطع إذ لا يبعد أن يقال الفاسق متهم في دينه والكافر يحترز من الكذب لدينه
وأما الفاسد من هذا الضرب فنحو قولهم إذا جاز السلم في المؤجل في الحال أجوز ومن الغرر أبعد فإنه لا بد من اشتراكهما في المقتضى وليس المقتضى لصحة السلم المؤجل بعده من الغرر ليلتحق به الحال بل الغرر مانع احتمل في المؤجل والحكم لا يصح لعدم مانعه بل لوجود مقتضيه ولو كان بعده من الغرر علة الصحة فما وجدت في الأصل فكيف يصح الإلحاق
الضرب الرابع دليل الخطاب ومعناه الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عن ما عداه ويسمى مفهوم المخالفة لأنه فهم مجرد لا يستند إلى منطوق وإلا فما دل عليه المنطوق أيضا مفهوم وأمثاله ومن قتله منكم متعمدا و في سائمة الغنم الزكاة يدل على انتفاء الحكم في المخطىء والمعلوفة وهذا حجة في قول إمامنا والشافعي ومالك وأكثر المتكلمين
وقالت طائفة منهم أبو حنيفة لا دلالة له لأمور خمسة
أحدها أنه يحسن الاستفهام فلو قال من ضربك عامدا فاضربه حسن أن تقول فإن ضربني خاطئا هل أضربه ولو دل على النفي لما حسن الاستفهام فيه كالمنطوق
الثاني أن العرب تعلق الحكم على الصفة مع مساواة المسكوت عنه كقوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من
مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به فالمسكوت أيضا محتمل للمساواة وعدمها فلا سبيل إلى دعوى النفي بالتحكم
الثالث أن تعليقه الحكم على اللقب والاسم العلم لا يدل على التخصيص ومنع ذلك بهت واختراع على اللغات إذ يلزم منه أن يكون قوله زيد عالم كفرا لأنه نفى العلم عن الله وملائكته ويلزم من قوله محمد رسول الله نفى الرسالة عن غيره وذلك كفر
الرابع أنه كما أن للعرب طريقا إلى الخبر عن مخبر واحد أو اثنين مع السكوت عن الباقي فلها طرق في الخبر عن الموصوف بصفة فنقول رأيت الظريف وقام الطويل فلو قال بعد والقصير لم يكن مناقضة
الخامس أن التخصيص للمذكور بالذكر قد يكون لفائدة سوى تخصيص الحكم به فمنها توسعة مجاري الاجتهاد لينال المجتهد فضيلته ومنها الاحتياط عن المذكور بالذكر كيلا يفضي اجتهاد ببعض الناس إلى إخراجه عن عموم اللفظ بالتخصيص ومنها تأكيد الحكم في المسكوت لكون المعنى فيه أقوى كالتنبيه ومنها معان لا يطلع عليها فلا سبيل إلى دعوى عدم الفائدة بالتحكم فلا ينكر الفرق بين ال 2 منطوق والمسكوت لكن من حيث أن الأصل عدم الحكم في الكل فبالذكر يبين ثبوته في المذكور وبقي المسكوت عنه على ما كان عليه لم يوجد في اللفظ نفي له ولا إثبات له فإذا لا دليل في
اللفظ على المسكوت بحال وعماد الفرق نفي وإثبات فمستند الإثبات الذكر الخاص ومستند النفي الأصل والذهن إنما ينبه على الفرق عند الذكر الخاص فيسبق إلى الأوهام العامية أن الاختاص والفرق من الذكر لكن أحد طرفي الفرق حصل من الذكر والآخر كان حاصلا في الأصل وهذا دقيق لأجله غلط الآكثرون
ولنا دليلان أحدهما أن فصحاء أهل اللغة يفهمون من تعليق الحكم على شرط أو وصف انتفاء الحكم بدونه بدليل ما روى يعلى بن أمية قال قلت لعم بن الخطاب ألم يقل الله تعالى ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته رواه مسلم فقد فهما من تعليق إباحة القصر على حالة الخوف وجوب الإتمام حال الأمن وعجبا من ذلك فإن قيل الإتمام واجب بحكم الأصل فلما استثني حالة الخوف بقيت حالة الأمن على مقتضاه فلذلك عجبا حيث خولف الأصل
ثم الآية حجة لنا فإنه لم يثبت انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط فدل على انتفاء الدليل
قلنا ليس في القرآن آية تدل على وجوب التمام بل قد روى عن عمر
وهو صاحب القصة وعائشة وابن عباس أن الصلاة إنما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر فدل على أن فهمهم وجوب الإتمام وتعجبهم إنما كان لمخالفة دليل الخطاب وإنما ترك دليل الخطاب لدليل آخر كما قد يخالف العموم ولما قال النبي صلى الله عليه و سلم يقطع الصلاة الكلب الأسود قال عبدالله بن الصامت لأبي ذر ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر فقال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم كما سألتني فقال الكلب الأسود شيطان ففهما من تعليق الحكم على الموصوف بالسواد انتفاءه عما سواه ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عما يلبس المحرم من الثياب فقال لا يلبس القميص ولا السراويلات ولا البرانس فلولا أن تخصيصه المذكور بالذكر يدل على إباحة لبس ما سواه لم يكن جوابا للسائل عما يجوز للمحرم لبسه
الدليل الثاني أن تخصيص الشيء بالذكر لا بد له من فائدة فإن استوت السائمة والمعلوفة فلم خص السائمة بالذكر من عموم الحكم والحاجة إلى
البيان شاملة للقسمين بل لو قال في الغنم الزكاة لكان أخصر في اللفظ وأعم في بيان الحكم فالتطويل لغير فائدة يكون لكنة في الكلام وعيا فكيف إذا تضمن تقوية بعض المقصود فظهر أن القسم المسكوت عنه غير مساو للمذكور في الحكم
اعترضوا عليه من أربعة وجوه
أحدها أنكم جعلتم طلب الفائدة طريقا إلى معرفة الوضع وينبغي أن يعرف الوضع ثم تترتب عليه الفائدة أما أن يكون الوضع يتبع معرفة الفائدة فلا
الثاني لم قلتم إنه لا فائدة سوى اختصاص الحكم فلئن قلتم ما علمنا له فائدة قلنا فلعل ثم فائدة لم تعثروا عليها وعدم العلم بعدم الفائدة ليس علما بعدمها
الثالث يبطل بمفهوم اللقب فلم لم يقولوا إن تخصيص الأشياء الستة في الربا يوجب اختصاصها به وأن تخصيص سائمة الغنم يمنع وجوبها في بقية المواشي
الرابع أن في التخصيص فائدة سوى ما ذكرتم على ما قدمنا ويحتمل ان السؤال وقع عنها أو اتفقت المعاملة فيها أو غير ذلك من أسباب لا يطلع عليها
الجواب أما الأول فغير صحيح فإن الاستدلال على الشيء بآثاره وثمراته جائز غير ممتنع في طرفي النفي والإثبات فإننا استدللنا على عدم الاشتراك في الصور المتنازع فيها بإخلاله بمقصود الوضع وهو التفاهم واستدللنا على عدم إله ثان بعدم وقوع الفساد فإذ قد علمنا أن كلام الله تعالى لا يخلو من الفائدة وأنه لا فائدة للتخصيص سوى اختصاصه بالحكم فيلزم منه ذلك ضرورة
وأما الثاني فإن قصر الحكم عليه فائدة متيقنة وما سواها امر موهوم يحتمل العدم والوجود فلا يترك المتيقن لأمر موهوم كيف والظاهر عدمها إذ لو كان ثمة فائدة لم تخف على الفطن العالم بدقائق الكلام مع بحثه وشدة عنايته فجرى هذا مجرى الاستدلال باستصحاب الحال المشروط بعدم الدليل الشرعي
وأما مفهوم اللقب فقد قيل إنه حجة ثم الفرق بينهما ظاهر وهو أن تخصيص اللقب يحتمل حمله على أنه لم يحضره ذكر المسكوت عنه وهذا يبعد فيما إذا ذكر أحد الوصفين المتضادين لأن ذكر الصفة يذكر ضدها وهو منتف بالكلية فيما إذا ذكر الوصف العام ثم وصفه بالخاص فظهر احتمال المفهوم
وأما الثالث فباطل فإن النبي صلى الله عليه و سلم بعث للبيان والتعليم والتبيين للأحكام من المقاصد الأصلية التي بعث لها والاجتهاد ثبت ضرورة لعدم إمكان بناء كل الأحكام على النصوص فلا تظن أن النبي صلى الله عليه و سلم ترك ما بعث له لتوسعة مجاري الضرورات ثم يفضي إلى محذور هو نفي الحكم في الصورة التي هو ثابت فيها
وأما الفائد الثانية والثالثة فلا تحصل لأن الكلام فيما إذا كان المسكوت أدنى في المعنى من المنطوق في المقتضى او مماثلا له فالتخصيص إذا يكون بعيدا وأما إذا كان المسكوت أعلى في المعنى فهو التنبيه وقد سبق الكلام فيه
وقولهم يحسن الاستفهام عنه ممنوع وأما إذا قال من ضربك متعمدا فاضربه فلا يحسن أن يقال من ضربني خاطئا هل أضربه لكن يحسن أن يقال فالخاطىء ما حكمه أو ما أصنع به وهذا غير ما دل عليه الخطاب ولو سلمنا فيحسن الاستفهام ليستفيد التأكيد في معرفة الحكم كما يحسن
الاستفهام في بعض صور العموم وقولهم إن العرب تعلق الحكم على ما ينبغي عند عدمه
قلنا لا ننكر هذا إذا ظهر للتخصيص فائدة سوى اختصاص الحكم به إما لكونه الأغلب أو غير ذلك والكلام فيما لم يظهر له فائدة والله أعلم
درجات أدلة الخطاب
فصل أعلم أن ها هنا صورا أنكرها منكر والمفهوم بناء على أنها منه وليست منه وهي ثلاثة
الأولى قوله لا عالم إلا زيد فهذا أنكره غلاة منكري المفهوم وقالوا هو نطق بالمستثنى وسكوت عن المستثنى منه فما خرج بقوله إلا فمعناه أنه لم يدخل في الكلام فصار الكلام مقصورا على الباقي والمستثنى غير متعرض له بنفي ولا إثبات وهذا فاسد فإن هذا صريح في الإثبات والنفي فمن قال لا إله إلا الله مثبت للإلهية ناف لها عمن سواه
وقولهم لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي نفي وإثبات يقينا وذلك لأن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي فهذا من صريح اللفظ لا من مفهومه
فأما قوله لا صلاة إلا بطهور و لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء فإن هذه صيغة الشرط ومقتضاها نفي الصلاة عند انتفاء الطهارة
وأما وجودها عند وجودها فليس منطوقا بل هو على وفق قاعدة المفهوم فإن نفي شيء عند انتفاء شيء لا يدل على إثباته عند وجوده بل يبقى كما كان قبل النطق فالمنطوق به الانتفاء عند النفي فقط فإن قوله لا صلاة ليس فيه تعرض للطهارة بل للصلاة فقط وقوله إلا بطهور إثبات للطهور الذي لم يتعرض له الكلام فلم يفهم منه إلا الشرط
الصورة الثانية قوله انما الولاء لمن أعتق فهذا قد أصر أصحاب أبي حنيفة وبعض منكري المفهوم على إنكاره وقالوا هو إثبات فقط لا يدل على الحصر لأن إنما مركبة من إن وما وإن للتوكيد وما زائدة كافة فلا تدل على نفي كما لو قال إنما النبي محمد وهذا فاسد فإن لفظة إنما موضوعة للحصر والإثبات تثبت المذكور وتنفي ما عداه لأنها مركبة من حرفي نفي وإثبات أن للإثبات وما للنفي فتدل عليهما ولذلك لا تستعمل في موضع لا يحسن فيه النفي والاستثناء منه كقوله إنما الله إله واحد و إنما يخشى الله من عباده العلماء و إنما أنا منذر كما قال وما أنا إلا نذير وقول النبي صلى الله عليه و سلم إنما الأعمال بالنيات مثل قوله لا عمل إلا بنية وقال الشاعر
أنا الرجل الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ...
وقولهم إنما إثبات فقط غير صحيح وقولهم إنما النبي محمد فهذا اختراع على اللغة لم يسمع به بل لو قال إنما العالم زيد ساغ ذلك مجازا لتأكيد العلم في زيد كما قال لا فتى إلا علي يريد بذلك تأكيد الفتوة فيه وهذا مجاز لا نترك الحقيقة له إلا بدليل فالقول فيه كالقول في الاستثناء بإلا من النفي بلا فرق
الصورة الثالثة قوله عليه السلام الشفعة فيما لم يقسم وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم وهذا يلتحق بالصورة التي قبله وإن كان دونه في القوة ووجهه أن الإسم المحلي بالألف واللام يقتضي الأستغراق وأن خبر المبتدأ يكون مساويا للمبتدأ كقولنا الإنسان بشر أو أعم منه كقولنا الإنسان حيوان
ولا يجوزأن يكون اخص منه كقولنا الحيوان إنسان فلو جعلنا التسليم أخص من تحليل الصلاة كان خلاف موضوع اللغة ولو جعلنا الشفعة فيما يقسم لم يكن كل الشفعة منحصرا فيما لم يقسم وهو خلاف الموضوع
فأما ما هو من دليل الخطاب فعلى درجات ست
أولها مد الحكم إلى غاية بصيغة إلى أو حتى كقوله تعالى حتى تنكح زوجا
غيره ثم أتموا الصيام إلى الليل أنكره بعض منكري المفهوم لأن النطق إنما هو بما قبل الغاية وما بعدها مسكوت عنه وكل ما له ابتداء فغايته مقطع ابتدائه فيرجع الحكم بعد الغاية إلى ما كان قبل البداية وقبل البداية لم يكن فيه دليل على نفي ولا إثبات فليكن بعدها كذلك
ولنا مع ما سبق من الأدلة أن حتى تنكح ليس بمستقل ولا يصح حتى يتعلق بقوله فلا تحل له ولا بد فيه من إضمار وهو حتى تنكح زوجا غيره فتحل له ولهذا يقبح الاستفهام لو قال قائل فإن نكحت هل تحل له ولأن الغاية نهاية ونهاية الشيء مقطعه فإن لم يكن مقطعا فليس بنهاية ولا غاية
الدرجة الثانية التعليق على شرط كقوله تعالى وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن أنكره قوم لأنه يجوز تعليق الحكم بشرطين كما يجوز بعلتين فإن قوله أحكم بالمال إن شهد به شاهدان لا يمنح الحكم به بالإقرار وبالشاهد واليمين ولا يكون نسخا ولهذا جوزناه بخبر الواحد
ولنا ما سبق وتعليقه بشرطين لأن كل واحد منهما يقوم مقام الآخر في ثبوت الحكم به لا يمنع من انتفاء الحكم عند انتفائهما كما لو صرح فقال لا تحكم إلا بشاهدين أو إقرار وجوزناه بخبر الواحدلأنه تخصيص وتخصيص العام بخبر الواحد جائز
الدرجة الثالثة أن يذكر الاسم ا لعام ثم تذكر الصفة الخاصة في معرض الاستدلال والبيان كقوله في الغنم السائمة الزكاة أو في سائمة الغنم
ومن باع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع فهو حجة أيضا طلبا لفائدة التخصيص وفي معنى هذه الدرجة إذا قسم الاسم إلى قسمين فأثبت في قسم منهما حكما يدل على انتفائه في الآخر إذ لو عمها لم يكن للتقسيم فائدة ومثاله قوله عليه السلام الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن
الدرجة الرابعة أن يخص بعض الأوصاف التي تطرأ وتزول بالحكم كقوله الثيب أحق بنفسها من وليها فيدل على أن ما عداه بخلافه طلبا للفائدة في التخصيص وبه قال جل أصحاب الشافعي واختار التميمي أنه ليس بحجة وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين والفرق بين هذه الصورة وما قبلها أن ذكر الثيب يظهر معه أنه ذكر للبكر ويحتمل الغفلة عن الذكر فصار المفهوم ظاهرا وعند ذكر الوصف الخاص مع العام انقطع احتمال عدم الحضور فصار المفهوم ها هنا أظهر
الدرجة الخامسة أن يخص نوعا من العدد بحكم كقوله لا تحرم المصة ولا المصتان و ليس الوضوء من القطرة والقطرتين
فيدل على أن ما زاد على الإثنين بخلافهما وبه قال مالك وداود وبعض الشافعية وخالف فيه أبو حنيفة وجل أصحاب الشافعي والكلام فيه قد تقدم
الدرجة السادسة أن يخص اسما بحكم فيدل على أن ما عداه بخلافه والخلاف فيها كالخلاف في التي قبلها وأنكره الأكثرون وهو الصحيح لأنه يفضي إلى سد
باب القياس وأن تنصيصه على الأعيان الستة في الربا يمنع جريانه في غيرها ولا فرق بين كون الاسم مشتقا كالطعام أو غير مشتق كأسماء الأعلام والله تعالى أعلم
باب القياس
فصل القياس في اللغة التقدير ومنه قست الثوب بالراع إذا قدرته قال الشاعر يصف جراحة أو شجة ...
إذا قاسها الآسي النطاسي أدبرت ... غثيثها أو زاد وهيا هزومها ...
قاس الجراحة إذا جعل فيها الميل يقدرها به ليعرف غورها
وهو في الشرع حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما وقيل حكمك على الفرع بمثل ما حكمت به في الأصل لاشتراكهما في العلة التي اقتضك ذلك في الأصل وقيل حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بجامع بينهما من إثبات حكم أو صفة لهما أو نفيهما عنهما ومعاني هذه الحدود متقاربة وقيل هو الاجتهاد وهو خطأ فإن الاجتهاد قد يكون بالنظر في العمومات وسائر طرق الأدلة وليس بقياس ثم لا ينبى في
العرف إلا عن بذل الجهد إذ من حمل خردلة لا يقال اجتهد وقد يكون القياس جليا لا يحتاج إلى استفراغ الجهد وبذل الوسع
ولا بد في كل قياس من أصل وفرع وعلة وحكم فأما إطلاق القياس على المقدمتين اللتين يحصل منهما نتيجة فليس بصحيح لأن القياس يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر ويقدر به فهو اسم إضافي بين شيئين على ما ذكرناه في اللغة
فصل في العلة ونعني بالعلة مناط الحكم وسميت علة لأنها غيرت حال المحل أخذا من علة المريض لأنها اقتضت تغير حاله والاجتهاد في العلة على ثلاثة أضرب
تحقيق المناط للحكم وتنقيحه وتخريجه
أما تحقيق المناط فنوعان
أولهما لا نعرف في جوازه خلافا ومعناه أن تكون القاعدة الكلية متفقا عليها أو منصوصا عليها ويجتهد في تحقيقها في الفرع ومثاله قولنا في حمار الوحش بقرة لقوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم فنقول المثل واجب والبقرة مثل فتكون هي الواجب فالأول معلوم بالنص والإجماع وهو وجوب المثلية أما تحقيق المثلية في البقرة فمعلوم بنوع من الاجتهاد ومنه الاجتهاد في القبلة فنقول وجوب التوجه إلى القبلة معلوم بالنص أما أن هذه جهة القبلة فيعلم بالاجتهاد وكذلك تعيين الأمام والعدل ومقدار الكفايات في النفقات ونحوه فليعبر عن هذا بتحقيق المناط إذ كان معلوما لكن تعذر معرفة وجوده في آحاد الصور فاستدل عليه بأمارات
الثاني ما عرف علة الحكم فيه بنص أو إجماع فيبين المجتهد وجودها في الفرع باجتهاده مثل قول النبي صلى الله عليه و سلم في الهر إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات جعل الطواف علة فبين المجتهد باجتهاده الطواف في الحشرات من الفأرة وغيرها ليلحقها بالهر في الطهارة فهذا قياس جلي قد أقر به جماعة ممن ينكر القياس
وأما النوع الأول عن تحقيق المناط فليس ذلك قياسا فإن هذا متفق عليه والقياس مختلف فيه وهذا من ضرورة كل شريعة لأن التنصيص على عدالة كل شخص وقدر كفاية الأشخاص لا يوجد
الضرب الثاني تنقيح المناط وهو أن يضيف الشارع الحكم إلى سببه
فتقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة فيجب حذفها عن الاعتبار ليتسع الحكم ومثاله قوله للأعرابي الذي قال هلكت يا رسول الله قال ما صنعت قال وقعت على أهلي في نهار رمضان قال اعتق رقبة فنقول كونه أعرابيا لا أثر له فيلحق به التركي والعجمي لعلمنا أن مناط الحكم وقاع مكلف لا وقاع الأعرابي إذ التكاليف تعم الأشخاص على ما مضى ويلحق به من أفطر بوقاع في رمضان آخر لعلمنا أن المناط حرمة رمضان لا حرمة ذلك الرمضان وكون الموطوءة منكوحة لا أثر له فإن الزنا أشد في هتك هذه الحرمة فهذه إلحاقات معلومة تبنى على مناط الحكم بحذف ما علم بعادة الشرع في مصادره وموارده وأحكامه أنه لا مدخل له في التأثير وقد يكون بعض الأوصاف مظنونا فيقع الخلاف فيه كالوقاع إذ يمكن أن يقال مناط الكفارة كونه مفسدا للصوم المحترم والجماع آلة الإفساد كما أن السيف آلة للقتل الموجب للقصاص وليس هو من المناط كذا ههنا
ويمكن أن يقال الجماع مما لا تنزجر النفس عنه عند هيجان الشهوة بمجرد وازع الدين فيحتاج إلى كفارة وازعة بخلاف الأكل والمقصود أن هذا نظر في تنقيح المناط بعد معرفته بالنص لا بالاستنباط وقد أقربه أكثر منكري القياس وأجراه أبو حنيفة في الكفارات مع أنه لا قياس فيها عنده
الضرب الثالث تخريج المناط وهو أن ينص الشارع على حكم في محل ولا يتعرض لمناطه أصلا كتحريمه شرب الخمر والربا في البر فيستنبط المناط بالرأي والنظر فيقول حرم الخمر لكونه مسكرا فيقيس عليه النبيذ وحرم
الربا في البر لكونه مكيل جنس فيقيس عليه الأرز وهذا هو الاجتهاد القياسي الذي وقع الخلاف فيه
فصل في إثبات القياس على منكريه قال بعض أصحابنا يجوز التعبد بالقياس عقلا وشرعا وهو واقع شرعا لقول أحمد رحمه الله لا يستغني أحد عن القياس وبه قال عامة الفقهاء والمتكلمين وذهب الشيعة والنظام إلى أنه لا يجوز التعبد به عقلا ولا شرعا فلا يقع وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله فقال يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين المجمل والقياس وتأوله القاضي على قياس يخالف به نصا
وقالت طائفة لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب لكنه في مظنة الجواز عقلا وهو محرم شرعا وهم الظاهرية وقال بعض الشافعية التعبد به شرعا واجب وهو قول طائفة من المتكلمين
وجه قول من قال بالوجوب عقلا وشرعا أن تعميم الحكم واجب ولو لم يستعمل القياس أفضى إلى خلو كثير من الحوادث عن الأحكام لقلة النصوص وكون الصور لا نهاية لها فيجب ردها إلى الاجتهاد ضرورة
قيل يمكن التنصيص على المقدمات الكلية ويبقى الاجتهاد في المقدمات الجزئية فيكون من تحقيق المناط وليس ذلك بقياس وذلك مثل أن ينص
على أن كل مطعوم ربوي وهذه المقدمة الكلية فيبقى الاجتهاد في أن هذا مطعوم أم لا وهذا لا خلاف في جوازه
قلنا إن تصور هذا فليس بواقع فإن أكثر الحوادث ليس بمنصوص على مقدماتها الكلية كميراث الجد وأشباهه فيقتضي العقل أن لا يخلو عن حكم
دليل ثان أن العقل يدل على العلل الشرعية ويدركها إذ مناسبة الحكم عقلية مصلحية يقتضي العقل تحصيلها وورود الشرع بها كالعلل العقلية ولأننا نستفيد بالقياس ظنا غالبا في إثبات الحكم والعمل بالظن الراجح متعين وشبهة المانعين منه عقلا ما مضى في رد خبر الواحد وقد مضى
فأما التعبد به شرعا فالدليل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم على الحكم بالرأي في الوقائع الخالية عن النص
فمن ذلك حكمهم بإمامة أبي بكر رضي الله عنه بالإجتهاد مع عدم النص إذ لو كان ثم نص لنقل وتمسك به المنصوص عليه وقيلسهم العهد على العقد إذ عهد أبو بكر إلى عمر رضي الله عنهما ولم يرد فيه نص لكن قياسا لتعيين الإمام على تعيين الأمة
ومن ذلك موافقتهم أبا بكر رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة بالاجتهاد وكتابة المصحف بعد طول التوقف فيه وجمع عثمان له على ترتيب واحد واتفاقهم على الاجتهاد في مسألة الجد والأخوة على وجوه مختلفة مع قطعهم أنه لا نص فيها وقولهم في المشركة ومن ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه في الكلالة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه الكلالة ما عدا الوالد والولد ونحوه عن ابن مسعود في قضية بروع بنت واشق ومنه حكم الصديق رضي الله
عنه في التسوية بين الناس في العطاء كقوله إنما أسلموا لله وأجورهم عليه وإنما الدنيا بلاغ ولما انتهت النوبة إلى عمر فضل بينهم وقال لا أجعل من ترك داره وماله وهاجر إلى الله ورسوله كمن أسلم كرها ومنه عهد عمر إلى أبي موسى اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور برأيك وقال علي رضي الله عنه اجتمع رأيى ورأي عمر في أمهات الأولاد ألا يبعن وأنا الآن أرى بيعهن وقال عثمان لعمر أن نتبع رأيك فرأي
رشيد وإن نتبع رأي من قبلك فنعم ذو الرأي كان
ومنه قولهم في السكران إذا سكر هذى وإن هذى افترى فحدوه حد المفتري وهذا التفات منهم إلى أن مظنة الشيء تنزل منزلته
وقال معاذ للنبي صلى الله عليه و سلم اجتهد رأيي فصوبه فهذا وأمثاله مما لا يدخل تحت الحصر مشهور وإن لم تتواتر آحاده حصل بمجموعه العلم الضروري أنهم كانوا يقولون بالرأي وما من مفت إلا وقد قال بالرأي ومن لم يقل فلأنه أغناه غيره عن الاجتهاد وما أنكر على القائل به فكان إجماعا فإن قيل فقد نقل عنهم ذم الرأي وأهله فقال عمر رضي الله عنه إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وقال علي رضي الله عنه لو كان
الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقال ابن مسعود رضي الله عنه قراؤكم وصلحاؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤساء جهالا فيقيسون مالم يكن بما كان وقوله إن حكمتم الرأي أحللتم كثيرا مما حرمه الله عليكم وحرمتم كثيرا مما أحله وقول ابن عباس إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم برأيه وقال لنبيه لتحكم بين الناس بما أراك الله ولم يقل بما رأيت وقوله إياكم والمقاييس فما عبدت الشمس إلا بالمقاييس وقال
ابن عمر ذروني من أرأيت وأرأيت
قلنا هذا منهم ذم لمن استعمل الرأي والقياس في غير موضعه أو بدون شرطه فذم عمر رضي الله عنه ينصرف إلى من قال بالرأي من غير معرفة للنص ألا تراه قال أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وإنما يحكم بالرأي في حادثة لا نص فيها فالذم على ترك الترتيب لا على أصل القول بالرأي ولو قدم إنسان القول بالسنة على ما هو أقوى منها كان مذموما وكذلك قول علي رضي الله عنه وكل ذم يتوجه إلى أهل الرأي فلتركهم الحكم بالنص الذي هو أولى كما قال بعض العلماء
... أهل الكلام وأهل الرأي قد جهلوا ... علم الحديث الذي ينجو به الرجل ... لو أنهم عرفوا الآثار ما انحرفوا ... عنها إلى غيرها لكنهم جهلوا ...
جواب ثان أنهم ذموا الرأي الصادر عن الجاهل الذي ليس أهلا للاجتهاد والرأي ويرجع إلى محض الاستحسان ووضع الشرع بالرأي بدليل أن الذين نقل عنهم هذا هم الذين نقل عنهم القول بالرأي والاجتهاد
والقائلون بالقياس مقرون بإبطال أنواع من القياس كقياس أهل الظاهر إذ قالوا الأصول لا تثبت قياسا فكذلك الفروع فإذا إن بطل القياس فليبطل قياسهم
فإن قيل فلعلهم عولوا في اجتهادهم على العموم أو أثر أو استصحاب حال أو مفهوم أو استنباط معنى صيغة من حيث الوضع واللغة في جمع بين آيتين أو خبرين أو يكون اجتهادهم في تحقيق مناط الحكم لا في استنباطه
فقد علموا أنه لا بد من إمام وعرفوا بالاجتهاد من يصلح للتقديم وهكذا في بقية الصور
قلنا لم يكن اجتهاد الصحابة مقصورا على ما ذكروه بل قد حكموا بأحكام لا تصح إلا بالقياس كعهد أبي بكر إلى عمر قياسا للعهد على العقد بالبيعة وقياس الزكاة على الصلاة وقياس عمر الشاهد على القاذف في حد أبي بكرة وإلحاق السكر بالقذف لأنه مظنته
وقد اشتهر اختلافهم في الجد قياسا فقال ابن عباس ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا فأنكر ترك قياس الأبوة على البنوة مع افتراقهما في الأحكام
وصرح من سوى بينهما بأن الأخ يدلي بالأب والجد يدلي به أيضا فالمدلي به واحد والإدلاء مختلف وصرحوا بالتشبيه بالغصنين والخليجين ومن فتش عن اختلافهم في الفرائض وغيرها عرف ضرورة سلوكهم التشبيه والمقايسة وأنهم لم يقتصروا على تحقيق المناط في إثبات الأحكام بل استعملوا ذلك في بقية طرق الاجتهاد
وقد استدل على إثبات القياس بقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وحقيقة الاعتبار مقايسة الشيء بغيره كما يقال اعتبر الدينار بالصنجة وهذا هو القياس
فإن قيل المراد به الاعتبار بحال من عصى أمر الله وخالف رسله لينزجر
ولذلك لا يحسن أن يصرح بالقياس ها هنا فيقول يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فألحقوا الفروع بالأصول لتعرف الأحكام
قلنا اللفظ عام وإنما لم يحسن التصريح بالقياس ههنا لأنه يخرج عن عمومه المذكور في الآية إذ ليس حالنا فرعا لحالهم
دليل آخر قول النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ بم تقضي قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو عن رجال من أهل حمص والحارث والرجال مجهولون قاله الترمذي
ثم إن هذا الحديث ليس بصريح في القياس إذ يحتمل أنه يجتهد في تحقيق المناط
قلنا قد رواه عبادة بن نسي عن عبدالرحمن بن غنم عن معاذ ثم هذا الحديث تلقته الآمة بالقبول فلا يضره كونه مرسلا
والثاني لا يصح لأنه بين أنه يجتهد فيما ليس فيه كتاب ولا سنة
خبر آخر قول النبي صلى الله عليه و سلم إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر رواه مسلم ويتجه عليه أنه يجتهد في تحقيق المناط دون تخريجه
خبر آخر قول النبي صلى الله عليه و سلم للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه قالت نعم قال فدين الله أحق أن يقضى فهو تنبيه على قياس دين الله على دين الخلق وقوله عليه السلام لعمر حين سأله عن القبلة للصائم ثم قال أرأيت لو تمضمضت فهو قياس للقبلة على المضمضة بجامع أنها مقدمة الفطر ولا يفطر وروت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أني أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي وإذا كان يحكم بينهم باجتهاده فلغيره الحكم برأيه إذا غلب على ظنه
احتجوا بقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله تبيانا لكل شيء فما ليس في القرآن ليس بمشروع فيبقى على النفي الأصلي
الثانية قوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله وهذا حكم بغير المنزل وهكذا قوله فردوه إلى الله والرسول وأنتم تردونه إلى الرأي
وأما شبههم المعنوية قالوا براءة الذمة بالأصل معلومة قطعا فكيف
ترفع بالقياس المظنون
والثانية كيف يتصرف بالقياس في شرع مبناه على التحكم والتعبد والفرق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات إذ قال يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام ويجب الغسل من المني والحيض دون المذي والبول ونظائر ذلك كثيرة
الثالثة أن الرسول صلى الله عليه و سلم قد أوتي جوامع الكلم فكيف يليق به أن يترك الوجيز المفهم إلى الطويل الموهم فيعدل عن قوله حرمت الربا في الكيل إلى الأشياء الستة
الرابعة قالوا الحكم ثبت في الأصل بالنص لأنه مقطوع به والحكم مقطوع به فكيف يحال على العلة المظنونة
والحكم يثبت في الفرع بالعلة فكيف يثبت الحكم فيه بطريق سوى طريق الأصل
الخامسة قالوا غاية العلة أن يكون منصوصا عليها وذلك لا يوجب الإلحاق كما لو قال أعتقت من عبيدي سالما لأنه أسود لم يقتض عتق كل أسود ولا يجري ذلك مجرى قوله أعتقت كل أسود كذا قوله حرمت الربا في البر لأنه مطعوم لا يجري مجرى قوله حرمت الربا في كل مطعوم
الجواب أما قوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء فإن القرآن دل على جميع الأحكام لكن إما بتمهيد طريق الاعتبار وإما بالدلالة على الإجماع والسنة وهما قد دلا على القياس فيكون الكتاب قد بينه وإلا فأين
في الكتاب مسألة الجد والإخوة والعول والمبتوتة والمفوضة والتحريم وفيها حكم لله شرعي
ثم قد حرمتم القياس وليس في القرآن تحريمه وقوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله
قلنا القياس ثابت بالإجماع والسنة وقد دل عليه القرآن المنزل ومن حكم بمعنى استنبط من المنزل فقد حكم بالمنزل وقوله تعالى فردوه إلى الله والرسول قلنا نحن لا نرده إلا إلى العلة المستنبطة من كتاب الله تعالى ونص رسوله فالقياس عبارة عن تفهم معاني النصوص بتجريد مناط الحكم وحذف الحشو الذي لا أثر له في الحكم ثم أنتم رددتم القياس بلا نص ولا معنى نص
وقولهم كيف ترفعون القواطع بالظنون
قلنا كما ترفعونه بالظواهر والعموم وخبر الواحد وتحقيق المناط في آحاد الصور
ثم نقول لا نرفعه إلا بقاطع فإنا إذا تعبدنا باتباع العلة المظنونة فإنا نقطع بوجود الظن ونقطع بوجود الحكم عند الظن فيكون قاطعا
وقولهم مبني الحكم على التعبدات
قلنا نحن لا ننكر التعبدات في الشرع فلا جرم قلنا الأحكام ثلاثة أقسام
قسم لا يعلل وقسم يعلم كونه معللا كالحجر على الصبي لضعف عقله وقسم يتردد فيه
ونحن لا نقيس مالم يقم دليل على كون الحكم معللا ودليل على عين العلة المستنبطة ودليل على وجود العلة في الفرع
وقولهم لم لم ينص على المكيل ويغني عن القياس على الأشياء الستة
قلنا هذا تحكم على الله تعالى وعلى رسوله وليس لنا التحكم عليه فيما صرح ونبه وطول وأوجز ولو جاز ذلك لجاز أن يقال فلم لم يصرح بمنع القياس على الأشياء الستة ولم لم يبين الأحكام كلها في القرآن وفي المتواتر ليحسم الاحتمال وهذا كله غير جائز
ثم نقول إن الله تعالى علم لطفا في تعبد العلماء بالاجتهاد وأمرهم بالتشمير في استنباط أسرار الشرع يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات
وقولهم كيف يثبت الحكم في الفرع بطريق غير طريق الأصل
قلنا ليس من ضرورة كون الفرع تابعا للأصل أن يساويه في طريق الحكم فإن الضروريات والمحسوسات أصل النظريات ولا يلزم تساويهما في الطريق وإن تساويا في الحكم وأما إذا قال أعتقت سالما لسواده فالفرق بينه وبين أحكام الشرع من حيث الإجمال والتفصيل
أما الإجمال فإنه لو قال مع هذا فقيسوا عليه كل أسود لم يتعد العتق سالما
ولو قال الشارع حرمت الخمر لشدتها فقيسوا عليه كل مشتد للزمت التسوية فكيف يقاس أحدهما على الآخر مع الاعتراف بالفرق
وأما التفصيل فلأن الله تعالى علق الحكم في الأملاك حصولا وزوالا على اللفظ دون الإرادات المجردة
أما أحكام الشرع فتثبت بكل ما دل على رضا الشارع وإرادته ولذلك ثبتت بدليل الخطاب وبسكوت النبي صلى الله عليه و سلم عما جرى بين يديه من الحوادث
ولو أن إنسانا باع مال غيره بأضعاف قيمته وهو حاضر ولم ينكر ولم يأذن بل ظهرت عليه علامات الفرح لا يصح البيع بل قد ضيق الشرع تصرفات العباد حتى لم تحصل أحكامها بكل لفظ فلو قال الزوج فسخت النكاح ورفعت علاقة الحل بيني وبين زوجتي لم يقع الطلاق إلا أن ينويه وإذا أتى بلفط الطلاق وقع وإن لم ينوه وإذا لم تحصل الأحكام بجميع الألفاظ بل ببعضها فكيف تحصل بمجرد الإرادة على أن القياس مفهوم في اللغة فإنه لو قال لا تأكل الإهليلج لأنه مسهل ولا تجالس فلانا فإنه مبتدع فهم منه التعدي بتعدي العلة وهذا مقتضى اللغة وهو مقتضاه في العتق لكن التعبد منع منه
وعلى أن هذا الذي ذكروه قياس لكلام الشارع على كلام المكلفين في امتناع قياس ما وجدت العلة التي علل بها فيه عليه فيكون رجوعا إلى القياس الذي أنكروه ثم إن قياس كلام الشارع على كلام غيره أبعد من قياس أحكام الشرع بعضها على بعض فإن قيل فلعل الشرع علل الحكم بخاصية
المحل فتكون العلة في تحريم الخمر شدة الخمر وفي تحريم الربا بطعم البر لا بالشدة ولله أسرار في الأعيان فقد حرم الخنزير والدم والميتة لخواص لا يطلع عليها فلم يبعد ان يكون لشدة الخمر من الخاصية ما ليس لشدة النبيذ فبماذا يقع الأمر عن هذا
قلنا قد نعلم ضرورة سقوط اعتبار خاصية المحل كقوله أيما رجل أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذ يعلم أن المرأة في معناه وقوله من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي فالأمة في معناه لأنا عرفنا بتصفح أحكام العتق والبيع وبمجموع أمارات وتكريرات وقرائن أنه لا مدخل للذكورية في العتق والبيع
وقد يظن ذلك ظنا يسكن إليه وقد عرفنا أن الصحابة عولوا على الظن فعلمنا أنهم فهموا من رسول الله صلى الله عليه و سلم قطعا إلحاق الظن بالقطع وقد اختلف الصحابة في مسائل ولو كانت قطعية لما اختلفوا
فيها فعلمنا أن الظن كالعلم فإن انتفى العلم والظن فلا يجوز الإقدام على القياس
النص على العلة يقتضي الإلحاق
فصل قال النظام العلة المنصوص عليها توجب الإلحاق بطريق اللفظ والعموم لا بطريق القياس إذ لا فرق في اللغة بين قوله حرمت الخمر لشدتها وبين حرمت كل مشتد وهذا خطأ إذ لا يتناول قوله حرمت الخمر لشدتها من حيث الوضع إلا تحريمها خاصة ولو لم يرد التعبد بالقياس لاقتصرنا عليه كما لو قال أعتقت غانما لسواده وكيف يصح هذا ولله تعالى أن ينصب شدة الخمر خاصة علة ويكون فائدة التعليل زوال التحريم عند زوال الشدة ويتجه عليه ما ذكره نفاة القياس والله أعلم
أوجه تطرق الخطأإلى القياس
فصل ويتطرق الخطأ إلى القياس من خمسة أوجه
أحدها أن لا يكون الحكم معللا
والثاني أن لا يصيب علته عند الله تعالى
الثالث أن يقصر في بعض أوصاف العلة
الرابع أن يجمع إلى العلة وصفا ليس منها
الخامس أن يخطىء في وجودها في الفرع فيظنها موجودة ولا يكون كذلك
إلحاق المسكوت بالمنطوق
فصل إلحاق المسكوت بالمنطوق ينقسم إلى مقطوع ومظنون فالمقطوع ضربان
أحدهما أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق وهو المفهوم ولا يكون مقطوعا حتى يوجد فيه المعنى الذي في المنطوق وزيادة كقولنا إذا قبل شهادة اثنين فثلاثة أولى فإن الثلاثة اثنان وزيادة وأذا نهى عن التضحية بالعوراء فالعمياء أولى فإن العمى عور مرتين
فأما قولهم إذا وجبت الكفارة في الخطأ ففي العمد أولى وإذا ردت شهادة الفاسق فالكافر أولى فهذا يفيد الظن لبعض المجتهدين وليس من الأول لأن العمد نوع يخالف الخطأ فيجوز أن لا تقوى الكفارة على رفعه بخلاف الخطأ
والكافر يحترز من الكذب لدينه والفاسق متهم في الدين
الضرب الثاني أن يكون المسكوت مثل المنطوق كسراية العتق في العبد والأمة مثله وموت الحيوان في السمن والزيت مثله وهذا راجع إلى العلم بأن الفارق لا أثر له في الحكم وإنما يعرف ذلك باستقراء أحكام الشرع في موارده ومصادره وفي ذلك الجنس وضابط هذا الجنس ألا يحتاج فيه إلى التعرض للعلة الجامعة بل يكتفى بنفي الفارق المؤثر ويعلم أنه ليس ثم فارق مؤثر قطعا فإن تطرق إليه احتمال لم يكن مقطوعا به بل يكون مظنونا
وقد اختلف في تسمية هذا قياسا وما عدا هذا من الأقيسة فمظنون
وفي الجملة فالإلحاق له طريقان
أحدهما أنه لا فارق إلا كذا وهذه مقدمة
ولا مدخل لهذا الفارق في التأثير وهذه مقدمة أخرى
فيلزم منه نتيجة وهو أن لا فرق بينهما في الحكم
وهذا أنما يحسن إذا ظهر التقارب بين الفرع والأصل فلا يحتاج إلى التعرض للجامع لكثرة ما فيه من الاجتماع
الثاني أن يتعرض للجامع فيبينه ويبين وجوده في الفرع وهذا المتفق على تسميته قياسا
وهذا يحتاج إلى مقدمتين أيضا
أحداهما أن السكر مثلا علة التحريم في الخمر
والثانية أنه موجود في النبيذ فهذه المقدمة الثانية يجوز أن تثبت بالحس ودليل العقل والعرف وأدلة الشرع
وأما الأولى فلا تثبت إلا بدليل شرعي فإن كون الشدة علامة التحريم وضع شرعي كما أن نفس التحريم كذلك وطريقه طريقه فالشدة التي جعلت علامة التحريم يجوز أن يجعلها الشارع علامة الحل فليس إيجابها لذاتها وأدلة الشرع ترجع إلى نص أو إجماع أو استنباط فهذه ثلاثة أقسام
القسم الأول إثبات العلة بأدلة نقلية وهي ضربان
الأول الصريح وذلك أن يرد فيه لفظ التعليل كقوله تعالى كيلا يكون دولة لكيلا تأسوا ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله من أجل ذلك كتبنا على بني أسرائيل لنعلم من يتبع الرسول ليذوق وبال أمره وقول النبي صلى الله عليه و سلم إنما جعل الاستئذان من أجل البصر وإنما نهيتكم من أجل الدافة وكذلك أن ذكر المفعول له فهو صريح في التعليل لأنه يذكر للعلة والعذر كقوله تعالى لأمسكتم خشية الإنفاق يجعلون أصابعهم
في آذانهم من الصواعق حذر الموت وما جرى هذا المجرى من صيغ التعليل
فإن قام دليل على أنه لم يقصد التعليل نحو أن يضاف إلى مالا يصح علة فيكون مجازا كما لو قيل لم فعلت هذا قال لأني أردت فهذا استعمال اللفظ في غير محله فأما لفظة أن مثل قوله عليه السلام لما ألقى الروثة أنها رجس وقال في الهرة إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم و لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم فإنه
من الصريح أيضا فإن انضم إلى إن حرف الفاء فهو آكد نحو قوله عليه السلام ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث طيبا
قال أبو الخطاب هذا صريح في التعليل وقيل بل هذا من طريق التنبيه والإيماء إلى العلة لا من طريق الصريح والله أعلم
الضرب الثاني التنبيه والإيماء إلى العلة وهو أنواع ستة
أحدها أن يذكر الحكم عقيب وصف بالفاء فيدل على التعليل بالوصف كقوله تعالى قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقول النبي صلى الله عليه و سلم من بدل دينه فاقتلوه ومن أحيى أرضا ميتة فهي له فيدل ذلك على التعليل لأن الفاء في اللغة للتعقيب فيلزم من ذكر الحكم مع الوصف بالفاء ثبوته عقيبه فيلزم منه السببية إذ لا معنى للسبب إلا ما ثبت الحكم عقيبه ولهذا يفهم منه السببية وإن انتفت المناسبة نحو قوله من مس ذكره فليتوضأ ويلحق بهذا القسم ما رتبه الراوي بالفاء كقوله سها رسول الله صلى الله عليه و سلم
فسجد وسجدنا ورضخ يهودي رأس جارية فأمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يرض رأسه بين حجرين يفهم منه السببية فلا يحل نقله من غير فهم السببية لكونه تلبيسا في دين الله
والظاهر أن الصحابي يمتنع مما يحرم عليه في دينه لا سيما إذا علم عموم فساده فيظهر أنه فهم منه التعليل
والظاهر أنه مصيب في فهمه إذ هو عالم بمواقع الكلام ومجاري اللغة فلا يعتقد السببية إلا بما يدل عليها واللفظ مشعر به ولا يحتاج إلى فقه الراوي فإن هذا مما يقتبس من اللغة دون الفقه
الثاني ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء يدل على التعليل به كقوله تعالى من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين ومن يتق الله يجعل له مخرجا أي لتقواه وقول النبي صلى الله عليه و سلم من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد نقص من أجره كل يوم قيراطان
وكذلك ما أشبهه فإن الجزاء يتعقب شرطه ويلازمه فلا معنى للسبب إلا ما يستعقب الحكم ويوجد بوجوده
النوع الثالث أن يذكر للنبي صلى الله عليه و سلم أمر حادث فيجب بحكم فيدل على أن المذكور في السؤال علة كما روى أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال هلكت وأهلكت قال ماذا صنعت قال واقعت أهلي في رمضان فقال عليه السلام اعتق رقبة فيدل ذلك على أن الوقاع سبب لأنه ذكره جوابا والسؤال كالمعاد في الجواب الجواب فكأنه قال واقعت أهلك فاعتق رقبة واحتمال أن يكون المذكور منه ليس بجواب ممتنع إذ يفضي ذلك إلى خلو محل السؤال من الجواب فيتأخر البيان عن وقت الحاجة وهو ممتنع بالاتفاق
النوع الرابع أن يذكر مع الحكم سبب لو لم يقدر التعليل به لكان لغوا غير مفيد فيجب تقدير الكلام على وجه مفيد صيانة لكلام النبي صلى الله عليه و سلم عن اللغو وهو قسمان
أحدهما أن يستنطق السائل عن الواقعة بأمر ظاهر الوجود ثم يذكر الحكم عقيبه كما سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم قال فلا إذن فلو لم يقدر التعليل به كان الاستكشاف عن نقصان الرطب غير مفيد لظهوره
الثاني أن يعدل في الجواب إلى نظير محل السؤال كما روى أنه لما سألته الخثعمية عن الحج عن الوالد فقال عليه السلام أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه قالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء فيفهم منه التعليل بكونه دينا تقريرا لفائدة التعليل
النوع الخامس أن يذكر في سياق الكلام شيء لو لم يعلل به صار الكلام غير منتظم كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فإنه يعلم منه التعليل للنهي عن البيع بكونه مانعا من السعي إلى الجمعة إذ لو قدرنا النهي عن البيع مطلقا من غير رابطة الجمعة يكون خبطا في الكلام وكذا قوله عليه السلام لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان تنبيه على التعليل بالغضب إذ النهي عن القضاء مطلقا من غير هذه الرابطة لا يكون منتظما
النوع السادس ذكر الحكم مقرونا بوصف مناسب فيدل على التعليل به كقوله تعالى السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم أي لبرهم وفجورهم فإنه يسبق إلى الأفهام التعليل به كما لو قال أكرم العلماء وأهن الفساق يفهم منه أن إكرام العلماء لعلمهم وإهانة الفساق لفسقهم وكذلك في خطاب الشارع فإن الغالب منه اعتبار المناسبة بل قد نعلم أنه لا يرد الحكم إلا لمصلحة فمتى ورد
الحكم مقرونا بمناسبة فهمنا التعليل به ففي هذه المواضع يدل على أن الوصف معتبر في الحكم لكنه يحتمل أن يكون اعتباره لكونه علة في نفسه ويحتمل أن اعتباره لتضمنه للعلة نحو نهيه عن القضاء مع الغضب ينبه على أن الغضب علة لا لذاته بل لما يتضمنه من الدهشة المانعة استيفاء الفكر حتى يلتحق به الجائع والحاقن ويحتمل أن ترتيبه فساد الصوم عن الوقاع لتضمنه إفساد الصوم حتى يتعدى إلى الأكل والشرب والظاهر الإضافة إلى الأصل فصرفه عن ذلك إلى ما يتضمنه يحتاج إلى دليل
القسم الثاني ثبوت العلة بالإجماع كالإجماع على تأثير الصغر في الولاية وكالإجماع على أن علة منع القاضي من القضاء وهو غضبان اشتغال قلبه عن الفكر والنظر في الدليل والحكم وتغير طبعه عن السكون والتلبث للاجتهاد
وكتأثير تلف المال تحت اليد العادية في الضمان فإنه يؤثر في الغصب إجماعا فقيس السارق وإن قطع على الغاصب لاتفاقهما في العلة المؤثرة في محل الوفاق إجماعا فلا تصح المطالبة بتأثير العلة في الأصل للاتفاق عليها وإن طولب بتأثيرها في الفرع فجوابه أن يقال القياس لتعدية حكم العلة من موضع إلى موضع وما من تعدية إلا ويتوجه عليها هذا السؤال فلا يفتح هذا الباب بل يكلف المعترض الفرق أو التنبيه على مثار خيال الفرق وكذلك لو قال الأخوة من الأبوين أثرت في التقديم في الميراث إجماعا فلتؤثر في التقديم في النكاح أو قال الصغر أثر في ثبوت الولاية على البكر فكذلك على الثيب
القسم الثالث ثبوت العلة بالاستنباط وهو ثلاثة أنواع
النوع الأول في إثبات العلة
المناسبة
أحدها إثبات العلة بالمناسبة وهو أن يكون الوصف المقرون بالحكم مناسبا ومعناه أن يكون في إثبات الحكم عقيبه مصلحة ولا يعتبر أن يكون منشأ للحكمة كالسفر مع المشقة بل متى كان في إثبات الحكم عقيب الوصف مصلحة فيكون مناسبا كالحاجة مع البيع والشكر مع النعمة فيدل ذلك على التعليل به إذ قد علمنا أن الشارع لا يثبت حكما إلا لمصلحة فإذا رأينا الحكم مفضيا إلى مصلحة في محل غلب على ظننا أنه قد قصد بإثبات الحكم تحصيل تلك المصلحة فيعلل بالوصف المشتمل عليها
إذا ثبت هذا فالمناسب ثلاثة أنواع
مؤثر وملائم وغريب
فالمؤثر ما ظهر تأثيره في الحكم بنص أو إجماع وهو شيئان
أحدهما ما يظهر تأثير عينه في عين الحكم كقياس الأمة على الحرة في سقوط الصلاة بالحيض لما فيه من مشقة التكرار إذ قد ظهر تأثير عينه في عين الحكم بالإجماع لكن في محل مخصوص فعديناه إلى محل آخر وهذا لا خلاف في اعتباره عند القائلين بالقياس
ومن خاصيته أنه لا يحتاج إلى نفي ما عداه في الأصل ولو ظهر في الأصل مؤثر آخر لم يضر بل يعلل بهما فإن الحيض والعدة والردة قد تجتمع في امرأة ويعلل تحريم الوطء بالجميع
وهو قسمان
أحدهما أن يظهر عينه في عين ذلك الحكم وهو الذي يقال إنه في معنى الأصل وربما يقربه منكرو القياس إذ لا يبقى بين الفرع والأصل مباينة إلا تعدد المحل كقولنا إذا ثبت أن الكيل علة في تحريم الربا في البر فالزبيب ملحق به ويكون هذا كظهور أثر الوقاع في إيجاب الكفارة على الأعرابي فالتركي والهندي في معناه
الرتبة الثانية أن يظهر أثر عينه في جنس ذلك الحكم كظهور أثر الأخوة من الأبوين في التقديم في الميراث فيقاس عليه ولاية النكاح فإن الولاية في النكاح ليست هي عين الميراث لكن بينهما مجانسة
النوع الثاني الملائم وهو ما ظهر تأثير جنسه في عين الحكم كظهور أثر المشقة في إسقاط الصلاة عن الحائض فإنه ظهر تأثير جنس الحرج في إسقاط قضاء الصلاة كتأثير مشقة السفر في إسقاط الركعتين الساقطتين بالقصر
النوع الثالث الغريب وهو ما ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم كتأثير جنس المصالح في جنس الأحكام ثم للجنسية مراتب بعضها أعم من بعض فإن أعم الأوصاف كونه حكما ثم ينقسم إلى إيجاب وندب وتحريم وإباحة وكراهية ثم الواجب ينقسم إلى عبادة وغير عبادة
والعبادة تنقسم إلى صلاة وغيرها فما ظهر تأثيره في الصلاة الواجبة أخص مما ظهر في العبادة
وما ظهر في العبادة أخص مما ظهر في الواجب وما ظهر في الواجب أخص مما ظهر في الأحكام وفي المعاني أعم أوصافه أنه وصف يناط الحكم بجنسه حتى يدخل فيه الاشتباه وأخص منه أن يكون مصلحة خاصة كالردع أو سد الحاجة فلأجل تفاوت درجات الجنسية في القرب والبعد تتفاوت درجات الظن والأعلى مقدم على ما دونه
وقيل بل الملائم ما ظهر تأثير جنسه في جنس الحكم كتأثير المشقة في التخفيف والغريب الذي لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع كقولنا الخمر إنما حرم لكونه مسكرا وفي معناه كل مسكر ولم يظهر أثر السكر في موضع آخر لكنه مناسب اقترن الحكم به
وقولنا المبتوتة في مرض الموت ترث لأن الزوج قصد الفرار من الميراث فعورض بنقيض قصده قياسا على القاتل لما استعجل الميراث عورض بنقيض قصده فإنا لم نر الشارع التفت إلى مثل هذا في موضع آخر فتبقى مناسبة مجردة غريبة
وقد قصر قوم القياس على المؤثر لأن الجزم بإثبات الشارع الحكم رعاية لهذا المناسب تحكم إذ يحتمل أن يكون الحكم ثبت تعبدا كتحريم الميتة والخنزير والدم والحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع مع إباحة الضب والضبع
ويحتمل أن يكون لمعنى آخر مناسب لنا ويحتمل أن يكون للإسكار فهذه ثلاث احتمالات فالتعيين تحكم بغير دليل ووهم مجرد مستنده أنه لم يظهر إلا هذا وهذا غلظ فإن عدم العلم ليس علما بعدم سبب آخر وبمثل هذا القول بطل القول بالمفهوم وهذا لا ينقلب في المؤثر فإنه عرف كونه علة بإضافة الحكم إليه نصا أو إجماعا
قلنا لا يصح ما ذكروه لوجهين
أحدهما أنا قد علمنا من أقيسة الصحابة رضي الله عنهم في اجتهاداتهم أنهم لم يشترطوا في كل قياس كون العلة معلومة بنص أو إجماع
والثاني أن المطلوب غلبة الظن وقد حصل فإن إثبات الشرع الحكم على وفقه يشهد لملاحظة الشرع له وهذا الاحتمال راجح على احتمال التحكم بما رددنا به مذهب منكري القياس كما في المؤثر فإن العلة إذا أضيف إليها الحكم في محل احتمل اختصاصها به وبه اعتصم نفاة القياس لكن قيل لهم علم من الصحابة اتباع العلل واطراح التعبد مهما أمكن فكذا ههنا ولا فرق
وقولهم يحتمل أن ثم مناسبا آخر فهو وهم محض وغلبة الظن في كل موضع تستند إلى مثل هذا الوهم ويعتمد انتفاء الظهور في معنى آخر لو ظهر لبطل الظن ولو فتح هذا الباب لم يستقم قياس فإن المؤثر إنما يغلب على الظن لعدم ظهور الفرق ولعدم ظهور معارض وصيغ العموم والظواهر إنما تغلب على الظن بشرط انتفاء قرينة مخصصة لو ظهرت لزاد الظن وإذا لم تظهر جاز التعويل عليه ولم يظهر لنا من الصحابة إلا اتباع الرأي الأغلب ولم يضبطوا أجناسه ولم يميزوا جنسا عن جنس فمهما سلمتم غلبة الظن وجب اتباعه
وقولهم هذا وهم لا يصح فإن الوهم ميل النفس من غير سبب والظن ميلها بسبب وهذا الفرق بينهما
ومن بنى أمره في المعاملات على الظن كان معذورا ومن بناه على الوهم سفه ولو تصرف في مال اليتيم بالظن لم يضمن ولو تصرف بالوهم ضمن
وقد بينا الظن ههنا فيجب البناء عليه والله أعلم
النوع الثاني في إثبات العلة
السبر النوع الثاني في إثبات العلة السبر قال أبو الخطاب ولا يصح إلا أن تجمع الأمة على تعليل أصل ثم يختلفون في علته فيبطل جميع ما قالوه إلا واحدة فيعلم صحتها كيلا يخرج الحق عن اقاويل الأمة فنقول الحكم معلل ولا علة إلا كذا أو كذا وقد بطل أحدهما فيتعين الآخر مثاله الربا يحرم في البر بعلة والعلة الكيل أو القوت أو الطعم وقد بطل التعلل بالقوت والطعم فثبت أن العلة الكيل فيحتاج إلى ثلاثة أمور
أحدها أنه لابد من علة ودليله الإجماع على أن الحكم معلل فإن لم يكن مجمعا عليه لم يلزم من إفساد جميع العلل إلا واحدة صحتها لجواز أن يكون الحكم ثابتا تعبدا إذ لم يوجد من الدليل على صحتها إلا خلو المحل عما سواها الوجود المجرد لا يكفي في التعليل
وقول المستدل بحثت في المحل فلم أعثر على ما يصلح للتعليل ليس
بأولى من قول خصمه بحثت في الوصف الذي ذكرته فلم أعثر فيه على مناسبة أو ما يصلح به للتعليل فيتعارض الكلامان
الأمر الثاني أن يكون سبره حاصرا لجميع ما يعلل به إما بموافقة خصمه وإما بأن يسبر حتى يعجز عن إبراز غيره فإن كان مناظرا كفاه أن يقول هذا منتهى قدرتي في السبر فإن شاركتني في الجهل بغيره لزمك ما لزمني وإن اطلعت على علة أخرى فيلزمك إبرازها لننظر في صحتها فإن كتمانها حينئذ عناد وهو محرم وصاحبها إما كاذب وإما كاتم لدليل مست الحاجة إلى إظهاره وكلاهما محرم
الثالث إبطال أحد القسمين وله في ذلك طريقان
أحدهما أن يبين بقاء الحكم بدون ما يحذفه فيبين أنه ليس من العلة إذ لو كان منها لم يثبت الحكم بدونه
الثاني أن يبين أن ما حذفه من جنس ما عهدنا من الشارع عدم الالتفات إليه في اثبات الأحكام كالطول والقصر والسواد والبياض أو عهد منه الإعراض عنه في جنس الأحكام المختلف فيها كالذكورية والأنوثية في سراية العتق ولا يكفيه في إفساد علة خصمه النقض لاحتمال أن يكون جزءا من العلة أو شرطا فيها فلا يستقل بالحكم ولا يلزم من عدم استقلاله صحة علة المستدل بدونه ولا يكفيه أيضا أن يقول بحثت في الوصف الفلاني فما عثرت فيه على مناسبة فيجب إلغاؤه فإن الخصم يعارضه بمثل كلامه فيفسد فإن بين مع ذلك صلاحية ما يدعيه علة أو سلم له ذلك بموافقة خصمه فذلك يكفيه ابتداء بدون السبر فالسبر إذا تطويل طريق غير مفيد فلنصطلح على رده
وقال بعض أصحاب الشافعي يكفيه ذلك
وقال بعض المتكلمين إذا اتفق خصمان على فساد تعليل من سواهما ثم أفسد أحدهما علة صاحبه كان ذلك دليلا على صحة علته وليس بصحيح
فإن اتفاقهما ليس بدليل على فساد قول من خالفهما والذي فسدت علته منهما يعتقد فساد علة خصمه الحاضر كاعتقاد فساد علة الغائب فيتساوى عنده الأمر فيهما فلا يتعين عنده صحة إحداهما ما لم يكن الحكم مجمعا على تعليله ويبطل جميع ما قيل إنه علة والله أعلم
النوع الثالث في إثبات العلة
الدوران النوع الثالث في إثبات العلة أن يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها كوجود التحريم بوجود الشدة في الخمر وعدمه لعدمها فإنه دليل على صحة العلة العقلية وهي موجبة فأولى أن يكون دليلا على الشرعية وهي أمارة ولأنه يغلب على الظن ثبوت الحكم مستندا إلى ذلك الوصف فإننا لو رأينا رجلا جالسا فدخل رجل فقام عند دخوله ثم جلس عند خروجه وتكرر منه غلب على ظننا أن العلة في قيامه دخوله
فإن قيل الوجود عند الوجود طرد محض وزيادة العكس لا تؤثر إذ ليس بشرط في العلل الشرعية ولأن الوصف يحتمل أن يكون ملازما للعلة أو جزءا من أجزائها فيوجد الحكم عند وجوده لكون العلة ملازمة وينتفي بانتفائه ويحتمل ما ذكرتم ومع التعارض لا معنى للتحكم ثم لو كان ذلك دليل علة لأمكن كل واحد من المختلفين في علة الربا أن يثبت الحكم بثبوتها وينفيه بنفيها ثم يبطل هذا المعنى برائحة الخمر المخصوصة به مقرونة بالشدة يزول التحريم بزوالها ويوجد بوجودها وليس بعلة
قلنا قد بينا أن الطرد والعكس يؤثران في غلبة الظن وكون كل واحد من
الطرد والعكس لا يؤثر منفردا لا يمنع من تأثيرهما مجتمعين فإن العلة إذا كانت ذات وصفين لا يحصل الأثر من أحدهما واحتمال شيء آخر لا ينفي الظن ولا يمنع من التمسك بما ظنناه علة ما لم يظهر الأمر الآخر فيكون معارضا والنقض برائحة الخمر غير لازم فإن صلاحية الشيء للتعليل لا يلزم أن يعلل به إذ قد يمتنع ذلك لمعارضة ما هو أولى منه
وقال قوم إنما يصح التعليل به مع السبر فيقول علة الحكم أمر حادث ولا حادث إلا كذا وكذا ويبطل ما سواه والسبر إذا تم بشروطه استغنى عما سواه مع أنه لا يلزم أن تكون علة الحكم أمرا حادثا إذ يجوز أن تكون العلة سابقة ويقف ثبوت الحكم على شرط حادث كالحول في الزكاة أو يكون الحادث جزءا تمت العلة به أو يكون الحكم غير معلل والله أعلم
ومما يشبه هذا شهادة الأصول كقولهم في الخيل ما لا تجب الزكاة في ذكوره منفردة لم تجب في الذكور والإناث ويستدل على صحتها بالاطراد والانعكاس في سائر ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب وقولهم من صح ظهاره صح طلاقه كالمسلم ذهب القاضي وبعض الشافعية إلى صحته لشبهه بما ذكرنا وتغليبه على الظن ومنع منه بعضهم والله أعلم
اطراد العلة ليس دليلا على صحتها
فصل فأما الدلالة على صحة العلة باطرادها ففاسد إذ لا معنى له إلا سلامتها عن مفسد واحد هو النقض وانتفاء المفسد ليس بدليل على الصحة فربما لم تسلم من مفسد آخر ولو سلمت من كل مفسد لم يكن دليلا على صحتها كما لو سلمت شهادة المجهول من جارح لم تكن حجة ما لم تقم بينة معدلة
مزكية فكذلك لا يكفي للصحة انتفاءالمفسد بل لا بد من قيام دليل على الصحة وفي الجملة فنصب العلة مذهب يفتقر إلى دليل كوضع الحكم ولا يكفي في إثبات الحكم أنه لا مفسد له وكذلك العلة ويعارضه أنه لا دليل على الصحة واقتران الحكم بها ليس بدليل على أنها علة فقد يلازم الخمر لون وطعم ورائحه يقترن به التحريم ويطرد وينعكس والعلة الشدة واقترانه بما ليس بعلة كاقتران الأحكام بطلوع كوكب أو هبوب ريح ثم للمعترض في إفساد المعارضة بوصف مطرد يختص بالأصل فلا يجد إلى التخلص عنه طريقا
ومثال ذلك قولهم في الخل مائع لا يصاد من جنسه السمك ولا تبنى عليه القناطر فلا تزال به النجاسة كالمرق وكذلك لو استدل على صحتها بسلامتها عن علة تفسدها لم يصح لما ذكرناه
فإن قيل دليل صحتها انتفاء المفسد قلنا بل دليل الفساد انتفاء المصحح ولا فرق بين الكلامين
انتفاء مناسبة الوصف إذا لزم منه مفسدة مساوية أو راجحة
فصل متى لزم من ترتيب الحكم على الوصف المتضمن للمصلحة مفسدة مساوية للمصلحة أو راجحة عليها فقيل إن المناسبة تنتفي فإن تحصيل المصلحة على وجه يتضمن فوات مثلها أو أكبر منها ليس من شأن العقلاء لعدم الفائدة على تقدير التساوي وكثرة الضرر على تقدير الرجحان فلا يكون مناسبا
إذ المناسب إذا عرض على العقول السليمة تلقته بالقبول فيعلم أن الشارع لم يرد بالحكم تحصيلا للمصلحة في ضمن الوصف المعين وهذا غير صحيح فإن المناسب المتضمن للمصلحة والمصلحة أمر حقيقي لا ينعدم بمعارض إذ ينتظم من العاقل أن يقول لي مصلحة في كذا يصدني عنه ما فيه من ا لضرر من وجه آخر وقد أخبر الله تعالى أن في الخمر والميسر منافع وأن إثمهما أكبر من نفعهما فلم ينف منافعهما مع رجحان إثمهما والمصلحة جلب المنفعة أو رفع المضرة ولو أفردنا النظر إليها غلب على الظن ثبوت الحكم من أجلها
وإنما يختل ذلك الظن مع النظر إلى المفسدة اللازمة من اعتبار الوصف الآخر فيكون هذا معارضا إذ هذا حال كل دليل له معارض ثم ثبوت الحكم مع وجود المعارض لا يعد بعيدا
ونظيره مالو ظفر الملك بجاسوس لعدوه فإنه يتعارض في النظر اقتضاءان
أحدهما قتله دفعا لضرره
والثاني الإحسان إليه استمالة له لتكشيف حال عدوه فسلوكه إحدى الطريقين لا يعد عبثا بل يعد جريا على موجب العقل ولذلك ورد الشرع بالأحكام المختلفة في الفعل الواحد نظرا إلى الجهات المختلفة كالصلاة في الدار المغصوبة فإنها سبب للثواب من حيث أنها صلاة وللعقاب من حيث أنها غصب نظرا إلى المصلحة والمفسدة مع انه لا يخلو إما أن يتساويا أو يرجح أحدهما فعلى تقدير التساوي لا تبقى المصلحة مصلحه ولا المفسدة مفسدة فيلزم لنتفاء الصحة والحرمة وعلى تقدير رجحان المصلحة يلزم انتفاء الحرمة وعلى تقدير رجحان المفسدة يلزم انتفاء الصحة فلا يجتمع الحكمان معا ومع ذلك اجتمعا فدل على بطلان ما ذكروه ثم لو قدرنا توقف المناسبة على
رجحان المصلحة فدليل الرجحان أنا لم نجد في محل الوفاق مناسبا سوى ما ذكره فلو قدرنا الرجحان يكون الحكم ثابتا معقولا وعلى تقدير عدمه يكون تعبدا واحتمال التعبد أبعد وأندر فيكون احتمال الرجحان أظهر
ومثال ذلك تعليلنا وجوب القصاص على المشتركين في القتل بحكمة الردع والزجر كيلا يفضي إسقاطه إلى فتح باب الدماء فيعارض الخصم بضرر إيجاب القتل الكامل على من لم يصدر منه ذلك فيكون جوابه ما ذكرناه والله أعلم
فصل في قياس الشبه واختلف في تفسيره ثم في أنه حجة فأما تفسيره فقال القاضي يعقوب هو أن يتردد الفرع بين أصليين حاظر ومبيح مثلا ويكون شبهه بأحدهما أكثر نحو أن يشبه المبيح في ثلاثة أوصاف ويشبه الحاظر في أربعة فلنلحقه بأشبههما به
ومثاله تردد العبد بين الحر وبين البهيمة في أنه يملك فمن لم يملكه قال حيوان يجوز بيعه ورهنه وهبته وإجارته وإرثه أشبه بالدابة
ومن يملكه قال يثاب ويعاقب وينكح ويطلق ويكلف أشبه الحر فيلحق بما هو أكثرهما شبها
وقيل الشبه الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة الحكم من جلب المصلحة أو دفع المفسدة وذلك أن الأوصاف تنقسم إلى ثلاثة أقسام
قسم يعلم اشتماله على المناسبة لوقوفنا عليها بنور البصيرة كمناسبة الشدة للتحريم
وقسم لا يتوهم ثم مناسبة أصلا لعدم الوقوف عليها بعد البحث التام مع إلفنا من الشارع أنه لا يلتفت إليه في حكم ما كالطول والقصر والسواد والبياض وكون المائع لا تبنى عليه القناطر
وقسم ثالث بين القسمين الأولين وهو ما يتوهم اشتماله على مصلحة الحكم ويظن أنه مظنتها وقالبها من غير اطلاع على عين المصلحة مع عهدنا اعتبار الشارع له في بعض الأحكام كالجمع بين مسح الرأس ومسح الخف في نفي التكرار بوصف كونه مسحا والجمع بينه وبين الأعضاء المغسولة في التكرار بكونه أصلا في الطهارة فهذا قياس الشبه
فالقسم الأول قياس العلة وهو صحيح
والقسم الثاني باطل
والثالث الشبه وهو مختلف فيه وكل قياس فهو يشتمل على شبه واطراد لكن قياس العلة عرف بأشبه صفاته وأقواها وقياس الشبه كان أشرف صفاته المشابهة فعرف به
وكذلك القياس الطردي عرف بخاصيته وهو الاطراد إذ لم يكن له ما يعرف به سواه وكل وصف ظهر كونه مناطا للحكم فاتباعه من قبيل قياس العلة لا من قبيل قياس الشبه
واختلفت الرواية عن احمد رحمه الله في قياس الشبه فروي أنه صحيح والأخرى أنه غير صحيح اختارها القاضي
وللشافعي قولان كالروايتين ووجه كونه حجة هو أنه يثير ظنا غالبا يبنى عليه الاجتهاد فيجب أن يكون متبعا كالمناسب فلا يخلو إما أن يكون الحكم لغير مصلحة أو لمصلحة في الوصف الشبهي أو لمصلحة في ضمن الأوصاف الأخرى لا يجوز أن يكون لغير مصلحة فإن حكم الشارع لا يخلو عن الحكمة واحتمال كونه لمصلحة وعلة ظاهرة أرجح من احتمال التعبد واحتمال اشتمال الوصف الشبهي عل المصلحة أغلب وأظهر من اشتمال الأوصاف الباقية عليها فيغلب على الظن ثبوت الحكم به فتعدى الحكم بتعديته
قياس الدلالة
فصل في قياس الدلالة وهو أن يجمع بين الفرع والأصل بدليل العلة ليدل اشتراكهما فيه على اشتراكهما في العلة فيلزم اشتراكها في الحكم ظاهرا
ومثاله قولنا في جواز إجبار البكر جاز تزويجها وهي ساكتة فجاز وهي ساخطة كالصغيرة فإن إباحة تزويجها مع السكوت يدل على عدم اعتبار رضاها إذ لو اعتبر لاعتبر دليله وهو النطق أما السكوت فمحتمل متردد وإذا لم يعتبر رضاها أبيح تزويجها حال السخط وكذا قولنا في منع إجبار العبد على النكاح لا يجبر على إبقائه فلا يجبر على ابتدائه كالحر فإن عدم الإجبار على الإبقاء يدل على خلوص حقه في النكاح وذل يقتضي المنع من الإجبار في الابتداء
باب أركان القياس وهي أربعة أصل وفرع وعلة وحكم
فالركن الأول له شرطان
أحدهما أن يكون ثابتا بنص أو اتفاق من الخصمين فإن كان مختلفا فيه أو لا نص فيه لم يصح التمسك به لأنه ليس بناء أحدهما على الآخر بأولى من العكس فلو أراد إثبات حكم الأصل بالقياس على محل آخر لم يجز فإن العلة التي جمع بها بين الأصل الثاني والأول إن كانت موجودة في الفرع فليقسه على هذا الأصل الثاني ويكفيه فذكر الأول تطويل غير مفيد فليصطلح على رده وإن كان الجامع بين الأصلين غير موجود في الفرع لم يصح قياسه على الأصل الأول لأنه قد تبين ثبوت حكمه بعلة غير موجودة في الفرع ومن شرط القياس التساوي في العلة ولا يمكن تعليل الحكم في الأصل الأول بغير ما علله به قياسه إياه على الأصل الثاني فإنه إنما يعرف كون الجامع علة بشهادة الأصل له واعتبار الشرع له بإثبات الحكم على وقفه ولا يعرف اعتبار الشرع للوصف إلا أن يقترن الحكم به عريا عما يصلح أن يكون علة أو جزءا من أجزائها فإنه متى اقترن بوصفين يصلح التعليل بهما مجتمعين أو بكل واحد منهما منفردا احتمل أن يكون ثبوت الحكم بهما جميعا أو بأحدهما غير معين فالتعيين تحكم ولذلك كانت المعارضة في الأصل سؤالا صحيحا
وقال بعض أصحابنا يجوز القياس على ما ثبت بالقياس لأنه لما ثبت صار أصلا في نفسه فجاز القياس عليه كالمنصوص ولعله أراد ما ثبت بالقياس واتفق عليه الخصمان فإنه لا يعتبر كون الأصل متفقا عليه بين الأمة وقيل
لا يكفي اتفاق الخصمين بل لا بد من اجتماع الأمة فإنه إذا لم يكن مجمعا عليه فللخصم أن يعلل الحكم في الأصل بمعنى مختص به لا يتعدى إلى الفرع فإن ساعده المستدل على التعليل به انقطع القياس لعدم المعنى في الفرع وإن لم يساعده منع الحكم في الأصل فبطل القياس وسموه القياس المركب ومثاله قياسنا العبد على المكاتب فنقول العبد منقوص بالرق فلا يقتل به الحر كالمكاتب فيقول المخالف العلة في المكاتب أنه لا يعلم هل المستحق لدمه الوارث أم السيد فإن سلمتم ذلك امتنع قياس العبد عليه لأن مستحقه معلوم وإن منعتم منعنا الحكم في المكاتب فذهب الأصل فبطل القياس
وهذا لا يصح لوجهين
أحدهما أن كل واحد من المتناظرين مقلد فليس له منع حكم ثبت مذهبا لإمامه لعجزه عن تقريره فإنه لا يتيقن مأخذ إمامه في الحكم ولو عرف ذلك فلا يلزم من عجزه عن تقرير فساده إذ من المحتمل أن يكون لقصوره فإن إمامه أكمل منه وقد اعتقد صحته ويحتمل أن إمامه لم يثبت الحكم في الفرع لوجود مانع عنده أو لفوات شرط فلا يجوز له منع حكم ثبت يقينا بناء على فساد مأخذه احتمالا
وحاصل هذا أنه لا يخلو إما أن يمنع على مذهب إمامه أو على خلافه فالأول باطل لعلمنا أنه على خلافه والثاني باطل فإنه تصدى لتقرير مذهبه فتجب مؤاخذته به ثم لو ضح هذا لما تمكن أحد الخصمين من إلزام خصمه حكما على مذهبه غير مجمع عليه لأنه لا يعجز عن منعه
الثاني أنا لو حصرنا القياس في أصل مجمع عليه بين الأمة أفضى إلى
خلو كثير من الوقائع عن الأحكام لقلة القواطع وندرة مثل هذا القياس فإن كان الحكم منصوصا عليه جاز الإسناد إليه في القياس وإن كان مختلفا فيه بين الخصمين بشرط ان يكون النص غير متناول للفرع فإنه إذا كان متناولا كان منصوصا عليه فلا يستروح إلى القياس على وجه لا يجد بدا من الاسترواح إلى النص فيكون تطويل طريق بغير فائدة فليصطلح على رده
وقال قوم لا يجوز القياس على المختلف فيه بحال لأنه يفضي إلى نقل الكلام من مسألة إلى مسألة وبناء الخلاف على الخلاف وليس أحدهما أولى من الآخر
ولنا أن حكم الأصل أحد أركان الدليل فيجب أن يتمكن من إثباته بالدليل كبقية أركانه فإنه ليس من شرط ما يفتقر إليه في إثبات الحكم أن يكون متفقا عليه بل يكفي أن يكون ثابتا بدليل يغلب على الظن فيجب أن يكتفي بذلك في الأصل إذ للفرق تحكم وإنما منعنا من إثباته بالقياس لما ذكرناه ابتداء فأما إذا أمكن إثبات ذلك بنص أو بإجماع منقول عن أهل العصر الأول فيكون كافيا
الشرط الثاني أن يكون الحكم معقول المعنى إذ القياس إنما هو تعدية الحكم من محل إلى محل بواسطة تعدي المقتضى وما لا يعقل معناه كأوقات الصلوات وعدد الركعات لا يوقف فيه على المعنى المقتضى ولا يعلم تعديه فلا يمكن تعدية الحكم فيه
الركن الثاني الحكم وله شرطان
أحدهما أن يكون حكم الفرع مساويا لحكم الأصل كقياس البيع على النكاح في الصحة والزنا على الشرب في التحريم والصلاة على الصوم
في الوجوب فإن حقائق هذه الأحكام لا تختلف باختلاف متعلقها والسبب يقتضي الحكم لإفضائه إلى حكمته فإذا كان الحكم الفرع مثل حكم الأصل تأدى به من الحكمة مثل ما تأدى بحكم الأصل فيجب أن يثبت أما إذا كان مخالفا له فلا يصح قياسه عليه لأن ما يتأدى به من الحكمة مخالف لما يتأدى بحكم الأصل إما بزيادة وإما بنقصان فإذا كانت أنقص فإثبات الحكم في الأصل يدل على اعتبارها بصفة الكمال فلا يلزم اعتبارها بصفة النقصان وإن كانت الحكمة في الفرع أكثر فعدول الشرع عنه إلى حكم الأصل يدل على أن في تعيينه مزيد فائدة أوجبت تعيينه أو على وجود مانع منع ثبوت حكم الفرع فكيف يصح قياسه عليه ولأن القياس تعدية الحكم يتعدي علته فإذا أثبت في الفرع غير حكم الأصل لم يكن ذلك تعدية بل ابتداء حكم وقولهم في السلم بلغ بأحد عوضيه أقصى مراتب الأعيان فليبلغ بالآخر أقصى مراتب الديون قياسا لأحدهما على الآخر ليس بقياس إذ القياس تعدية الحكم وتوسعة مجراه فكيف يختلف بالتعدية وهذا إثبات ضده وكذلك لو أثبت في الأصل حكما ولم يمكنه إثباته في الفرع إلا بزيادة أو نقصان فهو باطل لأنه ليس على صورة التعدية مثاله قولهم في صلاة الكسوف يشرع فيها ركوع زائد لأنها صلاة شرعت لها الجماعة فتختص بزيادة كصلاة الجمعة تختص بالخطبة وصلاة العيد تختص بالتكبيرات وهذا فاسد لأنه لم يتمكن من تعدية الحكم على وجهه وتفصيله
الشرط الثاني أن يكون الحكم شرعيا فإن كان عقليا أو من المسائل الأصولية لم يثبت بالقياس لأنها قطعية لا تثبت بأمور ظنية وكذلك لو أراد أثبات أصل القياس وأصل خبر الواحد بالقياس لم يجز لما ذكرناه فإن كان لغويا ففي إثباته بالقياس اختلاف ذكرناه فيما مضى
الركن الثالث الفرع ويشترط فيه أن تكون علة الأصل موجودة فيه
فإن تعدية الحكم فرع تعدي العلة واشترط قوم تقدم الأصل على الفرع في الثبوت لأن الحكم يحدث بحدوث العلة فكيف تتأخر عنه والصحيح أن ذلك يشترط لقياس العلة ولا يشترط لقياس الدلالة بل يجوز قياس الوضوء على التيمم مع تأخره عنه فإن الدليل يجوز تأخره عن المدلول فإن حدوث العالم دليل على الصانع القديم وإن الدخان دليل على النار والأثر دليل على المؤثر ولا يشترط أيضا أن يكون وجود العلة مقطوعا به في الفرع بل يكفي فيه غلبة الظن فإن الظن كالقطع في الشرعيات
الركن الرابع العلة ومعنى العلة الشرعية العلامة ويجوز أن تكون حكما شرعيا كقولنا يحرم بيع الخمر فلا يصح بيعه كالميتة وتكون وصفا عارضا كالشدة في الخمر ولازما كالصغر والنقدية أو من أفعال المكلفين كالقتل والسرقة ووصفا مجردا أو مركبا من أوصاف كثيرة ولا ينحصر ذلك في خمسة أوصاف وتكون نفيا وإثباتا وتكون مناسبا وغير مناسب ويجوز أن لا تكون العلة موجودة في محل الحكم كتحريم نكاح الأمة لعلة رق الولد وتفارق العلة الشرعية العقلية في هذه الأوصاف
تعدية العلة
فصل قال أصحابنا من شرط صحة العلة أن تكون متعدية فإن كانت
قاصرة على محلها كتعليل الربا في الأثمان بالثمنية لم يصح وهو قول الحنفية لثلاثة أوجه
أحدها أن علل الشرع أمارات والقاصرة ليست أمارة على شيء
الثاني أن الأصل أن لا يعمل بالظن لأنه جهل ورجم بالظن وإنما جوز في العلة المتعدية ضرورة العمل بها والعلة القاصرة لا عمل بها فتبقى على الأصل
الثالث أن القاصرة لا فائدة فيها وما لا فائدة فيه لا يرد الشرع به
دليل المقدمة الآولى أن فائدة العلة تعدية الحكم والقاصرة لا تتعدى ودليل أن فائدتها التعدي أن الحكم ثابت في محل النص بالنص لكونه مقطوعا به والقياس مظنون ولا يثبت المقطوع بالمظنون وهو العلة إذا ثبت هذا تعين اعتبارها في غير محل النص والقاصرة لا يمكن فيها ذلك الحكم
فإن قيل فلو لم يكن الحكم مضافا إلى العلة في محل النص لما تعدى الحكم بتعديها ولا تنحصر الفائدة في التعدي بل في التعليل فائدتان سواه
أحداهما معرفة حكمة الحكم لاستمالة القلب إلى الطمأنينة والقبول بالطبع والمسارعة إلى التصديق
والثانية قصر الحكم على محلها إذ معرفة خلو المحل عن لالحكم يفيد ثبوت ضده وذلك فائدة
قلنا قولكم الحكم يتعدى مجاز يتعارفه الفقهاء فإن الحكم لو تعدى لخلا عنه المحل الأول والتحقيق فيه أنه لا يتعدى وإنما معناه أنه متى وجد في محل آخر مثل تلك العلة ثبت مثل ذلك الحكم وظننا أن باعث الشرع
على الحكم كذا لا يوجب إضافة الحكم في الثبوت إليه إذ لو كان مضافا إليه فكان على وفقه في القطع والظن إذ لا يثبت بالظن شيء مقطوع به وامتناع إضافة الحكم إلى العلة في محل النص لا لقصورها بل لأن ثم دليلا أقوى منها ففي غير محل النص يضاف إليها لصلاحيتها وخلوها من المعارض
وقولكم فائدة التعليل الاطلاع على حكمة الحكم ومصلحته
قلنا نحن لا نسد هذا الباب لكن ليس كل معنى استنبط من النص علة إنما العلة معنى تعلق الحكم به في موضع والقاصرة ليست كذلك
وقولهم فائدته قصر الحكم على محلها قلنا هذا يحصل بدون هذه العلة إذا لم يكن الحكم معللا قصرناه على محله
وقال أصحاب الشافعي يصح التعليل بها وهو قول بعض المتكلمين واختاره أبو الخطاب لثلاثة أوجه
أحدها أن التعدية فرع صحة العلة فلا يجوز أن تكون شرطا فإنه يفضي إلى اشتراط تقدم ما يشترط تأخره وذلك أن الناظر ينظر في استنباط العلة وإقامة الدليل على صحتها بالإيماء والمناسبة أو تضمن المصلحة المبهمة ثم ينظر فيها فإن كانت أعم من النص عداها وإلا اقتصر فالتعدية فرع الصحة فكيف يجوز أن تكون من جملة المصحح
الثاني أن التعدية ليست شرطا في العلة المنصوص عليها ولا في العقلية وهما آكد فكذلك القاصرة المستنبطة
الثالث أن الشارع لو نص على جميع القاتلين ظلما بوجوب القصاص لا يمنعنا أن نظن أن الباعث حكمة الردع والزجر وإن لم يتعد إلى غير قاتل
فإن الحكمة لا تختلف باستيعاب النص لجميع الحوادث أو اقتصاره على البعض
قولهم لا فائدة في التعليل بالعلة القاصرة عنه جوابان أحدهما المنع فإن فيها فائدتين ذكرناهما إحداهما قصر الحكم على محلها
قولهم إن قصر الحكم مستفاد من عدم التعليل قلنا بل يحصل هذا بالعلة القاصرة فإن كل علة غير المؤثرة إنما تثبت بشهادة الحكم وتتم بالسبر وشرطه الاتحاد فإذا ظهرت علة أخرى انقطع الحكم فإذا أمكن التعليل بعلة متعدية تعدي الحكم فإذا ظهرت علة قاصرة عارضت التعدية ورفعتها وبقي الحكم مقصورا على محلها ولولاها لتعدى الحكم
والثانية معرفة باعث الشرع وحكمته ليكون أسرع في التصديق وأدعى إلى القبول فإن النفوس إلى قبول الأحكام المعقولة أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد ولمثل هذا الغرض استحب الوعظ والتذكير وذكر محاسن الشريعة ولطائف معانيها وكون المصلحة مطابقة للنص على قدرة تزيده حسنا وتأكيدا
الثاني أننا لا نعني بالعلة إلا باعث الشرع على الحكم وثوبته بالنص لا يمنعنا أن نظن أن الباعث عليه حكمته التي في ضمنه كما ان تنصيصه على رخص السفر لا يمنعنا أن نظن أن حكمتها دفع مشقته وكذلك المسح على الخفين معلل بدفع المشقة اللاحقة بنزع الخف وإن لم يقس عليه غيره ولا يسقط هذا الظن باستيعاب مجاري الحكم ولما نص على أن كل مسكر حرام لم يمنعنا أن نظن أن باعث الشرع على التحريم السكر ولا حجر علينا في ان نصدق فنقول إنما ظننا كذا مهما ظننا كذا ولا مانع من هذا الظن وأكثر المواعظ ظنية
وطباع الآدميين خلقت مطية للظنون واكثر بواعث الناس على أعمالهم وعقائدهم الظنون
قولهم لا نسمي هذا علة قلنا متى سلمتم أن الباعث هذه الحكمة وهي غير متعدية وجب أن يقتصر الحكم على محلها وهو فائدة الخلاف ولا يضرنا أن لا تسموه علة فإن النزاع في العبارات بعد الإتفاق على المعنى لا يفيد وتلخيص ما ذكرناه أنه لا نزاع في أن القاصرة لا يتعدى بها الحكم ولا ينبغي أن ينازع في أن يظن أن حكمه الحكم المصلحة المنطوية في ضمن محل النص وإن لم يتجاوز محلها ولا ينبغي أن ينازع في تسميته علة أيضا لأنه بحث لفظي لا يرجع إلى المعنى فيرجع حاصل النزاع إلى أن الحكم المنصوص عليه إذا إشتمل على حكمتين قاصرة ومتعدية هل يجوز تعديته فالصحيح أنه لا يتعدى لأنه لا يمتنع أن يثبت الشارع الحكم في محل النص رعاية للمصلحة المختصة به أو رعاية للمصلحتين جميعا فلا سبيل إلى إلغاء هذين الاحتمالين بالتحكم ومع بقائهما تمتنع التعدية والله أعلم
فصل في إطراد العلة وهو إستمرار حكمها في جميع محالها حكى أبو حفص البرمكي في كون ذلك شرطا لصحتها وجهين
أحدهما هو شرط فمتى تخلف الحكم عنها مع وجودها استدللنا على
أنها ليست بعلة إن كانت مستنبطة أو على انها بعض العلة إن كانت منصوصا عليها ونصره القاضي أبو يعلى وبه قال بعض الشافعية
والوجه الآخر تبقى حجة فيما عدا المحل المخصوص كالعموم إذا خص إختاره أبو الخطاب وبه قال مالك والحنفية وبعض الشافعية لوجهين
أحدهما ان علل الشرع أمارات والأمارة لا توجب وجود حكمها معها أبدا بل يكفي كونه معها في الأغلب الأكثر كالغيم الرطب في الشتاء أمارة على المطر وكون مركوب القاضي على باب الأمير أمارة على أنه عنده وقد يجوز أن لا يكون عنده فلو لم يكن عنده في مرة لم يمنع ذلك من رأى تلك الأمارة أن يظن وجود ما هو أمارة عليه
الثاني أن ثبوت الحكم على وفق المعنى المناسب في موضع دليل على انه العلة بدليل أنه يكتفي بذلك وإن لم يظهر أمر سواه وتخلف الحكم يحتمل أن يكون لمعارض من فوات شرط أو وجود مانع ويحتمل أن يكون لعدم العلة فلا يترك الدليل المغلب على الظن لأمر محتمل متردد
فإن قيل نفي الحكم لمعارض نفي للحكم مع وجود سببه وهو خلاف الأصل ونفيه لعدم العلة موافق للأصل إذ هو نفي الحكم لإنتفاء دليله فيكون أولى
قلنا هو مخالف للأصل من جهة أخرى وهو أن فيه نفي العلة مع قيام دليلها والأصل توفير المقتضى على المقتضي فيتساويان ودليل العلة ظاهر والظاهر لا يعارض بالمحتمل المتردد
وفرق قوم بين العلة المنصوص عليها وبين المستنبطة وجعلوا نقض المستنبطة مبطلا لها وإن كانت ثابتة بنص أو إجماع فلا يقدح ذلك فيها
لأن كونها علة عرف بدليل متأكد قوي وتخلف الحكم يحتمل أن يكون لفوات شرط أو وجود مانع فلا يترك الدليل القوي لمطلق الاحتمال ولأن ظن ثبوت العلة من النص وظن إنتفاء العلة من إنتفاء الحكم مستفاد بالنظر والظنون الحاصلة بالنصوص أقوى من الظنون الحاصلة بالاستنباط وإن كان ثبوت العلة بالاستنباط بطلت بالنقض لأن ثبوت الحكم على وفق المعنى إن دل على إعتبار الشارع له في موضع فتخلف الحكم عنه يدل على ان الشرع الغاه
وقول القائل إنني أعتبره إلا في موضع أعرض الشرع عنه ليس بأولى ممن قال أعرض عنه إلا في موضع اعتبره الشرع بالتنصيص على الحكم ثم إن جوز وجود العلة مع إنتفاء الحكم من غير مانع وتخلف شرط فليجز ذلك في محل النزاع
قولهم ثبوت الحكم على وفق المعنى في موضع دليل على انه علة
قلنا وتخلف الحكم مع وجوده دليل على انه ليس بعلة فإن إنتفاء الحكم لإنتفاء دليله موافق للأصل وإنتفاؤه لمعارض على خلاف الأصل
قولهم إنه مخالف للأصل إذ فيه نفي العلة مع قيام دليلها فيتساوى الاحتمالان
قلنا متى سلمتم أن احتمال انتفاء الحكم لانتفاء السبب كاحتمال انتفائه لوجود المعارض على السواء لم يبق ظن صحة العلة إذ يلزم من الشك في دليل الفساد الشك في الفساد لا محالة إذ ظن صحة العلة مع الشك فيما يفسدها محال فهو كما لو قال أشك في الغيم وأظن الصحو أو أشك في موت زيد وأظن حياته
قولهم دليل العلة ظاهر قلنا والمعارض ظاهر أيضا فيتساويان فلا يبقى الظن مع وجود المعارض
قولهم العلة امارة والأمارة لا توجب وجود حكمها أبدا
قلنا إنما يثبت كونها أمارة إذا ثبت أنها علة والخلاف ههنا هل هذا الوصف علة وأمارة أم لا وليس الاستدلال على أنه علة بثبوت الحكم مقرونا به أولى من الاستدلال على أنه ليس بعلة بتخلف الحكم عنه إذ الظاهر أن الحكم لا يتخلف عن علته أو احتمال انتفاء الحكم في محل النقض لمعارض كاحتمال ثبوت الحكم في الأصل بغير هذا الوصف أو به وبغيره وكما أن وجود مناسب آخر في الأصل على خلاف الأصل كذلك وجود المعارض في محل النقض على خلاف الأصل فيتساويان وبهذا يتبين الفرق بين العلة المنصوص عليها والمستنبطة فإن المنصوص عليها يثبت كونها أمارة بغير اقتران الحكم بها فلا يقدح فيها تخلفه عنها كما لا يقدح في كون الغيم أمارة على المطر تخلفه عنه في بعض الأحوال والمستنبطة إنما يثبت كونها أمارة باقتران الحكم بها فتخلفه عنها ينفي ظن أنها أمارة والله أعلم
فإذا طريق الخروج عن عهدة النقض أربعة أمور
أحدها منع العلة في صورة النقض
والثاني منع تخلف الحكم
والثالث أن يبين أنه مستثنى عن القاعدة بكونه على خلاف الأصلين
وإن أمكن المعترض إبراز قياس ما ينقض مسألة النقض كانت علته المطردة أولى من المنقوضة ولم يقبل دعوى المعلل أنه خارج عن القياس
والرابع بيان ما يصلح معارضا في محل النقض أو تخلف ما يصلح شرطا ليظن أن انتفاء الحكم كان لأجله فيبقى الظن المستفاد من مناسبة الوصف وثبوت الحكم على وفقه كما كان فإن الغالب من ذات الشرع اعتبار المصالح والمفاسد فيظن أن عدم الحكم للمعارض فلا تكون العلة منتقضة
أضرب تخلف الحكم عن العلة
فصل تخلف الحكم عن العلة على ثلاثة أضرب
أحدها ما يعلم أنه مستثنى عن قاعدة القياس كإيجاب الدية على العاقلة دون الجاني مع أن جناية الشخص علة وجوب الضمان عليه وإيجاب صاع تمر في لبن المصراة مع أن علة إيجاب المثل في المثليات تماثل الأجزاء فهذه العلة معلومة قطعا ولا تنقض بهذه الصورة ولا يكلف المستدل الاحتراز عنه وكذلك لو كانت العلة مظنونة كإباحة بيع العرايا نقضا لعلة من يعلل الربا بالكيل أو الطعم فإنه مستثنى أيضا بدليل وروده على علة كل معلل فلا يوجب نقضا على القياس ولا يفسد العلة بل يخصصها بما وراء الاستثناء فيكون علة في غير محل الاستثناء ولا يقبل قول المناظر أنه مستثنى إلا أن يبين اضطرار الخصم إلى الاعتراف بكونه على خلاف قياسه أيضا أو بدليل يصلح لذلك
والثاني انتفاء الحكم لمعارضة علة أخرى
فإن قيل فلم لا ينعطف قيد على العلة يكون وصفا من أوصافها يندفع به النقض فنقول في مسألة المصراة العلة في وجوب المثل تماثل الأجزاء مع قيد الإضافة إلى غير المصراة ويكون التماثل المطلق بعض العلة وعلى هذا يكون تخلف الحكم في المصراة لعدم العلة فلا يكون نقضا فليجب على المعلل ذلك
قلنا بل العلة مطلق التماثل أما أن تكون سميت علة استعارة من البواعث فإن الباعث على الفعل يسمى علة الفعل فمن أعطى فقيرا شيئا لفقرة وعلل
بأنه فقير ثم منع فقيرا آخر وقال لأنه عدوي ومنع آخر وقال هو معتزلي فإن الباقي على الاستقامة التي يقتضيها أصل الفطرة لا يستبعد ذلك ولا نعده متناقضا ويجوز أن يقول أعطيته لفقره إذ الباعث هو الفقر وقد لا يحضره عند الإعطاء العداوة والاعتزال وانتفاؤهما ولو كانا جزءين من الباعث لم ينبعث إلا عند حضورهما في ذهنه وقد انبعث ولم يخطر بباله إلا مجرد الفقر كذلك مجرد التماثل علة لأنه الذي يبتعثنا على إيجاب المثل في ضمانه ولا تحضرنا مسألة المصراة أصلا في تلك الحالة ويقبح في مثل هذا أن يكلف الاحتراز عنه فيقول تماثل في غير المصراة
وأما أن يسمى العلة استعارة من علة المريض لأنها اقتضت تغيير حاله كذلك العلة الشرعية اقتضت تغيير الحكم فيجوز أن يسمى الوصف المقتضى علة بدون تخلف الشرط ووجود المانع فإن البرودة مثلا علة المرض في المريض لأنه يظهر عقيبها وإن كانت لا تحصل بمجرد البرودة بل ربما ينضاف إليها في المزاج الأصلي أمور كالبياض مثلا لكن يضاف المرض إلى البرودة الحادثة فيجوز أيضا أن يسمى التماثل المطلق علة وإن كان ينضاف إليها آخر إما شرطا وإما انتفاء المانع والله أعلم
ومن سماها علة أخذا من العلة العقلية وهو عبارة عما يوجب الحكم لذاته لم يسم التماثل المطلق علة ولم يفرق بين المحل والعلة والشرط بل العلة المجموع والأهل والمحل وصف من أوصاف العلة ولا فرق بين الجميع لأن العلة العلامة وإنما العلامة جملة الأوصاف والأول أولى لأن علل الشرع لا توجب الحكم لذاتها بل هي أمارة معرفة للحكم فاستعارتها مما ذكرنا أولى والله أعلم
الضرب الثاني تخلف الحكم لمعارضة علة أخرى كقوله علة رق الولد رق الأم ثم المغرور بحرية جارية ولده حر لعلة الغرر ولولا أن الرق في حكم
الحاصل المندفع لما وجب قيمة الولد فهذا لا يرد نقضا أيضا ولا يفسد العلة لأن الحكم ههنا كالحاصل تقديرا
الضرب الثالث أن يتخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها أو فوات شرطها كقولنا السرقة علة القطع وقد وجدت في النباش فيقطع فيقال يبطل بسرقة ما دون ا لنصاب وبسرقة الصبي أو بسرقة من غير الحرز
وكقولنا البيع علة الملك وقد جرى فليثبت الملك في زمن الخيار فيقال يبطل ببيع الموقوف والمرهون فهذا لا يفسد العلة لكن هل يكلف المناظر جمع هذه الشروط في دليله كيلا يرد ذلك نقضا فهذا اختلف فيه الجدليون والخطب فيه يسير فإن الجدل موضوع فكيف اصطلح عليه فإليهم ذلك والأليق تكليفه ذلك لأن الخطب فيه يسير وفيه ضم نشر الكلام وجمعه فأما تخلف الحكم لغير أحد هذه الأضرب الثلاثة فهو الذي تنقض العلة به وفيه من الاختلاف ما قد مضى
المستثنى من قاعدة القياس
فصل والمستثنى عن قاعدة القياس منقسم إلى ما عقل معناه وإلى مالا يعقل
فالأول يصح أن يقاس عليه ما وجدت فيه العلة من ذلك استثناء العرايا للحاجة لا يبعد أن نقيس العنب على الرطب إذا تبين أنه في معناه وكذا إيجاب صاع من تمر في لبن المصراة مستثنى من قاعدة الضمان بالمثل نقيس عليه ما لورد المصراة بعيب آخر وهو نوع إلحاق ومنه إباحة أكل
الميتة عند الضرورة صيانة للنفس واستبقاء للمهجة يقاس عليه بقية المحرمات إذا اضطر إليها ويقاس عليه المكره لأنه في معناه
وأما ما لا يعقل فكتخصيصه بعض الأشخاص بحكم كتخصيصه أبا بردة بجذعة من المعز وتخصيصه خزيمة بقبول بشهادته وحده وكتفريقه في بول الصبيان بين الذكر والأنثى ( فإنه لما ) لم ينقدح فيه معنى لم يقس عليه الفرق في البهائم بين ذكورها وإناثها وفي الجملة أن معرفة المعنى من شرط صحة القياس في المستثنى وغيره والله أعلم
جواز التعليل بنفي صفة أو اسم أو حكم
فصل قال أبو الخطاب يجوز أن تكون العلة نفي ( صفة ) أو اسم أو حكم
على قول أصحابنا كقولهم ليس بمكيل ولا موزون ليس بتراب لا يجوز بيعه فلا يجوز رهنه
وقال بعض الشافعية لا يجوز أن يكون العدم سببا لإثبات حكم لأن السبب لا بد أن يكون مشتملا على معنى يثبت الحكم رعاية له والمعنى إما تحصيل مصلحة أو نفي مفسدة والعدم لا يحصل به شيء من ذلك فلئن قلتم إنه تحصل به الحكمة فإن ما كان نافعا فعدمه مضر وما كان مضرا فعدمه يلزم منه منفعة ويكفي في مظنة الحكم أن يلزم منها الحكمة ولا يشترط أن يكون منشأ لها
قلنا لا ننكر ذلك لكن لا يناسب حكما في حق كل أحد بل إعدام النافع يناسب عقوبة في حق من وجد منه الإعدام زجرا له وإعدام المضر يناسب حكما نافعا في حق من وجد منه إعدامه حثا له على تعاطي مثله فالمناسبة في الوضعين انتسبت إلى الإعدام وهو أمر وجودي لا إلى العدم فلئن قلتم إن عدم الأمر النافع للشخص يناسب ثبوت حكم نافع له جبرا لحاله قلنا عنه جوابان
أحدهما منع المناسبة فإنه لا يخلو إما أن تثبت المناسبة بالنسبة إلى الله عز و جل أو إلى غيره وفي الجملة شرع الجائز إنما يكون معقولا على من وجد منه الضرر وأما شرعه في حق غيره فإنه عدول عن مذاق القياس ومقتضى الحكمة كإيجاب ضمان فرس زيد على عمرو إذا تلف بآفة سماوية
فإن قيل يناسب الثواب بالنسبة إلى الله عز و جل فهو عود الى الوجود ثم أن وجوبه على واحد من الخلق يلزم منه الضرر في حق من وجب عليه
بقدر ما يحصل من المصلحة لمن وجب له فلا يكون مناسبا فإن نفع زيد بضرر عمرو لا يكون مناسبا لكونهما في نظر الشرع على السواء
الثاني أنه لا يمكن اعتباره لقوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وإثبات الحكم له لمنفعته من غير سعيه مخالف للعموم
قلنا بل يجوز التعليل بالعدم فان علل الشرع أمارات على الحكم ولا يشترط فيها أن تكون منشأ للحكمة ولا مظنة لها وعند ذلك لا يمتنع أن ينصب الشارع العدم أمارة إذا كان ظاهرا معلوما ولو قال الشارع اعلموا أن ما لا ينتفع به لا يجوز بيعه وأن ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه فما المانع من هذا وأشباهه وقد تقرر بين الفقهاء أن انتفاء الشرط علامة على عدم المشروط فإنه ينتفي بانتفائه وإذا جاز ذلك في النفي ففي الاثبات مثله فإنه لو قال الشارع ما لا مضرة فيه من الحيوان فمباح لكم أكله وما لم يذكر اسم الله عليه فحرام عليكم أكله لم يمتنع ذلك وقد قال تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وهذا تعليل لتحريم الأكل على عدم ذكر اسم الله ولأن النفي يصلح أن يكون علة للنفي فيلزم منه أن يصلح التعليل به للإثبات لأن كل حكم له ضد فالحل ضده الحرمة والوجوب ضده براءة الذمة والصحة ضدها الفساد وكل ما نفي شيئا أثبت ضده فما كان لانتفاء الحرمة فهو علة الاباحة وما ذكروه من النفي لا يناسب اثبات الحكم في حق الآدمي لأنه يلزم منه ضرر في حق الآدمي الآخر
قلنا عنه جوابان
أحدهما أن جهات إثبات العلة لا تنحصر في المناسبة بل طرقها كثيرة على ما علم فلا يلزم من انتفاء طريق واحد انتفاؤها
الثاني أن المناسبة متحققة فيه فإن ما كان وجوده نافعا لزم من عدمه الضرر وما كان مضرا لزم من عدمه النفع فلله تعالى فرائض وواجبات كما أن له محظورات محرمات فكما ان فعل المحرمات يناسب شرع عقوبات في حق من فعلها زجرا عنها فعدم الفرائض يناسب ترتيب العقوبات على تاركها حثا عليها ولا بعد في قول من قال إن ترك الصلاة يناسب شرع القتل أو الضرب والحبس وكذلك أشباهها من الواجبات
وقولهم إن هذا إعدام غير صحيح بل هو مجرد عدم إذ الإعدام إخراج الموجود إلى العدم ولم يكن للصلاة من تاركها وجود فيعدمها ولا يلزم من ثبوت الحكم أن يكون في حق آدمي آخر
ثم لو لزم منه ضرر فلا تنتفي المناسبة بوجود الضرر على ما علم في موضع آخر ومثل هذا يوجد في الإثبات فلا فرق إذا وقوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى يتناول ما له دون ما عليه فليست عامة فلا يصح الاستدلال بها على عموم التعليل بالنفي على ان الآية إنما أريد بها الثواب في الآخرة دون احكام الدنيا بدليل أن فقر القريب صلح علة لإيجاب النفقة له وعدم المال في حق المسكين جعله مصرفا للزكاة وأمثال هذا يكثر والله أعلم
تعليل الحكم بعلتين
فصل يجوز تعليل الحكم بعلتين لأن العلة الشرعية أمارة ولا يمتنع نصب علامتين على شئ واحد ولذلك من لمس وبال في وقت واحد انتقض وضوؤه بهما ومن أرضعتها اختك وزوجة اخيك فجمع لبنهما وانتهى إلى حلقها دفعة واحدة حرمت عليك لأنك خالها وعمها ولا يحال على أحدهما
دون الآخر ولا يمكن أن يقال تحريمان وحكمان لأن التحريم له حد واحد وحقيقة واحدة ويستحيل اجتماع مثلين
فإن قيل فإذا ذكر المعترض علة أخرى في الأصل فلم يعارض علة المستدل لم يقبل هذا الاعتراض إذا أمكن الجمع بين علتين
قلنا إن كانت علة المستدل مؤثرة لم تبطل بذلك كما ذكرناه من الأمثلة وكاجتماع العدة والردة إذ دل الشرع على أن كل واحدة علة على حيالها وإن كانت ثابتة بالاستنباط فسدت بهذه المعارضة لأن ظن كونها علة إنما يتم بالسبر وهو أنه لا بد لهذا الحكم من علة ولا يصلح علة إلا هذا فإذا ظهرت علة اخرى بطلت إحدى المقدمتين وهو أنه لا يصلح علة إلا كذا مثاله من اعطى إنسانا شيئا فوجدناه فقيرا ظننا أنه أعطاه لفقره وعللنا به فإن وجدناه قريبا عللناه بالقرابة فإن وجدناه فقيرا قريبا أمكن أن يكون الإعطاء لهما أو لأحدهما فلا يبقى الظن أنه أعطاه لواحد بعينه
فإن قيل فلم يلزم العكس وهو وجود الحكم بدون العلة فإن العلل الشرعية أمارات ودلالات فإذا جاز اجتماع دلالات لم يكن من ضرورة انتفاء البعض انتفاء الحكم
قلنا هذا صحيح وانما يلزم العكس إذا لم يكن للحكم الا واحدة فإن الحكم لا بد له من علة فإذا اتحدت وانتفت فلو بقى الحكم لكان ثابتا بغير سبب وأما إذا تعدت العلة فلا ينتفي عند انتفاء بعضها بل عند انتفاء جميعها
القياس في الأسباب
فصل قال قوم يجوز إجراء القياس في الأسباب فنقول إنما نصب الزنى سببا لوجوب الرجم لعلة كذا وهو موجود في اللواط فيجعل سببا وإن كان لا يسمى زنى ومنع منه آخرون قالوا الحكم يتبع السبب دون حكمته فإن الحكمة ثمرة وليست علة فلا يجوز أن يوجب القصاص بمجرد الحاجة الى الزجر بدون القتل وإن علمنا أنه حكمه وجوب القصاص في القتل ولأن القياس في الأسباب يعتبر فيه التساوي في الحكمة وهذ أمر إستأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه
ولنا أن نصب الأسباب حكم شرعي فيمكن ان تعقل علته ويتعدى إلى سبب آخر فان اعترفوا بهذا ثم توقفوا عن التعدية كانوا متحكمين بالفرق بين حكم وحكم كمن يقول يجري القياس في حكم الضمان لا في القصاص وفي البيع دون النكاح وإن ادعوا الاحالة فمن أين عرفوا ذلك أبضرورة أو نظر كيف ونحن نبين إمكانه بالأمثلة
فإن قالوا هو ممكن في العقل لكنه غير واقع لأنه لا يلغي للأسباب علة مستقيمة تتعدى
قلنا قد ارتفع النزاع الأصولي إذ لا ذاهب الى تجويز القياس حيث لا تعقل العلة ولا تتعدى وهم قد ساعدوا على جواز القياس حيث أمكنت التعدية فارتفع الخلاف
ثم إننا نذكر إمكان القياس في الأسباب من منهجين
المنهج الأول تنقيح المناط فنقول قياس اللائط على الزاني كقياس الأكل على الجماع في إيجاب الكفارة فإنا تعرفنا أن وصف كونه زنى لا يؤثر بل المؤثر كونه إيلاج فرج في فرج محرم قطعا مشتهى طبعا
فإن قالوا ليس هذا بقياس فإن القياس ان يقال علق الحكم بالزنى لعلة كذا وهي موجودة في اللواط فيلحق به كما يقال ثبت التحريم في الخمر لعلة الشدة وهي موجودة في النبيذ فيضم النبيذ إلى الخمر في التحريم ولم نغير من الخمر شيئا ونحن لم نبين أن الحكم ثبت للجماع ولم نعلق به وإنما علقنا الحكم بإفساد الصوم فنتعرف الحكم الوارد شرعا أين ورد وكيف ورد وكذا انتم لم تعلقوا الحكم بالزنى وبهذا يظهر الفرق للمنصف بعد تعليل الحكم وتعليل السببية فإن تعليل الحكم تعدية له عن محله مع تقريره في محله وفي السببية إذا قلنا علق الشرع الرجم بالزنى لعلة كذا فألحقنا به غير الزنى تناقض آخر الكلام وأوله لأن الزنى إن كان مناطا من حيث أنه زنى فألحقنا به ما ليس بزنى أخرجنا الزنى عن كونه علة ومناطا فإنا نتبين بالآخرة أن الزنى لم يكن هو السبب بل معنى أعم منه وهو إيلاج فرج في فرج محرم فكيف يعلل كونه مناطا بما يخرج به عن كونه مناطا والتعليل تقرير لا تغيير وإنما يكون تعليلا أن لو بقي الزنى سببا وانضم اليه سبب آخر كما بقي الخمر محلا للتحريم وانضم محل آخر وذلك غير جار في الأسباب
قلنا هذا الطريق جار لنا في اللائط والنباش وهو نوع الحاق لغير المنصوص بالمنصوص بفهم العلة التي هي مناط الحكم فيرفع النزاع إلى الاسم ولا فائدة فيه أن يقول هذا بعينه جار في الأحكام فإن الخمر لما حرم لعلة الشدة تبينا أن وصف كونه خمرا لا أثر له والمؤثر إنما هو كونه مشتدا مزيلا للعقل كما تبينا أن المؤثر في الحد إيلاج فرج في فرج محرم وكما جعلتم الموجب للكفارة في الجماع كونه مفسدا للصوم فالقياس في كل موضع توسعة محل الحكم بحذف الأوصاف غير المؤثرة
وقولهم إنا نتبين بهذا ان الزنى لم يكن سببا
قلنا بل هو سبب لإشتماله على المعنى المؤثر
المنهج الثاني أن تعليل الحكم بالحكمة وتعدي الحكم بتعديها كما في قوله عليه السلام لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان إنما جعل الغضب سببا لأنه يدهش العقل ويمنع من استيفاء الفكر وهو موجود في الجوع والعطش المفرطين فنقيسهما عليه وكقولنا الصبي يولي عليه لحكمة وهي عجزه عن النظر لنفسه فينصب الجنون سببا قياسا على الصغر لهذه الحكمة وبذلك اتفق عمر وعلي على قتل الجماعة بالواحد قياسا على الواحد بالواحد للإشتراك في الحاجة إلى الردع والزجر
وقولهم الزجر ثمرة إنما تحصل بعد الحكم فكيف تكون علة
قلنا الحاجة إلى الزجر هي العلة لكون القتل سببا دون نفس الزجر كما يقال خرج الأمير للقاء زيد ولقاء زيد بعد خروجه لكن الحاجة إلى
اللقاء علة باعثة على الخروج سابقة عليه وإنما المتأخر نفس اللقاء كذلك ههنا الحاجة إلى العصمة هي الباعثة وهي متقدمة
القياس في الكفارات والحدود
فصل ويجري القياس في الكفارات والحدود وهو قول الشافعية وأنكره الحنفية لأن الكفارات والحدود وضعت لتكفير المآثم والزجر والردع عن المعاصي والقدر الذي يحصل ذلك به من غير زيادة أمر استأثر الله بعلمه وكذلك الحكم بمقدار معلوم في الصلاة والزكاة والمياه لا يعلمه إلا الله سبحانه فلم يجز الإقدام عليه بالقياس ولأن الحد يدرأ بالشبهة والقياس لا يخلو من الشبهة
ولنا ما تقدم في المسألة التي قبلها من أنه يجري فيه قياس التنقيح ولأنه حكم من أحكام الشرع عقلت علته فجرى فيه القياس كبقية الأحكام وما ذكروه يبطل بسائر الأحكام فإنها شرعت لمصالح العباد والقياس يجري فيها ولو ساغ ما ذكروه لساغ لنفاة القياس في الجملة ولأننا إنما نقيس إذا علمنا الأصل ويثبت ذلك عندنا بالقياس فيصير كالتوقيف فأما مالا نعلمه كأعداد الركعات ونحوه فلا يجري القياس عليه
وقولهم إن في القياس شبهة قلنا يبطل بخبر الواحد والشهادة ( والظاهر فإنه ) يثبت به الحد مع وجود الاحتمال فيه
النفي الطارىء والأصلي
فصل والنفي على ضربين طارىء كبراءة الذمة من الدين فهو حكم شرعي يجري فيه قياس العلة وقياس الدلالة كالإثبات
ونفي أصلي وهو البقاء على ما كان قبل ورود الشرع كانتفاء صلاة سادسة فهو منفي باستصحاب موجب العقل فلا يجري فيه قياس العلة لأنه لا موجب له قبل ورود السمع فليس بحكم شرعي حتى تطلب له علة شرعية بل هو نفي حكم الشرع ولا علة له إنما العلة لما يتجدد لكن يجري فيه قياس الدلالة وهو أن يستدل بانتفاء حكم شيء على انتفائه عن مثله ويكون ذلك ضم دليل إلى دليل هو استصحاب الحال والله أعلم
القوادح في القياس
فصل قال بعض أهل العلم يتوجه على القياس اثنا عشر سؤالا
( 1 ) الاستفسار ( 2 ) وفساد الاعتبار ( 3 ) وفساد الوضع ( 4 ) والمنع ( 5 ) والتقسيم ( 6 ) والمطالبة ( 7 ) والنقض ( 8 ) والقول بالموجب ( 9 ) والقلب ( 10 ) وعدم التأثير والفرق ( 11 ) والمعارضة ( 12 ) والتركيب
أما الاستفسار فيتوجه على المجمل وعلى المعترض إثبات الإجمال ويكفيه في إثباته بيان احتمالين في اللفظ ولا يلزمه بيان المساواة بينهما لأنه ليس في وسعه ذلك وجوابه بمنع تعدد الاحتمال أو بترجيح أحدهما
السؤال الثاني فساد الاعتبار وهو أن يقول هذا القياس يخالف نصا فيكون باطلا فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يصيرون إلى قياس مع ظفرهم بالخبر فإنهم كانوا يجتمعون لطلب الإخبار ثم بعد حصول اليأس كانوا يعدلون إلى القياس وقد أخر معاذ رضي الله عنه العمل به عن السنة فصوبه النبي صلى الله عليه و سلم
والجواب من وجهين أحدهما أن يبين عدم المعارضة
والثاني بيان أن القياس الذي استند إليه من قبيل ما يجب تقديمه على المعارض المذكور
السؤال الثالث فساد الوضع وهو أن يبين أن الحكم المعلق على العلة تقتضي العلة نقيضة مثاله ما لو قال في النكاح بلفظ الهبة ينعقد به غير النكاح فلا ينعقد به النكاح كالاجارة فيقال له هذا تعليق على العلة ضد ما تقتضيه فإن إنعقاد غير النكاح به يقتضي انعقاد النكاح به لا عدم الانعقاد
وجوابه من وجهين
أحدهما أن يدفع قول الخصم أنه يقتضي نقيض ذلك
الثاني أن يسلم ذلك ويبين انه يقتضي ما ذكره من وجه آخر والحكم على وفقه فيجب تقديمه لأن الأخذ بما ظهره اعتباره اولى من الأخذ بغيره فإن ذكر الخصم لما ذكره أصلا يشهد له بالاعتبار فهو انتقال الى سؤال المعارضة
السؤال الرابع المنع ومواقعه أربعة
منع حكم الأصل ومنع وجود ما يدعيه علة الأصل ومنع كونه علة ومنع وجوده في الفرع
وقد اختلف في انقطاع المستدل عند توجه منع الحكم في الأصل والصحيح انه لا ينقطع على التفصيل الذي ذكرناه
الثاني منع وجود ما يدعيه علة في الأصل فعند ذلك يحتاج المستدل إلى إثباته إن كان عقليا بالاسترواح إلى أدلة العقل وإن كان محسوسا بالاستناد إلى شهادة الحس وإن كان شرعيا فبدليل شرعي وقد يقدر على ذلك بإثبات أثر وأمر يلازمه
الثالث منع كونه علة فيحتاج إلى إثباتها بأحد الطرق التي ذكرناها
الرابع منع وجود ما ادعاه علة في الفرع ولا بد من بيان ذلك بطريقة
السؤال الخامس التقسيم وحقه أن يقدم على المطالبة إذ فيه منع والمطالبة تسليم محض والمنع بعد التسليم غير مقبول إذ هو رجوع عن ما إعترف به
والتسليم بعد المنع يقبل لأنه إعتراف بما أنكر فيقبل لأنه علته والإنكار بعد الإعتراف له فلا يقبل ويشترط لصحته شرطان
أحدهما أن يكون ما ذكره المستدل منقسما إلى ما يمنع ويسلم فلو أورد ذلك بذكر زيادة في الدليل على ما ذكره المستدل فلا يصح لأنه يمهد لنفسه شيئا ثم يوجه الاعتراض فحينئذ يكون مناظرا مع نفسه لا مع خصمه
الثاني أن يكون حاصرا لجميع الأقسام فإنه إذا لم يكن حاصرا فللمستدل أن يبين أن مورده غير ما عينه المعترض بالذكر فعند ذلك يندفع وطريق المعترض في صيانة تقسيمه عن هذا الدفع أن يقول عند التقسيم إن عنيت به هذا المحتمل فمسلم والمطالبة متوجهة وإن عنيت به ما عداه فممنوع
وذكر قوم ان من شرط صحته أن يكون الاحتمال في الأقسام على السواء لكن يكفيه بيان الاحتمالات ولا يلزمه بيان المساواة لكونه غير مقدور عليه وأنه إذا بين المستدل ظهور اللفظ في مجمل إما بحكم الوضع وإما بحكم العرف وإما بقرينه وجدت فسد التقسيم
قالوا ولو لم يكن اللفظ مشهورا في احدهما فللمستدل ان يبين ظهوره بأن يقول للمعترض سلمت أن اللفظ غير ظاهر في غير هذا المحتمل ولا بد للمعترض من تسليم ذلك ضرورة صحة تقسيمه فإن شرطه تساوي الاحتمالات وأنه أسلم ذلك أيضا فيلزم ان يكون ظاهرا في الاحتمال الذي عينه ضرورة نفي الاشتراك فإنه على خلاف الأصل
ويمكن أن يمنع ان تساوي الاحتمالات شرط إذ لا حجر على المستدل أن يفسر كلامه بما يحتمله وإن كان الظاهر خلافه فكذلك لا حجر على المقسم في تقسيمه إلى ما يمكن المستدل أن يفسر كلامه به
وجواب التقسيم من حيث الجدل بدفع انقسام الكلام أو بيان ظهور أحد الاحتمالين أو بيان أن الكلام غير منحصر في الأقسام المذكورة وإن إختار الجواب الفقهي فأمكنه الدلالة على المنع واختيار القسم المسلم فالأحسن اختيار القسم لأنه يستغني عن الدلالة على المنع وإن إختار القسم الآخر جاز فإن فيه تكثيرا للفقه وإن لم يقدر إلا على سلوك أحد الطريقين فليختره
القسم السادس في السؤال المطالبة وهي طلب المستدل بذكر ما يدل على أن ما جعله جامعا هو العلة وهو المنع الثالث في المعنى وفيه تسليم وجود العلة في الفرع وفي الأصل وتسليم الحكم
وجواب ذلك كونه علة بأحد الطرق التي ذكرناها
القسم السابع في السؤال النقض ومعناه إبداء العلة بدون الحكم أي أن لا تكون العلة مطابقة للحكم وقد ذكرنا الخلاف في كونه مفسدا للعلة فيما مضى ورجحنا قول من قال بصحة النقض واختلف في وجوب الاحتراز في الدليل على صورة النقض والأليق وجوب الإحتراز فإنه اقرب إلى الضبط وأجمع لنشر الكلام وهو هين
ثم للمستدل في دفع النقض طرق أربعة
منها منع وجود العلة أو الحكم في صورة النقض وليس للمعترض أن يدل عليه إذ فيه نقل الكلام إلى مسألة أخرى وتصدي المعترض لمنصب الاستدلال وكل واحد منها على خلاف ما يقتضيه جمع الكلام
فإن قال المستدل لا أعرف الرواية فيها كفى ذلك في دفع النقض لأن
كون هذه المسألة من مذهبه مشكوك فيه فلا يترك ما قام الدليل على صحته لأمر مشكوك فيه
الثالث أن يبين في الموضع الذي تخلف فيه الحكم فيه ما يصلح مستندا لذلك من فوات شرط أو وجود مانع ليظن استناد تخلف الحكم إليه فيبقى الظن المستفاد من الدليل بحاله ويكفيه أن يبين في صورة النقض معنى يناسب انتفاء الحكم أو فوات أمر يناسب الاشتراط فإن الغالب اعتبار المصالح والمفاسد ولا يعتبر قول من قال لا بد أن يبين وجود المانع أو فوات الشرط في صورة النقض ولا يثبت ذلك ما لم يوجد المقتضى ولا يثبت كونه مقتضيا ما لم يثبت المانع فيفضي الى الدور لأنا نقول كونه مناسبا معتبرا يدل على كونه مقتضيا وإنما ترك لمعارضة تخلف الحكم فإذا ظهر ما يصلح مستندا له وجب إحالة الحكم عليه وبقي الظن الأول بحاله ولو أبدى النقض على اصل المستدل فيلزمه الاعتذار عنه ويكفيه في ذلك امر يوافق أصله وإن أبداه على اصل نفسه وقال هذا الوصف لم يطرد على اصلي فكيف يلزمني اتباعه ولم يصح فإن المستدل إذا ثبت ان ما ذكره مقتضى للحكم نظرا إلى الدليل لزم خصمه الانقياد إليه والعمل بمقتضاه في جميع الصور وكان حجة عليه في صورة النقض كما هو حجة في المسألة التي هما فيها فإن ما ذكره في الدليل على كونه علة مغلب للظن إنما يترك لمعارض ولا تقبل معارضة الخصم بأصل نفسه
الرابع في دفع النقض أن يبين كونه مستثنى عن القاعدة بكونه على خلاف الأصلين على ما مر ولو قال المعترض ما ذكرته من الدليل على كونه علة موجود في صورة النقض فهذا نقض لدليل العلة لا لنفس العلة فيكون انتقالا من سؤال الى سؤال ويكفي المستدل في ذلك أدنى دليل يليق بأصله
وأما الكسر وهو إبداء الحكمة بدون الحكم فغير لازم لأن الحكم مما لا ينضبط بالرأي والاجتهاد فيتعين النظر إلى مرد الشارع في ضبط مقدارها
وإذا احترز عن النقض بذكر وصف في العلة لا أثر له في الحكم لو عدم في الأصل لم يعدم الحكم بعدمه لم يندفع النقض به نحو قولهم في الاستجمار حكم يتعلق بالأحجار يستوي فيه الثيب والأبكار فاشترط فيه العدد كرمي الجمار
وقال قوم يندفع به النقض لأن العلة يشترط فيها الطرد فإذا لم يكن الوصف المؤثر مطردا ضممنا إليه وصفا غير مؤثر لتكون العلة مؤثرة مطردة
ولنا أن الوصف الطردي بمفرده لا يصلح للتعليل به في موضع فلا يجوز التعليل به مع غيره كما لو كان خاليا عن الطرد والتأثير وهذا صحيح فإن ما ليس له اثر إذا كان مفردا لا يؤثر بغيره كالفاسق في الشهادة وإن احترز عن النقض بشرط ذكره في الحكم مثل أن يقول حران مكلفان محقونا الدم فوجب أن يثبت بينهما القصاص في العمد كالمسلمين فقيل هذا اعتراف بالنقض لأن علته الأوصاف المذكورة أولا فيجب أن يثبت حكمها حيث وجدت
فإذا قال في العمد اعترف بتخلف حكمها في الخطأ فتكون العلة قاصرة ويجب أن يذكر العمد إن كان وصفا من العلة مع الأوصاف المتقدمة
وقال آخرون هو صحيح لأن الوصف المذكور آخرا وهو العمد متقدم في المعنى وهذا جائز كتقديم المفعول على الفاعل وإن كان متأخرا في اللفظ فإن للعمد أثرا في القصاص فيجب أن يكون من جملة العلة واختاره أبو الخطاب
الوجه الثامن في الاعتراض القلب ومعناه أن يذكر لدليل المستدل حكما ينافي حكم المستدل مع تبقية الأصل والوصف بحالها وهو قسمان
أحدهما أن يبين أنه يدل على مذهبه مثاله أن يعلل حنفي في
الاعتكاف بغير صوم بأنه لبث محض فلا يكون قربة بمفرده كالوقوف بعرفة فيقول المعترض لبث محض فلا يعتبر الصوم في كونه كالوقوف بعرفة
القسم الثاني أن يتعرض لبطلان مذهب خصمه كما لو قال حنفي في مسح الرأس ممسوح في الطهارة فلا يجب استيعابه كالخف أو فيقول خصمه ممسوح في الطهارة فلا يتقدر بالربع كالخف يقول في بيع الغائب عقد معاوضة فينعقد مع جهل العوض كالنكاح فيقول خصمه فلا يعتبر فيه خيار الرؤية كالنكاح فيلزم من الوفاءبموجب ذلك امتناع التصحيح فإنه لازم لذلك في مذهب الخصم ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم لا محالة
والقلب نوع من المعارضة لكنه يزيد على مطلق المعارضة بكونه يعارضه بعين المذكور فيستغنى عن مؤن كثيرة يحتاج إليها في المعارضة من الأصل وبيان الجامع
ويجبي عن هذا السؤال بما يجيب به عن المعارضة إلا أنه يسقط منه منع وجود الوصف
الوجه التاسع في السؤال المعارضة وهو قسمان
معارضة في الأصل ومعارضة في الفرع وأحسنها المعارضة في الأصل لأنه لا يحتاج إلى ذكر غير صلاحية ما يذكره ولا يحتاج إلى أصل وفي المعارضة في الفرع يحتاج إلى ذكر صلاحية ما يذكره للتعليل وأصل يشهد له ثم ينقلب مستدلا والمستدل معترضا عليه
ومعنى المعارضة في الأصل أن يبين في الأصل الذي قاس عليه المستدل معنى يقتضي الحكم فقد قال قوم إنه لا يحتاج المستدل إلى حذفه لأنه لو انفرد ما ذكره صح التعليل به وإنما صح لصلاحيته لا لعدم غيره إذ العدم ليس من جملة العلة وصلاحيته لا تختلف ولأن معنى العلة أنه إذا وجدت
ثبت الحكم عقبها فعند ذلك لا تتحقق المعارضة بين الوصفين إذا أمكن بأن قال إذا وجد كل واحد منهما ثبت الحكم فإن بين المعترض أن الوصف الذي ذكره يناسب إثبات الحكم عند وجود ما ذكره المستدل فيكون من قبيل المانع في الفرع
والصحيح أن المستدل يلزمه حذف ما ذكره المعترض إذ المناسب العرى عن شهادة الأصل غير المعمول به فإذا استند إلى أصل ثبت الحكم على وفقه فالناظر المجتهد ليس له العمل به مالم يبحث بحيث يستفيد ظنا غالبا انه ليس ثم مناسب آخر
وأما المناظر فيكفيه مجرد تقرير المناسبة وإثبات الحكم على وفقه دفعا لشغب الخصم إلى أن يبين المعترض في الأصل مناسبا آخر فعند ذلك يتعارض احتمالات ثلاثة
أحدها أن يثبت الحكم رعاية لما ذكره المستدل واحتمال ثبوت رعايته لهما جميعا ولعل هذا الاحتمال أظهر فإنه لو قدر ثبوت الحكم لأحدهما بعينه كان إعراضا عن اعتبار الآخر وهو خلاف دأب الشارع فإنه لا يزال يسعى في اعتبار المصالح ويمتنع التعليل بكل واحد من المناسبين استقلالا
فإن معنى تعليل الحكم بالمناسب ثبوته لمصلحته لا غير أي هي كافية فعند ذلك يمتنع مثل هذا القول بالنسبة إلى الآخر لما بينهما من التضاد فإنا إذا قلنا لهذا لا غير فقد نفينا ما عداه فإذا قلنا ثبت لهذا الثاني لا غير كان هذا القول على نقيض الأول ولا يمكن تعليل الحكم بواحد بعينه بدون ضميمة قولنا لا غير فإن هذا موجود بالنسبة إلى كل واحد من أجزاء العلة والعلة المجموع لا كل جزء بمفرده وإن فسرت العلة بأنها أمارة فمتى عرف ثبوت الحكم بشيء استحال معرفة ثبوته بغيره إذ المعلوم لا يعلم ثانيا
وبيان أن الاحتمال الثالث أظهر أنه لو رأينا إنسانا أعطى فقيرا ذا قرابة
له غلب على الظن أنه أعطاه لهما جميعا ثم لا حاجة للمعترض إلى ترجيح احتمال بل يكفيه تعارض الاحتمالات فيحتاج المستدل إلى دليل ترجيح ما يذكره فإنه لا أقل من الدليل المظنون في إثبات الغرض
ثم غرض المعترض يحصل بأحد الاحتمالين
احتمال ثبوت الحكم بمجرد ما ذكره واحتمال ثبوته بالمناسبين جميعا وغرض المستدل لا يحصل إلا من احتمال ثبوت الحكم بمجرد ما ذكره ووجود أحد الاحتمالين لا بعينه أقرب من احتمال واحد متعين في نفسه إذا تساوت الاحتمالات
وللمستدل في الجواب طرق أربعة
أحدها أن يبين أن مثل ذلك الحكم ثابت بدون ما ذكره المعترض فيدل على استقلال ما ذكره المستدل بالحكم
فإن بين المعترض في الأصل الآخر مناسبا آخر لزم المستدل أيضا حذفه ولا يكفيه أن يقول كل واحد من المناسبين ملغي بالأصل الآخر لجواز أن يكون الحكم في كل أصل معللا بعلة مختصة به فإن العكس غير لازم في العلل الشرعية
الطريق الثاني أن يبين إلغاء ما ذكره المعترض في جنس الحكم المختلف فيه كظهور إلغاء صفة الذكورية في جنس أحكام العتق ولذلك ألحقنا الأمة بالعبد في السراية
الطريق الثالث أن يبين أن العلة ثابتة بنص أو تنبيه من الشارع على ما ذكرناه فيما تقدم
الطريق الرابع يختص ما يدعي المعترض فيه أن ما ذكره علة مستقلة
بدون ضميمة إلى ما ذكره المستدل وهو أن يبين رجحان ما ذكره على ما أبرزه المعترض فإذا ظهر ذلك إما بدليل وإما بتسليم المعترض لزم أن يكون هو العلة إذا توافقنا على كون الحكم معللا بأحدهما كالكيل مع الطعم لامتناع اعتبار المرجوح وإلغاء الراجح فإن تحصيل المصلحة على وجه يفوت مصلحة أعظم منها ليس من شأن العقلاء فلا يمكن نسبته إلى الشارع إذا ثبت هذا فإذا كان ما ذكره المستدل مناسبا فلا يكفي المعترض أن يذكر وصفا شبيها لأن المناسب أقوى على ما لا يخفي
القسم الثاني في المعارضة المعارضة في الفروع وهو أن يذكر في الفرع ما يمتنع معه ثبوت الحكم وهو ضربان
أحدهما أن يعارضه بدليل آكد منه من نص أو إجماع وقد ذكرناه في فساد الاعتبار
الثاني أن يعارضه بإبداء وصف في الفرع وقد يذكر في معرض كونه مانعا للحكم في الفرع وقد يذكر في معرض كونه مانعا للسببية فإن ذكر مانعا للحكم احتاج في إثبات كونه مانعا إلى مثل طريق المستدل في إثبات حكمه من العلة والأصل ويفتقر إلى أن تكون علة المعترض في القوة كعلة المستدل إن كان طريق المستدل النص أو التنبيه فلا يكفي المعترض المعارضة بوصف مخيل وإن كان طريقه المناسبة فلا يكفي المعترض المعارضة بوصف شبهي وإن ادعى كونه مانعا للسببية مع عدم احتمال الحكمة فقد قيل لا يحتاج إلى أصل فإن الحكم ثبت للحكمة وقد علمنا انتفاءها وإن بقي احتمال الحكمة ولو على بعد لم يضر المستدل لما عرف من دأب الشارع الاكتفاء بعد المظنة باحتمال الحكمة وإن بعد فيحتاج إلى أصل يشهد له بالاعتبار ليبين به أن الشارع لا يكتفي بما وجه من احتمال الحكمة معه
وفي المعارضة في الفرع ينقلب المستدل معترضا فيعترض دليل المعترض
بما أمكنه من الأسئلة التي ذكرناها وقد قال قوم لا تقبل المعارضة لأن حق المعترض هدم ما بناه المستدل وذكر المعارضة بناء فلا يليق بحاله
والصحيح أنها تقبل إذ فيه هدم ما بناه فإن دليل المستدل إذا صار معارضا لم تبق دلالته إذ المعارض له حكم العدم في إثبات الحكم
الوجه العاشر في السؤال عدم التأثير ومعناه أن يبدي المعترض في الدليل ما يستغنى عنه في إثبات الحكم في الأصل إما لأن الحكم يثبت بدونه وإما لكونه وصفا طرديا مثال الأول ما لو قال في بيع الغائب مبيع لم يره فلا يصح بيعه كالطير في الهواء فذكر عدم الرؤية ضائع فإن الحكم يثبت في الأصل بدونه فإنه لا يصح بيع الطير في الهواء ولو كان مرئيا فيعلم أن العلة فيه غير ما يذكره المستدل
ومثال الثاني قولهم في الصبح صلاة لا يجوز قصرها فلا يجوز تقديم أذانها على الوقت كالمغرب فإن هذا وصف طردي على ما لا يخفى وإن ذكر الوصف لدفع النقض لكونه يشير إلى خلو الفرع عن المانع أو إلى اشتماله على شرط للحكم فلا يكون من هذا القسم وهكذا لو كان الوصف المذكور يشير إلى اختصاص الدليل ببعض صور الخلاف فيكون مفيد الغرض في بعض الصور فيكون مقبولا إذا لم تكن الفتيا عامة
وإن عم الفتيا فليس له أن يخص الدليل ببعض الصور لأنه لا يفي بالدليل على ما أفتى به والله أعلم
الوجه الحادي عشر في السؤال التركيب وهو القياس المركب من اختلاف مذهب الخصم كما لو قيل في المرأة البالغة إنها أنثى فلا تزوج نفسها كابنة خمس عشرة فالخصم يعتقد أنها لا تزوج نفسها لصغرها فقد قيل هذا قياس فاسد لأنه فرار عن فقه المسألة برد الكلام إلى مقدار سن البلوغ
وهي مسألة أخرى وليس ذلك بأولى من عكسه وقيل يصح التمسك به لأن حاصل السؤال راجع إلى المنازعة في الأصل وإبطال ما يدعي المعترض تعليل الحكم به ليسلم ما يدعيه من الجامع في الأصل ولا يلزم من ذلك فساد القياس كما في سائر المواضع
الوجه الثاني عشر في السؤال القول بالموجب وحقيقته تسليم ما جعله المستدل موجبا لدليله مع بقاء الخلاف وإذا توجه انقطع المستدل وهو آخر الأسئلة إذ بعد تسليم الحكم والعلة لا تجوز له المنازعة في واحد منها بل إما أن يصح فينقطع المستدل وإما أن يفسد فينقطع المعترض ومورد ذلك موضعان
أحدهما أن ينصب الدليل فيما يعتقده مأخذا للخصم كما لو قال في القتل بالمثقل التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتفاوت في المتوسل إليه
فيقول المعترض أنا قائل بموجب الدليل والتفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القتل ولا يلزم القصاص فإنه لا يلزم من عدم المانع ثبوت الحكم وهذا النوع يتفق كثيرا
وطريق المستدل في دفعه أن يبين لزوم محل النزاع منه إن قدر عليه أو يبين أن الخلاف مقصور فيما يعرض له في الدليل كما في مسألة المدين لو ذكر في الدليل حكما أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة أو في مسألة وطء الثيب أن الوطء لا يمنع الرد ونحو ذلك مما اشتهرت المسألة به فإن اشتهار المسألة به يدل على وقوع الخلاف فيه أو يقول عن هذا الحكم سئلت وبه أفتيت وعن دليله سئلت فالقول بموجبه تسليم لما وقع التنازع بيننا فيه
واختلف في تكليف المعترض إبداء مستند القول بالموجب فقيل يلزمه
ذلك كيلا يأتي به نكرا وعنادا ومنهم من قال لا يلزمه ذلك فإنه إذا سلم ما ذكره المستدل وعرف أنه لا يلزم منه الحكم فقد وفي بما هو حقيقة القول بالموجب وبقي الخلاف بحاله فيتبين أن ما ذكروه ليس بدليل
المورد الثاني أن يتعرض المستدل لحكم يمكن المعترض تسليمه مع بقاء الخلاف مثاله لو قال في وجوب زكاة الخيل حيوان تجوز المسابقة عليه فتجب الزكاة فيه كالإبل فيقول المعترض أنا قائل بموجبه وعندي أنه تجب فيه زكاة التجارة والنزاع في زكاة العين وطريق المستدل في الدفع أن يقول النزاع في زكاة العين وقد عرفنا الزكاة بالألف واللام في سياق الكلام فينصرف إلى وضع الخلاف ومحل الفتيا
ولو أورد القول بالموجب على وجه يغير الكلام عن ظاهره فلا يتوجه فيكون منقطعا مثاله ما لو قال المستدل في إزالة النجاسة مائع لا يرفع الحديث فلا يزيل النجس كالمرق فيقول المعترض أقول به فإن الخل النجس عندي لا يزيل النجاسة ولا الحدث فلا يصح ذلك فإنه يعلم من حال المستدل أنه يعني بقوله مائع الخل الطاهر إذ هو محل النزاع واللفظ يتناوله والله سبحانه أعلم
وقد يعترض على القياس بغير ما ذكرناه كقول نفاة القياس هذا استعمال للقياس في الدين ولا نسلم أنه حجة وقول الحنفية هذا استعمال للقياس في الحدود والكفارات أو في الأسباب ونحو ذلك مما بينا مسائله فيما مضى وذكرنا حجة خصومنا والجواب عنها فلا حاجة إلى إعادته وقد اختلف في وجوب ترتيب الاسئلة ولا خلاف في أنه أحسن وأولى والله سبحانه وتعالى أعلم
الاجتهاد
فصل اعلم أن الاجتهاد في اللغة بذل الجهد واستفراغ الوسع في فعل ولا يستعمل إلا فيما فيه جهد يقال اجتهد في حمل الرحى ولا يقال اجتهد في حمل خردلة
وهو في عرف الفقهاء مخصوص ببذل الجهد في العلم بأحكام الشرع
أنواع الاجتهاد والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب إلى أن يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب
وشرط المجتهد إحاطته بمدارك الأحكام المثمرة لها وهي الأصول التي فصلناها
الكتاب والسنة والإجماع واستصحاب الحال والقياس التابع لها وما يعتبر في الحكم في الجملة وتقديم ما يجب تقديمه منها فأما العدالة فليست شرطا في كونه مجتهدا بل متى كان عالما بما ذكرناه فله أن يأخذ باجتهاد نفسه لكنها شرط لجواز الاعتماد على قوله فمن ليس عدلا لا تقبل فتياه
والواحب عليه في معرفة الكتاب معرفة ما يتعلق منه بالأحكام وهي قدر خمسمائة آية ولا يشترط حفظها بل علمه بمواقعها حتى يطلب الآية المحتاج إليها وقت حاجته
والمشترط في معرفة السنة معرفة أحاديث الأحكام وهي وإن كانت
كثيرة فهي محصورة ولا بد من معرفته للناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة ويكفيه أن يعرف أن المستدل به في هذه الحادثة غير منسوخ
ويحتاج أن يعرف الحديث الذي يعتمد عليه فيها أنه صحيح غير ضعيف إما بمعرفة رواته وعدالتهم وإما بأخذه من الكتب الصحيحة التي ارتضى الأئمة رواتها
وأما الإجماع فيحتاج إلى معرفة المواقع ويكفيه أن يعرف أن المسألة التي يفتي فيها هل هي من المجمع عليه أم من المختلف فيه أم هي حادثة ويعلم استصحاب الحال على ما ذكرناه في بابه
ويحتاج إلى معرفة نصب الأدلة وشروطها ومعرفة شيء من النحو واللغة يتيسر به فهم خطاب العرب وهو ما يميز به بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه ولا يلزمه من ذلك إلا القدر الذي يتعلق به الكتاب والسنة ويستولي به على مواقع الخطاب ودرك دقائق المقاصد فيه
فأما تفاريع الفقه فلا حاجة إليها لأنها مما ولده المجتهدون بعد حيازة منصب الاجتهاد فكيف تكون شرطا لما تقدم وجوده عليها
وليس من شرط المجتهد في مسألة بلوغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل بل متى علم أدلة المسألة الواحدة وطرق النظر فيها فهو مجتهد فيها وإن جهل حكم غيرها فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيها عارفا بالفرائض أصولها ومعانيها وإن جهل الأخبار والواردة في تحريم المسكرات والنكاح بلا ولي إذ لا استمداد لنظر هذه المسألة منها فلا تضر الغفلة عنها
ولا يضره أيضا قصوره عن علم النحو الذي يعرف به قوله امسحوا برؤوسكم وقس عليه كل
مسألة ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم والأئمة ممن بعدهم قد كانوا يتوقفون في مسائل
وسئل مالك عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين لا أدري ولم يكن توقفه في تلك المسائل مخرجا له عن درجة الاجتهاد والله أعلم
التعبد بالقياس والاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه و سلم
مسألة
ويجوز التعبد بالقياس والاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه و سلم للغائب فأما الحاضر فيجوز له ذلك بإذن النبي صلى الله عليه و سلم
وأكثر الشافعيه يجوزون ذلك بغير اشتراط
وأنكر قوم التعبد بالقياس في زمن النبي صلى الله عليه و سلم لأنه يمكن الحكم بالوحي الصريح فكيف يردهم إلى الظن وقال آخرون يجوز للغائب ولا يجوز للحاضر
ولنا قصة معاذ حين قال أجتهد رأيي فصوبه وقال لعمرو بن العاص
احكم في بعض القضايا فقال اجتهد وأنت حاضر فقال نعم إن اصبت فلك أجران وإن أخطأت فلك أجر
وقال لعقبة بن عامر ولرجل من الصحابة اجتهدا فإن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن أخطأتما فلكما حسنة
وفوض الحكم في بني قريظة إلى سعد بن معاذ فحكم
وصوبه النبي صلى الله عليه و سلم ولأنه ليس في التعبد به استحالة في ذاته ولا يفضي إلى محال ولا مفسدة ولا يبعد أن يعلم الله تعالى لطفا فيه يقتضي أن يناط به صلاح العباد بتعبدهم بالاجتهاد لعلمه أنه لو نص لهم على قاطع لعصوا كما ردهم في قاعدة الربا إلى الاستنباط من الأعيان الستة مع إمكان التنصيص على كل مكيل وموزون أو مطعوم وكان الصحابة يروي بعضهم عن بعض مع إمكان مراجعة النبي صلى الله عليه و سلم كيف ورسول الله صلى الله عليه و سلم قد تعبد بالقضاء بالشهود والحكم بالظاهر حتى قال إنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي على نحو مما أسمع وكان يمكن نزول الوحي بالحق الصريح في كل واقعة وإمكان النص لا يجعل النص موجودا والله سبحانه وتعالى أعلم
تعبد النبي صلى الله عليه و سلم بالاجتهاد
فصل ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه وأنكر ذلك قوم لأنه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح ولأن قوله نص قاطع والظن يتطرق إليه احتمال الخطأ فهما متضادان
ولنا أنه ليس بمحال في ذاته ولا يفضي إلى محال ولا مفسدة ولأن الاجتهاد طريق لأمته وقد ذكرنا أنه يشاركهم فيما ثبت لهم من الأحكام
وقولهم هو قادر على الاستكشاف قلنا فإذا استكشف فقيل له حكمنا عليك أن تجتهد فهل له أن ينازع الله تعالى فيه
وقولهم إن قوله نص قلنا إذا قيل له ظنك علامة الحكم فهو يستيقن الظن والحكم جميعا فلا يحتمل الخطأ
ومنع هذا القدرية وقالوا إن وافق الصلاح في البعض فيمتنع أن يوافق الجميع
وهو باطل لأنه لا يبعد أن يلقى الله تعالى في اجتهاد رسوله فيه صلاح عباده
وأما وقوع ذلك فاختلف أصحابنا فيه واختلف أصحاب الشافعي فيه أيضا وأنكره أكثر المتكلمين لقول الله تعالى وما ينطق عن الهوى ولأنه لو كان مأمورا به لأجاب عن كل واقعة ولما انتظر الوحي ولنقل ذلك واستفاض ولأنه كان يختلف اجتهاده فيفهم بسبب تغير الرأي
ولنا قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وهو عام ولأنه عوتب في أسارى بدر ولو حكم بالنص لما عوتب ولما قال في مكة لا يختلي خلاها قال العباس إلا الإذخر فقال إلا الإذخر ولما سئل عن الحج
ألعامنا هذا هو أم للأبد فقال للأبد ولو قلت لعامنا لوجب ولما نزل بدر للحرب قال له الحباب إن كان بوحي فسمعا وطاعة وإن كان باجتهاد فليس هذا هو الرأي قال بل باجتهاد ورحل ولما أراد صلح الأحزاب على شطر تمر نخل المدينة وكتب بعض الكتاب بذلك جاء سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا له مثل مقالة الحباب قال بل هو رأي رأيته لكم فقالا ليس ذلك برأي فرجع إلى قولهما ونقض رأيه
ولأن داود وسليمان عليهما السلام حكما بالاجتهاد بدليل قوله تعالى ففهمناها سليمان ولو حكما بالنص لم يخص سليمان بالتفهيم
ولو لم يكن الحكم بالاجتهاد جائزا لما مدحهما الله تعالى بقوله وكلا آتينا حكما وعلما وأما انتظار الوحي فلعله حيث لم ينقدح له اجتهاد أو حكم لا يدخله الاجتهاد وأما الاستفاضة فلعله لم يطلع عليه الناس
وأما التهمة بتغير الرأي فلا تعويل عليه فقد اتهم بسبب النسخ ولم يبطله وعورض بأنه لو لم يتعبد بالاجتهاد لفاته ثواب المجتهدين
الحق واحد في الاجتهاد
فصل الحق في قول واحد من المجتهدين ومن عداه مخطىء سواء كان في فروع الدين أو أصوله لكنه إن كان في فروع الدين مما ليس فيه دليل قاطع
من نص أو إجماع فهو معذور غير آثم وله أجر على اجتهاده وبه قال بعض الحنفية والشافعية
وقال بعض المتكلمين كل مجتهد في الظنيات مصيب وليس على الحق دليل مطلوب
واختلف فيه عن ابي حنيفة والشافعي
وزعم بعض من يرى تصويب كل مجتهد أن دليل هذه المسألة قطعي وفرض الكلام في طرفين
أحدهما مسألة فيها نص فينظر فإن كان مقدورا عليه فقصر المجتهد في طلبه فهو مخطىء آثم لتقصيره وإن لم يكن مقدروا عليه لبعد المسافة وتأخير المبلغ فليس بحكم في حقه بدليل أن الله تعالى لما أمر جبريل أن يخبر محمدا صلى الله عليه و سلم بتحويل القبلة إلى الكعبة فلو صلى قبل إخبار جبريل إياه لم يكن مخطئا ولما بلغ النبي صلى الله عليه و سلم وأهل قباء
يصلون إلى بيت المقدس ولم يبلغهم لم يكونوا مخطئين ولما بلغ أهل قباء فاستمر أهل مكة على الصلاة إلى أن بلغهم لم يكونوا مخطئين وإذا ثبت هذا فيما فيه نص ففيما لا نص فيه أولى ولا يخلو إما أن تكون الإصابة ممكنة أو لا ولا تكليف بالمحال ومن أمر بممكن فتركه أثم وعصى إذ يستحيل أن يكون مأمورا ولم يعص ولم يأثم بالمخالفة لمناقضه ذلك للإيجاب وزعم الغزالي أن هذا التقسيم قاطع يرفع الخلاف مع كل منصف
ثم قال ( ثانيهما ) الظنيات لا دليل فيها فإن الأمارات الظنية ليست أدلة لأعيانها بل تختلف بالإضافات من دليل يفيد الظن لزيد ولا يفيده عمرا مع إحاطته به بل ربما يفيد الظن لشخص واحد في حالة دون حالة بل قد يقوم في حق شخص واحد في حالة واحدة دليلان متعارضان ولا يتصور في القطعية تعارض ولذلك ذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى التسوية في العطاء وعمر إلى التفضيل وكل واحد منهما كشف لصاحبه دليله وأطلعه عليه فغلب على ظن كل واحد منهما ما صار إليه وكان مغلبا على ظنه دون صاحبه لاختلاف احوالهما فمن خلق خلقتهما يميل ميلهما أو يصير إلى ما صارا إليه في الاختلاف
فإن اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسة يوجب اختلاف الظنون فمن مارس الكلام ناسب طبعه أنواع من الأدلة يتحرك بها ظنه لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه
ومن غلب عليه الغضب مالت نفسه إلى ما فيه الشراسة والانتقام ومن رق طبعه مال إلى الرفق والمساهلة بخلاف أدلة العقول فإنها لا تختلف
وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الإثم غير محطوط في الفروع كالأصول بل فيها حق يتعين عليه دليل قاطع لأن العقل قاطع بالنفي الأصلي إلا ما استثناه دليل سمعي قاطع وإنما استقام لهم هذا لإنكارهم القياس وخبر الواحد وربما أنكروا الحكم بالعموم والظاهر
وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن درك الحق فهم معذور غير آثم
وقال عبيد الله بن الحسن العنبري كل مجتهد مصيب في الأصول والفروع جميعا
وهذه كلها أقاويل باطلة
أما الذي ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا وكفر بالله تعالى ورد عليه وعلى رسوله صلى الله عليه و سلم فإنا نعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه وذمهم على إصرارهم وقاتل جميعهم وقتل البالغ منهم ونعلم أن المعاند العارف مما يقل وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة كقوله تعالى ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين وإن هم إلا يظنون ويحسبون أنهم على شيء ويحسبون أنهم مهت
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه
وفي الجملة ذم المكذبين لرسول الله صلى الله عليه و سلم مما لا ينحصر في الكتاب والسنة
وقول العنبري كل مجتهد مصيب إن أراد أنهم لم يؤمروا إلا بما هم عليه فهو كقول الجاحظ وإن أراد أن ما اعتقده فهو على ما اعتقده فمحال إذ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقا وتصديق الرسول وتكذيبه ووجود الشيء ونفيه وهذه أمور ذاتية لا تتبع الاعتقاد بل الاعتقاد يتبعها فهذا شر من مذهب الجاحظ بل شر من مذهب السوفسطائية فإنهم نفوا حقائق الأشياء وهذا أثبتها وجعلها تابعة للمعتقدات
وقد قيل قيل إنما أراد اختلاف المسلمين وهو باطل كيف ما كان إذ كيف يكون القرآن قديما مخلوقا والرؤية محالا ممكنا وهذا محال
والدليل على أن الحق في جهة واحدة الكتاب والسنة والإجماع والمعنى أما الكتاب فقول الله تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فلو استويا في إصابة الحكم لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم معنى وهو يدل على فساد مذهب من قال الإثم غير محطوط عن المخطىء فإن الله تعالى مدح كلا منهما وأثنى عليه لقوله وكلا آتينا حكما
وعلما فإن قيل فكيف يجوز أن ينسب الخطأ إلى داود وهو نبي ومن أين لكم أنه حكم باجتهاده وقد علمتم الاختلاف في جواز ذلك ثم لو كان مخطئا كيف يمدح المخطىء وهو يستحق الذم
ثم يحتمل أنهما كانا مصيبين فنزل الوحي بموافقة أحدهما
قلنا يجوز وقوع الخطأ منهم لكن لا يقرون عليه وقد ذكرنا ذلك فيما مضى
وإذا تصور وقوع الصغائر منهم فكيف يمتنع وجود خطأ لا مأثم فيه بل صاحبه مثاب مأجور ولولا ذلك ما عوتب نبينا عليه السلام على الحكم في أسارى بدر ولا في الإذن في التخلف عن غزوة تبوك فقال عفا الله عنك لم أذنت لهم وقال النبي صلى الله عليه و سلم إنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فبين أنه قد يقضي للرجل بشيء من حق أخيه
قولهم من أين لكم أنه حكم بالاجتهاد
قلنا الآية دليل عليه فإنه لو حكم بنص لما اختص سليمان بالفهم دونه
وقولهم إن النص نزل بموافقة سليمان
قلنا لو كان ما حكم به داود عليه السلام صوابا وهو الحق فتغير الحكم
بنزول النص لا يمنع أن يكون فهمهما وقت الحكم لا يوجب اختصاص سليمان بالإصابة كما لو تغير بالنسخ
وأما السنة فما تقدم من الخبر فإن النبي صلى الله عليه و سلم أخبر بأنه يقضي للإنسان بحق أخيه ولو كان يأثم بذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه و سلم ولو كان ما قضى به هو الحكم عند الله تعالى لما قال قضيت له بشيء من حق أخيه ولا قال إنما أقطع له قطعة من النار ولأن الحكم عند الله تعالى لا يختلف باختلاف لحن المتخاصمين أو تساويهما
وروى أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا بعث جيشا أوصاهم فقال إذا حاصرتم حصنا أو مدينة فطلبوا منكم أن تنزلوهم على حكم الله فلا تنزلوهم على حكم الله فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم وروى ابن عمر وعمرو بن العاص وأبو هريرة وغيرهم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر هذا لفظ رواية عمرو أخرجه مسلم وهو حديث تلقته الأمة بالقبول وهو صريح في أنه يحكم باجتهاده فيخطىء ويؤجر دون أجر المصيب
فإن قيل المراد به أنه أخطأ مطلوبه دون ما كلفه كخطأ الحاكم رد المال إلى مستحقيه مع إصابته حكم الله عليه وهو اتباع موجب ظنه وخطأ المجتهد جهة القبلة مع أن فرضه جهة يظن أن مطلوبه فيها وهذا يتحقق في كل مسألة فيه نص أو اجتهاد يتعلق بتحقيق المناط كأروش الجنايات وقدر كفاية القريب
فإن فيها حقيقة معينة عند الله وإن لم يكلف المجتهد إصابتها
قلنا فإذا سلم هذا ارتفع النزاع فإننا لا نقول أن المجتهد يكلف إصابة الحكم وإنما لكل مسألة حكم معين يعلمه الله كلف المجتهد طلبه فإن اجتهد فأصابه فله أجران وإن أخطأه فله أجر على اجتهاده وهو مخطىء وإثم الخطأ محطوط عنه كما في مسألة القبلة فإن المصيب بجهة الكعبة عند اختلاف المجتهدين واحد ومن عداه مخطىء يقينا يمكن أن يبين له خطأه فيلزمه إعادة الصلاة عند قوم ولا يلزمه عند آخرين لا لكونه مصيبا لها بل سقط عنه التوجه إليها لعجزه عنها وهكذا كون حق زيد عند عمرو إذا اختلف فيه مجتهدان فالمصيب أحدهما والآخر مخطىء إذ لا يمكن كون ذمة عمرو مشغولة بريئة وتخصيص ذلك بما فيه نص خلاف العموم وهو باطل أيضا فإن القياس معنى النص ونحن نتعرف بالبحث المعنى الذي قصده النبي صلى الله عليه و سلم فهو كالنص
وأما الإجماع فإن الصحابة رضي الله عنهم اشتهر عنهم في وقائع لا تحصى إطلاق الخطأ على المجتهدين من ذلك قول أبي بكر رضي الله عنه في الكلالة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان وعن ابن مسعود في قصة بروع مثل ذلك وقال عمر رضي الله عنه لكاتبه اكتب هذا ما رآه عمر فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر وقال في قضية قضاها والله ما يدري عمر
أصاب أم أخطأ ذكره الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه وقال لعمر في المرأة التي أرسل إليها فأجهضت ذا بطنها وقد استشار عثمان وعبدالرحمن فقالا لا شيء عليك إنما أنت مؤدب فقال علي إن يكونا قد اجتهدا فقد أخطآ وإن يكونا ما اجتهدا فقد غشاك عليك الدية فرجع عمر إلى رأيه وقال علي في إحراق زنادقة الرافضة ... لقد عثرت عثرة لا تنجبر ... سوف أليس بعدها أو أستمر ... وأجمع الرأي الشتيت المنتشر ...
وقال ابن عباس ألايتقي الله زيد يجعل ابن الابن إبنا ولا يجعل أب الأب أبا
وقال من شاء باهلته في ( العول ) وقالت عائشة أبلغي زيد بن ارقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أن يتوب وهذا اتفاق منهم على ان المجتهد يخطىء فإن قيل لعلهم نسبوا الخطأ إليه لتقصيره في النظر أو لكونه من غير أهل الاجتهادأو يكون القائل لذلك يذهب مذهب من يرى التخطئة
قلنا أما الأول فجهل قبيح وخطأ صريح كيف يستحل مسلم أن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين ومن سمينا معهم من البحر ابن عباس والأمين عبدالرحمن بن عوف وفقيه الصحابة وأفرضهم وقارئهم زيد بن ثابت ليسوا من أهل الاجتهاد وأذا لم يكونوا من أهل الاجتهاد فمن الذي يبلغ درجته ولا يكاد يتجاسر على هذا القول من له في الإسلام نصيب ونسبته لهم إلى أنهم قصروا في الاجتهاد إساءة ظن بهم مع تصريحهم بخلافه فإن عليا رضي الله عنه قال إن يكونا قد اجتهدا فقد أخطآ
وتوقف ابن مسعود في قصة بروع شهرا وهذا في القبح قريب من الذي قبله لكونه نسب هؤلاءالأئمة إلى الحكم بالجهل والهوى وارتكاب
ما لا يحل ليصحح به قوله الفاسد فلا ينبغي أن يلتفت إلى هذا
وقولهم ذهبوا مذهب من يرى التخطئة فكذلك هو لكن هو إجماع منهم فلا تحل مخالفته
وأما المعنى فوجوه
أحدها أن مذهب من يقول بالتصويب محال في نفسه لأنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين وهو أن يكون يسير النبيذ حراما حلالا والنكاح بلا ولي صحيحا فاسدا ودم المسلم إذا قتل الذمي مهدرا معصوما وذمة المحيل إذا امتنع المحتال من قبول الحوالة على المليء بريئه مشغولة إذ ليس في المسألة حكم معين وقول كل واحد من المجتهدين حق وصواب مع تنافيهما
قال بعض أهل العلم هذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقا وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين ويختار من المذاهب أطيبها
قالوا لا يستحيل كون الشيء حلالا وحراما في حق شخصين والحكم ليس وصفا للعين فلا يتناقض أن يحل لزيد ما حرم على عمرو كالمنكوحة حلال لزوجها حرام على غيره وهذا ظاهر بل لا يمتنع في حق شخص واحد مع اختلاف الأحوال كالصلاة واجبة في حق المحدث إذا ظن أنه متطهر حرام إذا علم بحدثه وركوب البحر مباح لمن غلب على ظنه السلامة حرام على الجبان الذي يغلب على ظنه العطب
والجواب أنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين في حق شخص واحد فإن المجتهد لا يقصر الحكم على نفسه بل يحكم بأن يسير النبيذ حرام على كل واحد والآخر يقضي بإباحته في حق الكل فكيف يكون حراما على الكل مباحا لهم أم كيف تكون المنكوحة بلا ولي مباحة لزوجها حراما عليه ثم لو لم يكن
محالا في نفسه لكنه يؤدي إلى المحال في بعض الصور فإنه إذا تعارض عند المجتهد دليلان فيتخير بين الشيء ونقيضه ولو نكح مجتهد امرأة بلا ولي ثم نكحها آخر يرى بطلان الأول فكيف تكون مباحة للزوجين
المسلك الثاني لو كان كل مجتهد مصيبا جاز لكل واحد من المجتهدين في القبلة ونحوها أن يقتدي كل واحد منهما بصاحبه لأن كل واحد منهما مصيب وصلاته صحيحة فلم لا يقتدي بمن صلاته صحيحة في نفسها ثم يجب أن يطوى بساط المناظرات في الفروع لكون كل واحد منهم مصيبا لا فائدة في نقله عما هو عليه ولا تعريفه ما عليه خصمه
المسلك الثالث أن المجتهد يكلف الاجتهاد بلا خلاف والاجتهاد طلب يستدعي مطلوبا لا محالة فإن لم يكن للحادثة حكم فما الذي يطلب فمن يعلم يقينا أن زيدا ليس بجاهل ولا عالم هل يتصور أن يطلب الظن بعلمه ومن يعتقد أن النبيذ بحلال ولا حرام كيف يطلب أحدهما
فإن قالوا إن المجتهد لا يطلب حكم الله تعالى بل إنما يطلب غلبة الظن فيكون حكمه ما غلب على ظنه كمن يريد ركوب البحر فقيل له إن غلب على ظنك الهلاك حرم عليك الركوب وإن غلب على ظنك السلامة أبيح لك الركوب وقبل الظن لا حكم لله تعالى عليك سوى اجتهادك في تتبع ظنك فالحكم يتجدد بالظن ويوجد بعده ولو شهد عند قاض شاهدان فحكم الله تعالى عليه يترتب على ظنه إن غلب عليه الصدق وجب قبوله وإن غلب على ظنه الكذب لم يجب قبوله
قلنا قولهم إنما يطلب عليه الظن فالظن أيضا لا يكون إلا لشيء مظنون ومن يقطع بانتفاء الحكم كيف يتصور أن يظن وجوده فإن الظن لا يتصور
إلا لموجود والموجود يتبع الظن فيؤدي إلى الدور وراكب البحر لا يطلب الحكم إنما يطلب تعرف الهلاك أو السلامة وهذا أمر يمكن تعرفه
والحاكم إنما يطلب الصدق أو الكذب وهذا غير الحكم الذي يلزمه بخلاف ما نحن فيه فإن المطلوب هو الحكم الذي يعلم أنه لا وجود له فكيف يتصور طلبه له ثم إذا علمنا أنه لا حكم لله تعالى في الحادثة فلم يجب الاجتهاد فإننا علمنا بالعقل قبل ورود الشرع انتفاء الواجبات وسقوط الحرج عن الحركات والسكنات فيجب أن يطلق في الآشياء من غير اجتهاد والعامي الذي لا اجتهاد له لا يؤاخذ على فعل من الأفعال فإن الحكم إنما يحدث بالاجتهاد وهو لا اجتهاد له فلا حكم عليه إذا ولا خطاب في حقه وهذا فاحش
وقولهم إن النص إذا لم يقدر عليه المجتهد لا يكون حكما في حقه ممنوع بل الحكم بنزول النص إلى الخلق بلغهم أم لم يبلغهم فلو وقف الحكم على سماع الخطاب وبلوغ النص لم يكن على العامي حكم في أكثر المسائل لكونه لم يبلغه النص ولكان المجتهد إذا امتنع من الاجتهاد لا حكم عليه لتلك الحادثة ولا يجب عليه قضاء ما ترك من العبادات والواجبات ولا يكون مخطئا إلا بترك الاجتهاد لا غير أما النص إذا نزل به جبريل فقد قال أبو الخطاب يكون نسخا وإن لم يعلم به المنسوخ عنه وإنما اعتد أهل قباء بما مضى من صلاتهم لأن القبلة يعذر فيها بالعذر
جواب ثان أن هذا فرض في مسألة لا يتوهم أن لها دليلا يطلب وإنما الخطأ فيما نصب الله تعالى عليه دليلا وأوجب على المكلف طلبه ثم يحتاج إلى بيان تصور ذلك وإمكان خلو بعض المسائل من الدليل وهو باطل إذ لا خلاف في وجوب الاجتهاد بالحادثة وتعرف حكمها والشرع قد نصب عليها إما دليلا قاطعا أو ظنيا
قولهم إن الأدلة الظنية ليست أدلة لأعيانها بدليل اختلاف الإضافات
قلنا هذا باطل فإنا قد بينا في كل مسألة دليلا وذكرنا وجه دلالته ولو لم يكن فيها أدلة لاستوى المجتهد والعامي ولجاز للعامي الحكم بظنه لمساواته المجتهد في عدم الدليل وهل الفرق بينهما إلا معرفة الأدلة ونظره في صحيحها وسقيمها ونبو بعض الطباع عن قبول الدليل لا يخرجه عن دلالته فإن كثيرا من العقليات يختلف فيه الناس مع اعتقادهم أنها قاطعة ولا ينكر أن منها ما تضعف دلالته ويخفى وجهه ويوجد معارض له فتشتبه على المجتهد وتختلف فيه الآراء ومنها ما يظهر ويتبين خطأ مخالفيه وكلها أدلة ولأن الظن إذا لم يكن دليلا فبم عرفتم أنه ليس بدليل ويلزم من انتفاء ذلك الدليل على أنه ليس بدليل
وقولهم إنه لا يخلو إما أن يكون مكلفا بممكن أو بغير ممكن قلنا لا يكلف إلا ما يمكن ولا نقول إنه يكلف الإصابة في محل التعذر بل يكلف طلب الصواب والحكم بالحق الذي هو حكم الله فإن أصابه فله أجر اجتهاده وأجر إصابته وإن أخطأه فله ثواب اجتهاده والخطأ محطوط عنه والله تعالى أعلم
تعارض الأدلة
فصل إذا تعارض دليلان عند المجتهد ولم يترجح أحدهما وجب عليه التوقف ولم يكن له الحكم بأحدهما ولا التخيير فيهما وبه قال أكثر الحنفية وأكثر الشافعية
وقال بعضهم وبعض الحنفية يكون المجتهد مخيرا في الأخذ بأيهما
شاء لأنه لا يخلو إما أن يعمل بالدليلين أو يسقطهما أو يتحكم بتعيين احدهما أو يتخير أو يتوقف لا سبيل إلى الجمع بينهما عملا وإسقاطا لأنه متناقض ولا إلى التوقف إلى غير غاية فإن فيه تعطيلا وربما لم يقبل الحكم التأخير ولا سبيل إلى التحكم فلم يبق إلا التخيير والتخيير بين الحكمين مما ورد به الشرع في العامي إذا أفتاه مجتهدان وفي خصال الكفارة والتوجه إلى أي جدران الكعبة شاء لمن دخلها والتخيير في زكاة مائتين من الإبل بين الحقاق وبنات اللبون وأمثال ذلك
فإن قلتم التخيير بين التحريم ونقيضه والأيجاب وعكسه يرفع التحريم والإيجاب
قلنا إنما يناقض الإيجاب جواز الترك مطلقا أما جوازه بشرط فلا بدليل الواجب الموسع يجوز تركه بشرط
والركعتان الأخيرتان في الرباعية من المسافر يجوز تركهما بشرط قصد القصر كذا ههنا يجوز ترك الواجب بشرط قصد الدليل المسقط له وإذا سمع قوله وأن تجمعوا بين الأختين حرم عليه الجمع وإنما يجوز له الجمع إذا قصد الدليل الثاني وهو قوله أو ما ملكت أيمانكم كما قال عثمان أحلتهما آية وحرمتهما آية
ولنا أن التخيير جمع بين النقيضين واطراح لكلا الدليلين وكلاهما باطل
أما بيان اطراح الدليلين فإذا تعارض الموجب والمحرم فيصير إلى التخيير المطلق وهو حكم ثالث غير حكم الدليلين معا فيكون اطراحا لهما وتركا لموجبهما
وأما الجمع بين النقيضين فإن المباح نقيض المحرم فإذا تعارض المبيح والمحرم فخيرناه بين كونه محرما يأثم بفعله وبين كونه مباحا لا إثم على فاعله كان جمعا بينهما وذلك محال ولأن في التخيير بين الموجب والمبيح رفعا للإيجاب فيصير عملا بالدليل المبيح عينا وهو تحكم قد سلموا ببطلانه
قولهم إنما جاز بشرط القصد
قلنا فقبل أن يقصد العمل بأحدهما ما حكمه إن قلتم حكمه الوجوب والإباحة معا والتحريم والحل معا فقد جمعتم بين النقيضين
وإن قلتم حكمه التخيير فقد نفيتم الوجوب قبل القصد واطرحتم دليله وأثبتم حكم الإباحة من غير شرط وإن قلتم لا حكم له قبل القصد وإنما يصير له بالقصد حكم فهذا إثبات حكم بمجرد الشهوة والاختيار من غير دليل فإن الدليلين وجدا فلم يثبت لهما حكم وثبت بمجرد شهوته وقصده بلا دليل وهذا باطل
قولهم إن التوقف لا سبيل إليه
قلنا يلزمكم إذا لم يجد المجتهد دليلا في المسألة والعامي إذا لم يجد مفتيا فماذا يصنع وهل ثم طريق إلا التوقف في المسألة
ثم لا نسلم تصور خلو المسألة عن دليل فإن الله تعالى كلفنا حكمه ولا سبيل إليه إلا بدليل فلو لم يجعل له دليلا كان تكليفا لما لا يطاق فعند ذلك إذا تعارض دليلان وتعذر الترجيح اسقطهما وعدل إلى غيرهما كالحاكم إذا تعارضت عنده بينتان
أما العامي فقد قيل يجتهد في أعيان المفتين فيقلد أعلمهما وأدينهما وهو ظاهر قول الخرقي لأنه قال في الأعمى إذا كان مع مجتهدين في القبلة قلد أوثقهما في نفسه
وقيل يخير فيهما والفرق بينهما أن العامي ليس عليه دليل ولا هو متعبد باتباع موجب ظنه بخلاف المجتهد فإنه متعبد بذلك ومع التعارض لا ظن له فيجب عليه التوقف ولهذا لا يحتاج العامي إلى الترجيح بين المفتين على هذا الوجه ولا يلزمه العمل بالراجح بخلاف المجتهد
ولا ينكر التخيير في الشرع لكن التخيير بين النقيضين ليس له في الشرع مجال وهو في نفسه محال والله أعلم
تعدد آراء المجتهد في آن واحد فصل
وليس للمجتهد أن يقول في المسألة قولين في حال واحدة في قول عامة الفقهاء
وقال ذلك الشافعي في مواضع
منها قال في المسترسل من اللحية قولين أحدهما يجب غسله والآخر لا يجب
فقيل عنه لعله تكافأ عنده الدليلان فقال بهما على التخيير أو علم الحق في أحدهما لا بعينه فقال ذلك لينظر فيهما فاخترمه الموت أو نبه أصحابه على طريق الاجتهاد ولا يصح شيء من ذلك
فإن القولين لا يخلو إما أن يكونا صحيحين أو فاسدين أو أحدهما صحيح والآخر فاسد
فإن كانا فاسدين فالقول بهما حرام وإن كانا صحيحين وهما ضدان فكيف يجتمع ضدان وإن كان أحدهما فاسدا لم يخل إما أن يعلم فساد الفاسد أو لا يعلمه فإن علمه فكيف يقول قولا فاسدا أم كيف يلبس على ألأمة بقول يحرم القول به وإن اشتبه عليه الصحيح بالفاسد لم يكن عالما بحكم المسألة ولا قول له فيها أصلا فكيف يكون له قولان
قولهم تكافأ عنده دليلان قد أبطلناه ثم لو صح فحكمه التخيير وهو قول واحد
وقولهم إنه علم الحق في أحدهما لا بعينه قد بينا أن ما كان كذلك لم يكن له في المسألة قول أصلا ثم كان ينبغي أن ينبه على ذلك ويقول في المسألة نظر أو يقول الحق في أحد هذين القولين أما إطلاقه فلا وجه له وهذا هو الجواب عن الآخر
أما ما يحكى عن غيره من الأئمة من الروايتين فإنما يكون ذلك في حالتين لاختلاف الاجتهاد والرجوع عما رأى إلى غيره ثم إن علمنا المتأخر عملنا به وألغينا المتقدم وإن لم نعلم المتقدم فيكونان كالخبرين المتعارضين عن النبي صلى الله عليه و سلم
المجتهد لا يقلد غيره
فصل اتفقوا على أن المجتهد إذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم لم يجز له تقليد غيره وعلى أن العامي له تقليد المجتهد
فأما المتمكن من الاجتهاد في بعض المسائل ولا يقدر على الاجتهاد في البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء كالنحو في مسألة نحوية وعلم صفات الرجال في مسألة خبرية فالأشبه أنه كالعامي فيما لم يحصل علمه فإنه كما يمكنه تحصيله فالعامي يمكنه ذلك مع المشقة التي تلحقه
إنما المجتهد الذي صارت العلوم عنده حاصلة بالقوة القريبة من الفعل من غير حاجة إلى تعب كثير بحيث لو بحث عن المسألة ونظر في الآدلة استقل بها ولم يفتقر إلى تعلم من غيره فهذا المجتهد هل يجوز له تقليد غيره
قال أصحابنا ليس له تقليد مجتهد آخر مع ضيق الوقت ولا سعته لا فيما يخصه ولا فيما يفتي به لكن يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الأئمة كأحمد والشافعي ولا يفتي من عند نفسه بتقليد غيره لأن تقليد من لا تثبت عصمته ولا تعلم إصابته حكم شرعي لا يثبت إلا بنص أو قياس ولا نص ولا قياس إذ المنصوص عليه العامي مع المجتهد وليس ما اختلفنا فيه
مثله فإن العامي عاجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه والمجتهد قادر فلا يكون في معناه فإن قيل هو لا يقدر على غير الظن وظن غيره كظنه
قلنا مع هذا إذا حصل ظنه لم يجز له اتباع ظن غيره فكان ظنه أصلا وظن غيره بدلا فلا يجوز إثباته إلا بدليل ولأنه إذا لم يجز له العدول إليه مع وجود المبدل لم يجز مع القدرة عليه كسائر الإبدال والمبدلات
فإن قيل لا نسلم عدم النص في المسألة بل فيها نصوص كقوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وهذا لا يسلم هذه المسألة وقوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
قلنا المراد بالأولى أمر العامة بسؤال العلماء إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسئول فالعالم مسئول غير سائل ولا يخرج من العلماء بكون المسألة غير حاضرة في ذهنه إذا كان متمكنا من معرفتها من غير تعلم من غيره
الثاني يحتمل أن يكون معناه اسألوا لتعلموا أي سلوا عن الدليل ليحصل العلم كما يقال كل لتشبع واشرب لتروى والمراد بأولي الأمر الولاة لوجوب طاعتهم إذا لا يجب على المجتهد طاعة المجتهد وإن كان المراد به العلماء فالطاعة على العوام
ثم هو معارض بعمومات أقوى مما ذكروه يمكن التمسك بها في المسألة كقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وقوله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم وقوله سبحانه أفلا يتدبرون القرآن وقوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وهذا كله أمر بالتدبر
والاستنباط والاعتبار والخطاب مع العلماء
ثم لا فرق بين المماثل والأعلم فإن الواجب أن ينظر فإن وافق اجتهاده الأعلم فذاك وإن خالفه فمن أين ينفع كونه أعلم وقد صار مزيفا عنده وظنه عنده أقوى من ظن غيره وله الأخذ بظن نفسه اتفاقا ولم يلزمه الأخذ بقول غيره وإن كان أعلم فينبغي أن لا يجوز تقليده
فإن قيل فلم ينقل عن طلحة والزبير ونظرائهما نظر في الأحكام مع ظهور الخلاف فالأظهر أنهم أخذوا بقول غيرهم قلنا كانوا لا يفتون اكتفاء بغيرهم وأما علمهم لنفوسهم لم يكن إلا بما عرفوه فإن أشكل عليهم شاوروا غيرهم لتعرف الدليل لا للتقليد والله أعلم
إذا وجد ما علل به المجتهد في مسائل فالحكم فيها كمذهبه في المسألة المعللة
فصل إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة بينها توجد في مسائل سوى
المنصوص عليه فمذهبه في تلك المسائل كمذهبه في المسألة المعللة لأنه يعتقد الحكم تابعا للعلة ما لم يمنع منها مانع فإن لم يبين العلة لم يجعل ذلك الحكم مذهبه في مسألة أخرى وإن أشبهتها شبها يجوز خفاء مثله على بعض المجتهدين فإنا لا ندري لعلها لو خطرت له لم يصرفها إلى ذلك الحكم
ولأن ذلك إثبات مذهب بالقياس ولذلك افترقا في منصوص الشارع فما نص على علته كان النص ينسخ وينسخ به وما لم ينص على علته لم ينسخ ولم ينسخ به
ولو نص المجتهد على مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين لم ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى ليكون له في المسألتين روايتان لأنا إذا لم نجعل مذهبه في المنصوص عليه مذهبا في المسكوت عنه فبالطريق الأولى أن لا نجعله مذهبا له فيما نص على خلافه ولأنه إنما يضاف إلى الإنسان مذهب في المسألة بنصه أو دلالة تجري مجرى نصه ولم يوجد أحدهما
وإن وجد منه نوع دلالة على الأخرى ولكن قد نص فيها على خلاف تلك الدلالة فالدلالة الضعيفة لا تقاوم النص الصريح
فإن نص في مسألة واحدة على حكمين مختلفين ولم يعلم تقدم أحدهما اجتهدنا في أشبههما بأصوله وأقواها في الدلالة فجعلناها له مذهبا وكنا شاكين في الأخرى وإن علمنا الآخرة فهي المذهب لأنه لا يجوز أن يجمع بين قولين مختلفين على ما بينا فيكون نصه الأخير رجوعا عن رأيه الأول فلا يبقى مذهبا له كما لو صرح بالرجوع
وقال بعض أصحابنا يكون الأول مذهبا له لأنه لا ينقض الاجتهاد
بالاجتهاد ولا يصح فإنهم إن أرادوا أن لا يترك ما أداه إليه اجتهاده الأول باجتهاده الثاني فهو باطل يقينا فإنا نعلم ان المجتهد في القبلة إذا تغير اجتهاده ترك الجهة التي كان مستقبلا لها وتوجه إلى غيرها والمفتي إذا أفتى في مسألة بحكم ثم تغير اجتهاده لم يجز أن يفتي فيها بذلك الحكم وكذلك الحاكم
وإن أرادوا أن الحكم الذي حكم به على شخص لا ينقضه أو ما أداه من الصلوات لا يعيده فليس هذا نظيرا لمسألتنا إنما الخلاف فيما إذا تغير اجتهاده هل يبقى مذهبا له أم لا وقد بينا أنه لا يبقى
ثم يبطل ما ذكروه بما إذا صرح بالرجوع عن القول الأول فكيف يجعل مذهبا له مع قوله رجعت عنه واعتقدت بطلانه فلا بد من نقض الاجتهاد بالاجتهاد وعند ذلك ينبه على أن المجتهد لو تزوج امرأة خالعها ثلاثا وهو يرى أن الخلع فسخ ثم تغير اجتهاده واعتقد أن الخلع طلاق لزمه تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اعتقاده
فإن حكم بصحة ذلك النكاح حاكم ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين لمصلحة الحكم
فإنه لو نقض الحكم بالاجتهاد لنقض النقض وتسلسل واضطربت الأحكام ولم يوثق بها
أما إذا نكح المقلد بفتوى مجتهد ثم تغير اجتهاد المجتهد فهل يجب على المقلد تسريح زوجته الظاهر أنه لا يجب لأن عمله بفتياه جرى مجرى حكم الحاكم فلا ينقض ذلك كما لا ينقض ما حكم به الحاكم
فصل في التقليد التقليد في اللغة وضع الشيء في العنق مع الإحاطة به ويسمى ذلك الشيء قلادة والجمع قلائد قال الله تعالى ولا الهدى ولا القلائد ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم ولا تقلدوها الأوتار قال الشاعر ... قلدوها تمائما ... خوف واش وحاسد ...
ثم يستعمل في تفويض الأمر إلى الشخص استعارة كأنه ربط الأمر بعنقه كما قال لقيط الإيادي ... وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا ...
وهو في عرف الفقهاء قبول قول الغير من غير حجة أخذا من هذا المعنى فلا يسمى الأخذ بقول النبي صلى الله عليه و سلم والإجماع تقليدا لأن ذلك هو الحجة في نفسه
قال أبو الخطاب العلوم على ضربين
منها ما لا يسوغ التقليد فيه وهو معرفة الله ووحدانيته وصحة الرسالة
ونحو ذلك لأن المقلد في ذلك إما أن يجوز الخطأ على من يقلده أو يحيله فإن أجازه فهو شاك في صحة مذهبه وإن أحاله فبم عرف استحالته ولا دليل عليها
وإن قلده في قوله عن نفسه أن أقواله حق فبم عرف صدقه
وإن قلده غيره في تصديق مقلده فبم عرف صدق الآخر
وإن عول على سكون النفس في صدقه فما الفرق بينه وبين سكون أنفس النصارى واليهود المقلدين
وما الفرق بين قول مقلده إنه صادق وبين قول مخالفه
وأما التقليد في الفروع فهو جائز إجماعا فكانت الحجة فيه الإجماع ولأن المجتهد في الفروع إما مصيب وإما مخطىء مثاب غير مأثوم بخلاف ما ذكرناه فلهذا جاز التقليد فيها بل وجب على العامي ذلك
وذهب بعض القدرية إلى أن العامة يلزمهم النظر في الدليل في الفروع أيضا وهو باطل بإجماع الصحابة فإنهم كانوا يفتون العامة ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد وذلك معلوم بالضرورة والتواتر من علمائهم وعوامهم
ولأن الإجماع منعقد على تكليف العامي الأحكام وتكليفه رتبة الاجتهاد يؤدي إلى انقطاع الحرث والنسل وتعطيل الحرف والصنائع فيؤدي إلى خراب الدنيا
ثم ماذا يصنع العامي إذا نزلت به حادثة إن لم يثبت لها حكم إلى أن يبلغ رتبة الاجتهاد فإلى متى يصير مجتهدا ولعله لا يبلغ ذلك أبدا فتضيع الأحكام فلم يبق إلا سؤال العلماء وقد أمر الله تعالى بسؤال العلماء في قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
قال أبو الخطاب ولا يجوز التقليد في أركان الإسلام الخمسة ونحوها مما اشتهر ونقل نقلا متوترا لأن العامة شاركوا العلماء في ذلك فلا وجه للتقليد
من يستفتيه العامي
فصل ولا يستفتي العامي إلا من غلب على ظنه انه من أهل الاجتهاد بما يراه من انتصابه للفتيا بمشهد من أعيان العلماء وأخذ الناس عنه وما يتلمحه من سمات الدين والستر أو يخبره عدل عنه فأما من عرفه بالجهل فلا يجوز أن يقلده اتفاقا
ومن جهل حاله فقد قيل يجوز تقليده لأن العادة أن من دخل بلدة يسأل عن مسألة لا يبحث عن عدالة من يستفتيه ولا عن علمه وإن قلتم بالسؤال عن علمه فلا يمكن السؤال عن عدالته وهو حجة لنا في الصورة الممنوعة ( وقيل لا يجوز )
قلنا لأن كل من وجب عليه قبول قول غيره وجب معرفة حاله فيجب على الأمة معرفة حال الرسول بالنظر في معجزاته ولا يصدق كل مجهول يدعي أنه رسول الله ويجب على الحاكم معرفة الشاهد وعلى العالم بالخبر معرفة حال رواته وفي الجملة كيف يقلد من يجوز أن يكون أجهل من السائل
أما العادة من العامة فليست دليلا وإن سلمنا ذلك مع الجهل بعدالته فلأن الظاهر من حال العالم العدالة لا سيما إذا اشتهر الفتيا ولا يمكن أن يقال ظاهر الخلق نيل درجة الاجتهاد لغلبة الجهل والناس كلهم عوام إلا الأفراد ولا يمكن أن يقال العلماء فسقة إلا الآحاد فافترقا
تعدد المجتهدين في البلد
فصل وإذا كان في البلد مجتهدون فللمقلد مساءلة من شاء منهم ولا يلزمه مراجعة الأعلم كما نقل في زمن الصحابة إذ سأل العامة الفاضل والمفضول من العلماء
وقيل بل يلزمه سؤال الأفضل
وقد أومأ الخرقي إليه فقال إذا اختلف اجتهاد رجلين اتبع الأعمى أوثقهما في نفسه
والأول أولى لما ذكرنا من الإجماع وقول الخرقي يحمل على ما إذا سألهما فاختلفا وأفتاه كل واحد بخلاف قول صاحبه فحينئذ يلزمه الأخذ بقول الأفضل في علمه ودينه
وفيه قول آخر أنه يتخير لما ذكرناه من الإجماع ولأن العامي لا يعلم الأفضل حقيقة بل يغتر بالظواهر وربما يقدم المفضول فإن لمعرفة مراتب الفضل أدلة غامضة ليس دركها شأن العوام ولو جاز ذلك جاز له النظر في المسألة ابتداء
ووجه القول الأول أن أحد القولين خطأ وقد تعارض عنده دليلان فيلزمه الأخذ بأرجحهما كالمجتهد يلزمه الأخذ بأرجح الدليلين المتعارضين ولأن من اعتقد أن الصواب في أحد القولين لا ينبغي له أن يأخذ بالتشهي
وينتقي من المذاهب اطيبها ويتوسع ويعرف الأفضل بالأخبار وبإذعان المفضول له وتقديمه له وبأمارات تفيد غلبة الظن دون البحث عن نفس علمه والعامي أهل لذلك والإجماع محمول على ما إذا لم يسألهما إذ لم ينقل إلا ذلك أما إن استوى عنده المفتيان جاز له الأخذ بقول من شاء منهما لأنه ليس قول بعضهم أولى من البعض
وقد رجح قوم القول الأشد لأن الحق ثقيل
ورجح الآخرون الأخف لأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث بالحنيفية السمحة وهما قولان متعارضان فيسقطان وقد روى عن أحمد رضي الله عنه ما يدل على جواز تقليد المفضول فإن الحسين بن بشار سأله عن مسألة في الطلاق فقال إن فعل حنث
فقال له يا أبا عبدالله إن أفتاني إنسان يعني لا يحنث فقال تعرف حلقة المدنيين حلقة بالرصافة
فقال إن أفتوني به حل قال نعم وهذا يدل على التخيير بعد الفتيا والله أعلم
باب في ترتيب الأدلة ومعرفة الترجيح ويجب على المجتهد في كل مسألة أن ينظر أول شيء إلى الإجماع فإن وجده لم يحتج إلى النظر في سواه ولو خالفه كتاب او سنة علم أن ذلك منسوخ أو متأول لكون الإجماع دليلا قاطعا لا يقبل نسخا ولا تأويلا
ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة وهما على رتبة واحدة لأن كل واحد منهما دليل قاطع
ولا يتصور التعارض في القواطع إلا أن يكون أحدهما منسوخا
ولا يتصور أن يتعارض علم وظن لأن ما علم كيف يظن خلافه وظن خلافه شك فكيف يشك فيما يعلم
ثم ينظر في أخبار الآحاد فإن عارض خبر خاص عموم كتاب أو سنة متواترة فقد ذكرنا ما يجب تقديمه منها
ثم ينظر بعد ذلك في قياس النصوص فإن تعارض قياسان أو خبران أو عمومان طلب الترجيح
واعلم أن التعارض هو التناقض ولا يجوز ذلك في خبرين لأن خبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و سلم لا يكون كذبا
فإن وجد ذلك في حكمين فإما أن يكون أحدهما كذبا من الراوي أو يمكن الجمع بينهما بالتنزيل على حالين أو في زمانين
أو يكون أحدهما منسوخا فإن لم يمكن الجمع ولا معرفة النسخ رجحنا فأخذنا الأقوى في أنفسنا
ويحصل الترجيح في الأخبار من ثلاثة أوجه
الأول يتعلق بالسند وذلك أمور خمسة
أحدها كثرة الرواة فإن ما كان رواته أكثر كان أقوى في النفس وأبعد من الغلط أو السهو فإن خبر كل واحد يفيد ظنا على انفراده فإذا انضم أحدهما إلى الآخر كان أقوى وآكد منه لو كان منفردا ولهذا ينتهي إلى التواتر بحيث يصير ضروريا قاطعا لا يشك فيه وبهذا قال الشافعي
وقال بعض الحنفية لا يرجح به لأنه خبر يتعلق به الحكم فلم يترجح بالكثرة كالشهادة والفتوى
قلنا الأصل ما ذكرناه بدليل أمور ثلاثة
أحدها ما ذكرناه من غلبة الظن وتقديم الراجح متعين لأنه أقرب إلى الصحة ولذلك إذا غلب على الظن كون الفرع أشبه بأحد الأصلين وجب اتباعه
الثاني أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرجحون بكثرة العدد ولذلك قوى النبي صلى الله عليه و سلم خبر ذي اليدين بموافقة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
وأبو بكر قوى خبر المغيرة في ميراث الجدة بموافقة محمد بن مسلمة
وقوى عمر خبر المغيرة أيضا في دية الجنين بموافقة محمد بن مسلمة
وقوى خبر ابي موسى في الاستئذان بموافقة أبي سعيد
وقوى ابن عمر خبر أبي هريرة فيمن شهد جنازة بموافقة عائشة إلى غير ذلك مما يكثر فيكون إجماعا منهم
الثالث أن هذا عادة الناس في حراثتهم وتجاراتهم وسلوك الطريق فإنهم عند تعارض الأسباب المخوفة يميلون إلى الأقوى
فأما الشهادة فلم يرجحوا فيها وسببها أن باب الشهادة مبني على التعبد ولهذا لو شهد بلفظ الإخبار دون الشهادة لم يقبل
ولا تقبل شهادة مائة امرأة على باقة بقل
الثاني أن يكون أحد الراويين معروفا بزيادة التيقظ وقلة الغلط فالثقة بروايته أكثر
الثالث أن يكون أورع وأتقى فيكون أشد تحرزا من الكذب وأبعد من رواية ما يشك فيه
الرابع أن يكون راوي أحدهما صاحب الواقعة فقول ميمونة تزوجني النبي صلى الله عليه و سلم ونحن حلالان يقدم على رواية ابن عباس نكحها وهو محرم
الخامس أن يكون أحدهما باشر القصة كرواية أبي رافع تزوج النبي صلى الله عليه و سلم ميمونة وهي حلال وكنت السفير بينهما مع رواية ابن عباس التي ذكرناها فإن المباشرأحق بالمعرفة من الأجنبي ولذلك قدم الصحابة أخبار ازواج النبي صلى الله عليه و سلم في صحة صوم من أصبح
جنبا وفي وجوب الغسل من التقاء الختانين بدون الإنزال على خبر من روى خلاف ذلك
الوجه الثاني الترجيح لأمر يعود إلى المتن بأمور
منها أن يشهد القرآن أو السنة أو الإجماع بوجوب العمل على وفق الخبر أو يعضده قياس أو يعمل به الخلفاء أو يوافقه قول صحابي كموافقة خبر التغليس قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم
الثاني أن يختلف في وقف أحد الخبرين على الراوي والآخر يتفق على رفعه
الثالث أن يكون راوي أحدهما قد نقل عنه خلافه فتتعارض روايتاه ويبقى الآخر سليما عن التعارض فيكون أولى
الرابع أن يكون أحدهما مرسلا والآخر متصلا فالمتصل أولى لأنه متفق على صحته وذلك مختلف فيه
والوجه الثالث الترجيح لأمر خارج فكترجيح أحد الخبرين بكونه ناقلا عن حكم الأصل مثل الموجب للعبادة أولى من النافي لها لأن النافي جاء على مقتضى العقل والآخر متأخر عنه فكان كالناسخ له
وكذلك رواية الإثبات مقدمة على رواية النفي لأن المثبت معه زيادة علم خفيت على صاحبه
قال القاضي وإذا تعارض الحاظر والمبيح قدم الحاظر لأنه أحوط
وقيل لا يرجح بذل ولا يرجح المسقط للحد على الموجب له ولا الموجب للحرية على المقتضي للرق لأن ذلك لا يوجب تفاوتا في صدق الراوي فيما ينقله من لفظ الإيجاب والإسقاط
وأما الترجيح لأمر خارج فبأمور
منها أن يشهد القرآن والسنة أو الإجماع بوجوب العمل على وفق الخبر أو يعضده قياس أو يعمل به الخلفاء أو يوافقه قول صحابي كموافقة خبر التغليس قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم
الثاني أن يختلف في وقف أحد الخبرين على الراوي والآخر متفق على رفعه
الثالث أن يكون راوي أحدهما قد نقل عنه خلافه فتتعارض روايتاه ويبقى الآخر سليما عن التعارض فيكون أولى
الرابع أن يكون احدهما مرسلا والآخر متصلا فالمتصل أولى لأنه متفق عليه وذلك مختلف فيه
ترجيح المعاني
فصل قال أصحابنا ترجح العلة بما يرجح به الخبر من موافقتها لدليل آخر م نن كتاب أو سنة أو قول صحابي أو خبر مرسل أو بكون أحداهما ناقلة عن الأصل كما قلنا في الخبر
فأما إن كانت إحداهما حاظرة والأخرى مبيحة أو كانت إحداهما مسقطة للحد أو موجبة للعتق في الترجيح بذلك اختلاف
فرجح به قوم احتياطا للحظر ونفي الحد ولأن الخطأ في نفي هذه الأحكام أسهل من الخطأ في إثبات
ومنع آخرون الترجيح بذلك من حيث أنهما حكمان شرعيان فيستويان ولأن سائر العلل لا ترجح بأحكامها فكذا ههنا
ورجح قوم العلة بخفة حكمها لأن الشريعة خفيفة
وآخرون بالعكس لأن الحق ثقيل وهي ترجيحات ضعيفة
فإن كانت إحدى العلتين حكما والأخرى وصفا حسيا ككونه قوتا أو مسكرا فاختار القاضي ترجيح الحسية ومال أبو الخطاب إلى ترجيح الحكمية لأن الحسية كانت موجوده قبل الحكم فلا يلازمها حكمها والحكم أشد مطابقة للحكمية
ورجح القاضي بأن الحسية كالعلة العقلية والعقلية قطعية فهو أولى مما يوجب الظن ولأنها تفتقر إلى غيرها في الثبوت
وقيل هذا كله ترجيح ضعيف
وذكر أبو الخطاب ترجيح العلة إذا كانت أقل أوصافا لمشابهتها العلة العقلية ولأنها أجرى على الأصول وترجيحها بكثرة فروعها وعمومها ثم اختار التسوية وأن هذين لا يرجح بهما لأن العلتين سواء في إفادتهما حكمهما وسلامتهما من الفساد ومى صحت لم يلتفت إلى كثرة فروعها ولا كثرة أوصافها
ورجح العلة المنتزعة من الأصول على ما انتزع من أصل واحد لأن الأصول شواهد للصحة وما كثرت شواهده كان أقوى في إثارة غلبة الظن
ورجح العلة المطردة المنعكسة على مالا ينعكس لأن الطرد والعكس دليل على الصحة ابتداء لما فيه من غلبة الظن فلا أقل من أن يصلح للترجيح
ورجح العلة المتعدية على القاصرة لكثرة فائدتها
ومنع ذلك قوم لأن الفروع لا تنبني على قوة في ذات العلة بل القاصرة
( س ) ومنه الحدفيث تحفة المؤمن الموت أي ما يصيب المؤمن في الدنيا من الذضى وما له عند الله من الخير الذي لا يصل إليه إلا بالموت , ومنه قول الشاعر
... قد قلت إذ مدضحوا الحياة فأسرفوا ... في الموت الف فضيلة لا تعرف ... منها أمان عذابة بلقائه ... وفراق كل معاشر لا ينصف
ويشبهه الحديث الآخر الموت راحة المؤمن
تحا ( هـ ) فيه التحيات لله التحيات جمع تحية , قيل أراد بها السلام , يقال حياك الله أي سلم عليك وقيل التحية الملك وقيل البقاء وإنما جمع التحية لأن ملوك الأرض يحيون بتحيات مختلفة , فيقال لبعضهم أبيت اللعن , ولبعضهم أنعم صباحا , ولبعضهم أسلم كثيرا , ولبعضهم عش ألف سنة , فقيل للمسلمين قولوا التحيات لله , أي الألفاظ التي تدل على السلام والملك والبقاء هي لله تعالى والتحية تفعلة من الحياة , وإنما أدغمت لاجتماع المثل , والهاء لازمة لها والتاء زائدة , وإنما ذكرناها ها هنا على ظاهر لفظها
{ باب التاء مع الخاء }
تخذ في حديث موسى والخضر عليهما السلام قال لو شئت لتخذت عليه أجرا يقال تخذ , بوزن سمع يسمع , مثل أخذ يأخذ وقرى لتخذت ولاتخذت وهو افتعل من تخذ فأدغم أحدى التاءين في الأخرى , وليس من أخذ
أقسام الكتاب 12.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق