بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَعْلَى مَعَالِمَ الْعِلْمِ وَأَعْلَامَهُ ، وَأَظْهَرَ شَعَائِرَ
الشَّرْعِ وَأَحْكَامَهُ ، وَبَعَثَ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
إلَى سُبُلِ الْحَقِّ هَادِينَ ،
وَأَخْلَفَهُمْ عُلَمَاءَ إلَى سُنَنِ سُنَنِهِمْ دَاعِينَ ، يَسْلُكُونَ
فِيمَا لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمْ مَسْلَكَ الِاجْتِهَادِ ، مُسْتَرْشِدِينَ
مِنْهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ وَلِيُّ الْإِرْشَادِ ، وَخَصَّ أَوَائِلَ
الْمُسْتَنْبِطِينَ بِالتَّوْفِيقِ حَتَّى وَضَعُوا مَسَائِلَ مِنْ كُلِّ
جَلِيٍّ وَدَقِيقٍ غَيْرَ أَنَّ الْحَوَادِثَ مُتَعَاقِبَةُ الْوُقُوعِ ،
وَالنَّوَازِلُ يَضِيقُ عَنْهَا نِطَاقُ الْمَوْضُوعِ ، وَاقْتِنَاصُ
الشَّوَارِدِ بِالِاقْتِبَاسِ مِنْ الْمَوَارِدِ ، وَالِاعْتِبَارُ
بِالْأَمْثَالِ مِنْ صَنْعَةِ الرِّجَالِ ، وَبِالْوُقُوفِ عَلَى
الْمَآخِذِ يُعَضُّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ .
وَقَدْ جَرَى عَلَى
الْوَعْدِ فِي مَبْدَإِ بِدَايَةِ الْمُبْتَدِي أَنْ أَشْرَحَهَا
بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى شَرْحًا أَرْسُمُهُ بِكِفَايَةِ الْمُنْتَهِي
، فَشَرَعْت فِيهِ وَالْوَعْدُ يَسُوغُ بَعْضَ الْمَسَاغِ ، وَحِينَ
أَكَادُ أَتَّكِئُ عَنْهُ اتِّكَاءَ الْفَرَاغِ ، تَبَيَّنْتُ فِيهِ
نُبَذًا مِنْ الْإِطْنَابِ وَخَشِيتُ أَنْ يُهْجَرَ لِأَجْلِهِ الْكِتَابُ ،
فَصَرَفْتُ الْعِنَانَ وَالْعِنَايَةَ إلَى شَرْحٍ آخَرَ مَوْسُومٍ
بِالْهِدَايَةِ ، أَجْمَعُ فِيهِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ
عُيُونِ الرِّوَايَةِ وَمُتُونِ الدِّرَايَةِ ، تَارِكًا لِلزَّوَائِدِ فِي
كُلِّ بَابٍ ، مُعْرِضًا عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِسْهَابِ ، مَعَ
مَا أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أُصُولٍ يَنْسَحِبُ عَلَيْهَا فُصُولٌ ،
وَأَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِهَا ،
وَيَخْتِمَ لِي بِالسَّعَادَةِ بَعْدَ اخْتِتَامِهَا ، حَتَّى إنَّ مَنْ
سَمَتْ هِمَّتُهُ إلَى مَزِيدِ الْوُقُوفِ يَرْغَبُ فِي الْأَطْوَلِ
وَالْأَكْبَرِ ، وَمَنْ أَعْجَلَهُ الْوَقْتُ عَنْهُ يَقْتَصِرْ عَلَى
الْأَقْصَرِ وَالْأَصْغَرِ .
وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ وَالْفَنُّ خَيْرٌ كُلُّهُ .
ثُمَّ سَأَلَنِي بَعْضُ إخْوَانِي أَنْ أُمْلِيَ عَلَيْهِمْ الْمَجْمُوعَ
الثَّانِي ، فَافْتَتَحْتُهُ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي تَحْرِيرِ مَا أُقَاوِلُهُ مُتَضَرِّعًا إلَيْهِ فِي التَّيْسِيرِ لِمَا أُحَاوِلُهُ ، إنَّهُ الْمُيَسِّرُ لِكُلِّ عَسِيرٍ وَهُوَ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا فِي
الْبِدَايَةِ لِمَعْرِفَةِ الْهِدَايَةِ ، وَرَعَانَا بِعَيْنِ
الْعِنَايَةِ فِي النِّهَايَةِ عَنْ الْجَهْلِ وَالْغَوَايَةِ ،
وَجَعَلْنَا مِمَّنْ آمَنَ بِمَا أَنْزَلَ وَاتَّبَعَ الرُّسُلَ وَوُفِّقَ
لِلدِّرَايَةِ ، وَخَصَّنَا بِأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأُمَمِ
بِفَضْلٍ مِنْهُ وَكَمَالِ الرِّعَايَةِ .
أَحْمَدُهُ عَلَى إفَاضَةِ
حُكْمِهِ ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى سَوَابِغِ نِعَمِهِ ، وَأُصَلِّي عَلَى مَنْ
اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِلرِّسَالَةِ ، فَكَانَ خَازِنًا عَلَى وَحْيِهِ
حَامِيًا أَمِينًا ، وَحَبَاهُ بِمَعْرِفَةِ أُمِّ الْكِتَابِ مَعْدِنِ
الْأَنْوَارِ وَالْأَسْرَارِ فَكَانَ إمَامًا حَاوِيًا مُبِينًا ،
مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ إلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ بِالْكِتَابِ
الْعَرَبِيِّ الْمُعْجِزِ الْمُنَوِّرِ ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ
الْقَائِمِينَ بِنُصْرَةِ الدِّينِ الْقَوِيمِ الْأَزْهَرِ ، وَالصَّفْوَةِ
الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أُمَّتِهِ الْوَارِثِينَ لِعِلْمِهِ الْعَزِيزِ
الْأَنْوَرِ .
يَقُولُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ
الْحَفِيِّ ، مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَنَفِيُّ ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ
وَلِوَالِدَيْهِ وَعَامَلَهُمْ بِلُطْفِهِ الْخَفِيِّ : [ أَمَّا بَعْدُ ]
فَإِنَّ كِتَابَ الْهِدَايَةِ لِمَئِنَّةِ الْهِدَايَةِ ، لِاحْتِوَائِهِ
عَلَى أُصُولِ الدِّرَايَةِ وَانْطِوَائِهِ عَلَى مُتُونِ الرِّوَايَةِ ،
خَلَصَتْ مَعَادِنُ أَلْفَاظِهِ مِنْ خُبْثِ الْإِسْهَابِ ، وَخَلَتْ
نَقُودُ مَعَانِيهِ عَنْ زَيْفِ الْإِيجَازِ وَبَهْرَجِ الْإِطْنَابِ ،
فَبَرَزَ بُرُوزَ الْإِبْرِيزِ مُرَكَّبًا مِنْ مَعْنًى وَجِيزٍ ،
تَمَشَّتْ فِي الْمَفَاصِلِ عُذُوبَتُهُ ، وَفِي الْأَفْكَارِ رِقَّتُهُ ،
وَفِي الْعُقُولِ حِدَّتُهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَرُبَّمَا خَفِيَتْ
جَوَاهِرُهُ فِي مَعَادِنِهَا ، وَاسْتَتَرَتْ لَطَائِفُهُ فِي
مَكَامِنِهَا .
فَلِذَلِكَ تَصَدَّى الشَّيْخُ الْإِمَامُ وَالْقَرْمُ
الْهُمَامُ ، جَامِعُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مُقَرِّرُ مَبَانِي أَحْكَامِ
الشَّرْعِ ، حُسَامُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ السِّغْنَاقِيُّ سَقَى اللَّهُ
ثَرَاهُ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَثْوَاهُ ؛ لِإِبْرَازِ ذَلِكَ
وَالتَّنْقِيرِ عَمَّا
هُنَالِكَ ، فَشَرَحَهُ شَرْحًا وَافِيًا
وَبَيَّنَ مَا أَشْكَلَ مِنْهُ بَيَانًا شَافِيًا ، وَسَمَّاهُ
النِّهَايَةَ لِوُقُوعِهِ فِي نِهَايَةِ التَّحْقِيقِ ، وَاشْتِمَالِهِ
عَلَى مَا هُوَ الْغَايَةُ فِي التَّدْقِيقِ ، لَكِنْ وَقَعَ فِيهِ بَعْضُ
إطْنَابٍ ، لَا بِحَيْثُ أَنْ يُهْجَرَ لِأَجْلِهِ الْكِتَابُ ، وَلَكِنْ
يَعْسُرُ اسْتِحْضَارُهُ وَقْتَ إلْقَاءِ الدَّرْسِ عَلَى الطُّلَّابِ ،
وَكَانُوا يَقْتَرِحُونَ عِنْدَ الْمُذَاكَرَةِ أَنْ أَخْتَصِرَهُ عَلَى
مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ حَلُّ أَلْفَاظِ الْهِدَايَةِ وَبَيَانُ مَبَانِيهِ ،
وَيَحْصُلُ بِهِ تَطْبِيقُ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَقْرِيرِ أَحْكَامِهِ
وَمَعَانِيهِ .
وَكُنْت أَمْتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ غَايَةَ الِامْتِنَاعِ
وَأُسَوِّفُهُمْ مِنْ الْأَعْوَامِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ، وَكَانَ
امْتِنَاعِي يَزِيدُهُمْ غَرَامًا وَتَسْوِيفِي يُفِيدُهُمْ هُيَامًا ،
فَلَمْ نَزَلْ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ حَتَّى أَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ
بِالْحِجَاجِ ، فَاسْتَخَرْت اللَّهَ تَعَالَى وَأَقْدَمْت عَلَى هَذَا
الْخَطْبِ الْخَطِيرِ ، وَتَضَرَّعْت بِضَرَاعَةِ الطَّلَبِ إلَى
الْعَالِمِ الْخَبِيرِ فِي اسْتِنْزَالِ كِلَاءَتِهِ عَنْ الزَّلَلِ فِي
التَّحْرِيرِ وَالتَّقْرِيرِ ، وَجَمَعْت مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ
الشُّرُوحِ مَا ظَنَنْت أَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَكُونُ
الِاعْتِمَادُ وَقْتَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ ، وَأَشَرْت إلَى مَا
يَتِمُّ بِهِ مُقَدَّمَاتُ الدَّلِيلِ وَتَرْتِيبُهُ ، وَلَمْ آلُ جَهْدًا
فِي تَنْقِيحِهِ وَتَهْذِيبِهِ ، وَأَوْرَدْت مَبَاحِثَ لَمْ أَظْفَرْ
عَلَيْهَا فِي كِتَابٍ ، وَلَمْ تَصِلْ إلَيَّ عَنْ أَحَدٍ لَا بِرِسَالَةٍ
وَلَا خِطَابٍ ، بَلْ كَانَ خَاطِرِي أَبَا عُذْرِهِ وَمُقْتَضِبَ
حُلْوِهِ وَمُرِّهِ .
وَسَمَّيْته ( الْعِنَايَةَ ) لِحُصُولِهِ
بِعَوْنِ اللَّهِ وَالْعِنَايَةِ ، وَسَأَلْت اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَ بِهِ
كَمَا نَفَعَ بِأَصْلِهِ ، إنَّهُ أَكْرَمُ مَسْئُولٍ وَأَعَزُّ مَأْمُولٍ .
ثُمَّ
إنِّي أَرْوِي كِتَابَ الْهِدَايَةِ عَنْ شَيْخِي الْعَلَّامَةِ إمَامِ
الْهُدَى مَعْدِنِ التَّقِيِّ ، فَرِيدِ عَصْرِهِ وَوَحِيدِ دَهْرِهِ ،
قُدْوَةِ الْعُلَمَاءِ عُمْدَةِ الْفُضَلَاءِ ، قِوَامِ الْحَقِّ
وَالْمِلَّةِ وَالدِّينِ
الْكَاكِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ
وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ ، وَهُوَ يَرْوِيهِ عَنْ شَيْخَيْهِ الْعَلَّامَتَيْنِ
الْإِمَامَيْنِ الْهُمَامَيْنِ الْمُجْتَهِدَيْنِ مَوْلَانَا عَلَاءِ
الدِّينِ عَبْدِ الْعَزِيزِ صَاحِبِ الْكَشْفِ وَمَوْلَانَا حُسَامِ
الدِّينِ حُسَيْنٍ السِّغْنَاقِيِّ صَاحِبِ النِّهَايَةِ ، بَرَّدَ اللَّهُ
مَضْجَعَهُمَا وَنَوَّرَ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ مَهْجَعَهُمَا .
وَهُمَا
يَرْوِيَانِهِ عَنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ السَّالِكِ النَّاسِكِ
الْبَارِعِ الْوَرِعِ التَّقِيِّ النَّقِيِّ أُسْتَاذِ الْعُلَمَاءِ
مَوْلَانَا حَافِظِ الدِّينِ الْكَبِيرِ ، وَعَنْ قُطْبِ الْمُجْتَهِدِينَ
وَقُدْوَةِ الْمُحَقِّقِينَ وَأُسْوَةِ الْمُتَّقِينَ مَوْلَانَا فَخْرِ
الدِّينِ الْمَايَمُرْغِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً ،
وَهُمَا يَرْوِيَانِهِ عَنْ أُسْتَاذِ أَئِمَّةِ الدُّنْيَا مُظْهِرِ
كَلِمَةِ اللَّهِ الْعُلْيَا شَمْسِ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
السِّتَارِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَرْدَرِيِّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ
بِرَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ ، وَهُوَ يَرْوِيهِ عَنْ شَيْخِهِ شَيْخِ
شُيُوخِ الْإِسْلَامِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَى الْأَنَامِ ، مُرْشِدِ
عُلَمَاءِ الدَّهْرِ مَا تَكَرَّرَتْ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ ،
وَالْمَخْصُوصِ بِالْعِنَايَةِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ ، غَفَرَ اللَّهُ
لَهُمْ وَلِوَالِدَيْهِمْ وَلَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَأَثَابَنَا
الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ وَخَتَمَ لَنَا بِخَيْرٍ فِي عَافِيَةٍ
أَجْمَعِينَ ، إنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ
رَحِمَهُ اللَّهُ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعْلَى مَعَالِمَ الْعِلْمِ
وَأَعْلَامَهُ ) اللَّامُ فِي الْحَمْدِ لِلْجِنْسِ ، وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ ، وَجَعْلُهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ عِنْدَ
أَهْلِ السُّنَّةِ وَلِلْعَهْدِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ بِنَاءً عَلَى
أَنَّ الْعِبَادَ خَالِقُونَ لِأَفْعَالِهِمْ فَيَسْتَحِقُّونَ مِنْ
الْحَمْدِ مَا يُقَابِلُهَا فَلَا يَكُونُ الِاسْتِغْرَاقُ صَحِيحًا لَيْسَ
بِوَاضِحٍ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَنْ جَعَلَهُ لِلْعَهْدِ :
أَعْنِي الذِّهْنِيَّ ، وَصَاحِبُ الْكَشَّافِ جَعَلَهُ لِلْجِنْسِ .
وَالْحَمْدُ هُوَ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ عَلَى جِهَةِ التَّفْضِيلِ ،
فَقَوْلُنَا
هُوَ الْوَصْفُ كَالْجِنْسِ ، وَقَوْلُنَا بِالْجَمِيلِ أَخْرَجَ مَا
لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَقَوْلُنَا عَلَى جِهَةِ التَّفْضِيلِ أَخْرَجَ مَا
يَكُونُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّهَكُّمِ ، وَالْكَلَامُ فِي
اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ كَوْنِهِ مَنْقُولًا أَوْ مُرْتَجَلًا مُشْتَقًّا
أَوْ غَيْرِهِ عَلَمًا أَوْ غَيْرِهِ لَيْسَ مِمَّا يَهُمُّنَا الْآنَ .
وَمَعْنَى
قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ الْمَعْنَى
الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظُ أَوْ جَمِيعُ أَفْرَادِ ذَلِكَ
ثَابِتٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالِاخْتِصَاصِ ، وَهُوَ كَمَا تَرَى يُفِيدُ
كَوْنَ اللَّهِ تَعَالَى مَحْمُودًا صَدَرَ الْحَمْدُ مِنْ حَامِدٍ أَوْ
لَا .
وَالْمَعَالِمُ جَمْعُ مَعْلَمٍ وَأَرَادَ بِهِ أُصُولَ الشَّرْعِ
لِكَوْنِهَا مَدَارَك الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ ، وَالْأَعْلَامُ
عُلَمَاؤُهُ ، وَالشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ ، قِيلَ وَالْمُرَادُ بِهَا
مَا يُؤَدَّى مِنْ الْعِبَادَاتِ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِهَارِ
كَالْأَذَانِ وَالْجُمُعَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ وَالْأُضْحِيَّةِ ،
وَالشَّرْعُ بِمَعْنَى الْمَشْرُوعِ أَوْ بِمَعْنَى الشَّارِعِ ، وَيَكُونُ
مِنْ قَبِيلِ إقَامَةِ الْمُظْهَرِ مَقَامَ الضَّمِيرِ أَوْ بِمَعْنَى
الشَّرِيعَةِ ، يُقَالُ شَرْعُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَمَا يُقَالُ شَرِيعَةُ مُحَمَّدٍ .
وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ
هِيَ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ وَالصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ وَغَيْرُهَا ،
وَحَمْلُ الشَّعَائِرِ عَلَى الْأَسْبَابِ وَالْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ
وَالْعَلَامَاتِ أَنْسَبُ لِلْأَحْكَامِ ، وَيَكُونُ إشَارَةً إلَى
بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ ، فَإِنَّ كِتَابَهُ هَذَا مُشْتَمِلٌ عَلَى
الْأَحْكَامِ مُبَيَّنَةٌ بِذَلِكَ .
قَالَ ( وَبَعَثَ رُسُلًا
وَأَنْبِيَاءً صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ) قِيلَ :
الرَّسُولُ هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي مَعَهُ كِتَابٌ مُوسَى وَعِيسَى
عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَالنَّبِيُّ هُوَ الَّذِي
يُنْبِئُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ كِتَابٌ
كَيُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ الظَّاهِرُ .
وَقَوْلُهُ ( هَادِينَ ) أَيْ مُبَيِّنِينَ طُرُقَ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ ، وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ
رَحِمَهُ
اللَّهُ بِأَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَ كَوْنِهِ الْأَصْلَ الْمُحْتَاجَ إلَى ذِكْرِهِ ، وَأُجِيبَ
بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَكِنْ جَمَعَهُ تَعْظِيمًا لَهُ وَإِجْلَالًا
لِقَدْرِهِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ .
وَقَوْلُهُ ( دَاعِينَ ) كَقَوْلِهِ
هَادِينَ فِي كَوْنِهِ صِفَةً مَادِحَةً ، وَقَوْلُهُ ( يَسْلُكُونَ )
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِعُلَمَاء وَأَنْ يَكُونَ حَالًا
لِاتِّصَافِهِ أَوَّلًا بِدَاعِينَ ، وَالنَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ جَازَ
أَنْ يَقَعَ عَنْهَا الْحَالُ مُتَأَخِّرًا ، وَأَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا
كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ : كَيْفَ دَعَوْتُهُمْ إلَى سُنَنِ سُنَنِهِمْ ؟
فَقَالَ : يَسْلُكُونَ فِيمَا لَمْ يُؤْثَرْ عَنْهُمْ : أَيْ لَمْ يُوجَدْ
عَنْهُمْ مَأْثُورًا : أَيْ مَرْوِيًّا مَسْلَكَ الِاجْتِهَادِ ، وَفِيهِ
بَيَانُ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْمَأْثُورِ مِنْهُمْ إذَا
وَجَدُوهُ ، وَأَنَّهُمْ مُتَّبِعُوهُمْ عَلَى الدَّوَامِ لِأَنَّهُمْ إنْ
وَجَدُوا مَأْثُورًا عَنْهُمْ عَمِلُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُمْ فِيهِ ،
وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا تَبِعُوهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ وَإِذَا لَمْ يُوحَ
إلَيْهِمْ ، وَهُوَ الِاجْتِهَادُ وَهُوَ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ
الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ الظَّنِّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا
شُرُوطَهُ وَحُكْمَهُ فِي التَّقْرِيرِ .
وَقَوْلُهُ ( مُسْتَرْشِدِينَ ) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَسْلُكُونَ .
وَأَرَادَ
بِأَوَائِلِ الْمُسْتَنْبِطِينَ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ رَحِمَهُمُ
اللَّهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ حَتَّى وَضَعُوا مَسَائِلَ مِنْ كُلِّ جَلِيٍّ
وَدَقِيقٍ ، فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ تَوَلَّوْا تَمْهِيدًا قَوَاعِدَ
الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَبْيِينَهَا ، وَالْمُرَادُ
بِالْجَلِيِّ الْمَسَائِلُ الْقِيَاسِيَّةُ لِظُهُورِ إدْرَاكِهَا
غَالِبًا ، وَبِالدَّقِيقِ الْمَسَائِلُ الِاسْتِحْسَانِيّة لِخَفَاءِ
إدْرَاكِهَا ، قِيلَ مَا وَضَعَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ الْمَسَائِلِ
الْفِقْهِيَّةِ هُوَ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَةُ أَلْفٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا
وَنَيِّفُ مَسْأَلَةٍ .
وَقَوْلُهُ ( غَيْرَ أَنَّ الْحَوَادِثَ ) مَنْصُوبٌ عَلَى
الِاسْتِثْنَاءِ
مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى وَضَعُوا ، وَهُوَ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا
كَانَ أَوَائِلُ الْمُسْتَنْبِطِينَ وَضَعُوا مَسَائِلَ مِنْ كُلِّ جَلِيٍّ
وَدَقِيقٍ فَأَيُّ حَاجَةٍ تَدْعُو إلَى الِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّصْنِيفِ ،
وَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ وَإِنْ وَضَعُوا ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْحَوَادِثَ (
مُتَعَاقِبَةُ الْوُقُوعِ ، وَالنَّوَازِلَ ) أَيْ الْوَاقِعَاتِ ( يَضِيقُ
عَنْهَا نِطَاقُ الْمَوْضُوعِ ) وَالنِّطَاقُ هُوَ الْمِنْطَقَةُ
اُسْتُعِيرَ هُنَا لِلْأَجْوِبَةِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ السَّلَفِ فِي
الْفَتَاوَى ، وَالِاقْتِنَاصُ الِاصْطِيَادُ ، وَالشَّوَارِدُ جَمْعُ
شَارِدَةٍ وَهِيَ الْآبِدَةُ ، الْقَبَسُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ ، يُقَالُ
اقْتَبَسْت مِنْهُ نَارًا وَاقْتَبَسْت مِنْهُ عِلْمًا : أَيْ اسْتَفَدْته ،
وَالْمَوَارِدُ جَمْعُ الْمَوْرِدِ ، اسْتَعَارَ الشَّوَارِدَ
لِلْأَحْكَامِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ الْأُصُولِ بِالِاسْتِنْبَاطِ
بِجَامِعِ عُسْرِ الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ ، وَاسْتَعَارَ
الْمَوَارِدَ لِلْأُصُولِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مَحَلُّ الْوُصُولِ :
يَعْنِي كَمَا أَنَّ اصْطِيَادَ الصُّيُودِ النَّافِرَةِ مِنْ مَوَارِدِهَا
وَمَنَاهِلِهَا فَكَذَا اصْطِيَادُ الْحَوَادِثِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ
الْأُصُولِ : أَيْ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ وَالْإِجْمَاعِ بِالِاعْتِبَارِ ،
وَبَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لَيْسَ صَنْعَةَ كُلِّ أَحَدٍ بَلْ مِنْ
صَنْعَةِ الرِّجَالِ الْكَامِلِينَ فِي الرُّجُولِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ ( بِالْوُقُوفِ عَلَى الْمَآخِذِ ) خَبَرٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْأَمْثَالِ .
وَقَوْلُهُ
( يَعَضُّ عَلَيْهَا ) حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ :
وَقِيَاسُ الْأَحْكَامِ عَلَى نَظَائِرِهَا إنَّمَا هُوَ مِنْ صَنْعَةِ
الْكُمَّلِ مِنْ الرِّجَالِ وَهُوَ بِالْوُقُوفِ عَلَى الْمَآخِذِ حَالَ
كَوْنِهَا يَعَضُّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ : يَعْنِي إذَا كَانَ
الْوُقُوفُ بِإِحْكَامٍ وَإِتْقَانٍ ، ثُمَّ قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ
الْحَوَادِثَ إلَخْ اعْتِذَارٌ عَنْ الشُّرُوعِ فِي التَّصْنِيفِ .
وَقَوْلُهُ
( وَالِاعْتِبَارُ بِالْأَمْثَالِ ) إنْ كَانَ ذِكْرُهُ هَضْمًا
لِنَفْسِهِ عَنْ مَرْتَبَةِ التَّصْنِيفِ كَانَ مَعْنَاهُ وَالِاعْتِبَارُ
بِالْأَمْثَالِ مِنْ
صَنْعَةِ الرِّجَالِ وَبِالْوُقُوفِ الْمُحْكَمِ
الْمُتْقَنِ عَلَى الْمَآخِذِ وَلَسْت مِنْهُمْ وَلَا حَصَلَ لِي وَلَكِنْ
كَانَ قَدْ جَرَى عَلَيَّ الْوَعْدُ فِي مَبْدَإِ بِدَايَةِ الْمُبْتَدِي
أَنْ أَشْرَحَهَا شَرْحًا أَرْسُمُهُ بِكِفَايَةِ الْمُنْتَهَى فَشَرَعْت
فِيهِ حَالَ كَوْنِ الْوَعْدِ يَسُوغُ بَعْضَ الْمَسَاغِ لِئَلَّا أَكُونَ
مِمَّنْ إذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضَ الْمَسَاغِ
لِأَنَّ الْوَعْدَ بِالتَّبَرُّعِ غَيْرُ مُوجِبٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ
مُجَوِّزٌ حِينًا ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى : أَعْنِي كَوْنَهُ هَضْمًا
لِنَفْسِهِ ذَهَبَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَتَاجِ الشَّرِيعَةِ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرَهُ لِبَيَانِ صَلَاحِيَتِهِ لِذَلِكَ كَانَ
مَعْنَاهُ وَأَنَا مِنْهُمْ هُمْ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ ، وَحَصَلَ
الْوُقُوفُ لَنَا عَلَى الْمَآخِذِ بِالْإِتْقَانِ كَمَا حَصَلَ لَهُمْ
فَجَازَ لَنَا الِاعْتِبَارُ ، وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَيَّ
الْوَعْدُ ، وَهُوَ مِمَّا يَسُوغُ بَعْضَ الْمَسَاغِ : يَعْنِي
مُنْفَرِدًا عَنْ صَلَاحِيَةِ الْوَاعِدِ لِلْإِتْيَانِ بِالْمَوْعِدِ
فَكَيْفَ مَعَ الصَّلَاحِيَةِ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ
لَكِنْ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْته مِنْ الْعِبَارَةِ .
وَقَوْلُهُ
( وَحِينَ أَكَادُ أَتَّكِئُ عَنْهُ اتِّكَاءَ الْفَرَاغِ ) قِيلَ عَدَّى
الِاتِّكَاءَ بِعَنْ وَإِنْ كَانَتْ تَعْدِيَتُهُ بِعَلَى لِتَضْمِينِ
مَعْنَى الْفَرَاغِ ، وَرُدَّ بِأَنَّ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ وَحِينَ
أَكَادُ أَفْرَغُ عَنْهُ فَرَاغَ الْفَرَاغِ وَهُوَ تَرْكِيبٌ فَاسِدٌ ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَنْهُ صِلَةُ الْفَرَاغِ قُدِّمَ عَلَيْهِ رِعَايَةً
لِلسَّجْعِ .
وَقَوْلُهُ ( تَبَيَّنْت ) أَيْ عَلِمْت ، وَالنَّبْذُ
الشَّيْءُ الْقَلِيلُ ، وَقَوْلُهُ ( فَصَرَفْت الْعَنَانَ وَالْعِنَايَةَ )
يَعْنِي عَنَانَ الْخَاطِرِ وَعِنَايَةَ الْقَلْبِ ، وَقِيلَ الْمُرَادُ
بِالْعَنَانِ الظَّاهِرُ وَبِالْعِنَايَةِ الْبَاطِنُ .
وَقَوْلُهُ (
أَجْمَعَ ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ صَرَفْت وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ صِفَةَ شَرْحٍ ، وَعُيُونُ الرِّوَايَةِ هِيَ الَّتِي
اخْتَارَهَا الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، فَإِذًا عَيْنُ
الشَّيْءِ خِيَارُهُ وَمُتُونُ الدِّرَايَةِ الْمَعَانِي الْمُؤَثِّرَةُ وَالنِّكَاتُ الْمَتِينَةُ .
وَقَوْلُهُ
فِي كُلِّ بَابٍ : يَعْنِي مِنْ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ ، وَقَوْلُهُ
( عَنْ هَذَا النَّوْعِ ) إشَارَةٌ إلَى الَّذِي وَقَعَ فِي كِفَايَةِ
الْمُنْتَهَى وَخَافَ أَنْ يَهْجُرَ لِأَجْلِهِ الْكِتَابَ ،
وَالْإِسْهَابُ هُوَ الْإِطْنَابُ ، وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِأَزْيَدَ مِنْ
مُتَعَارَفِ الْأَوْسَاطِ .
وَقَوْلُهُ ( مَعَ مَا أَنَّهُ ) دَفْعٌ
لِمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ مُوجَزًا خَلَا عَنْ الْأُصُولِ
وَالْفُصُولِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْهَجْرِ مِنْ الْأَوَّلِ فَقَالَ لَيْسَ
هُوَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مَعَ كَوْنِهِ خَالِيًا عَنْ الْإِطْنَابِ
مُشْتَمِلٌ عَلَى أُصُولٍ يَنْسَحِبُ عَلَيْهَا فُصُولٌ ، وَهُوَ كَمَا
قَالَ جَزَاهُ اللَّهُ عَنْ الطَّلَبَةِ خَيْرًا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ
مَنْ خَدَمَ كِتَابَهُ حَقَّ خِدْمَتِهِ ، فَمَا ظَهَرَ مِنْ ذَلِكَ
قَوْلُهُ فِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ بِكُلِّ شَرْطٍ يُخَالِفُ
مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ
لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ يَفْسُدُ
الْبَيْعُ ، فَإِنَّ فِي كُلِّ قَيْدٍ مِنْهُ احْتِرَازًا عَمَّا
يُضَادُّهُ وَجَمْعًا لَمَا يُوَافِقُهُ .
وَقَوْلُهُ ( لِإِتْمَامِهَا
وَاخْتِتَامِهَا ) الضَّمِيرُ لِلْهِدَايَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ
بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ فِيهِمَا وَالضَّمِيرُ لِلشَّرْحَيْنِ .
وَقَوْلُهُ
( حَتَّى إنَّ مَنْ سَمَتْ ) مُتَّصِلٌ بِتَارِكًا لِلزَّوَائِدِ أَوْ
بِصُرِفَتْ ، وَسَمَتْ بِمَعْنَى عَلَتْ ، وَالْمَزِيدُ مَصْدَرٌ
كَالزِّيَادَةِ ( وَمَنْ أَعْجَلَهُ الْوَقْتُ ) بِمَعْنَى عَجَّلَهُ :
أَيْ اسْتَحَثَّهُ ، وَإِسْنَادُهُ إلَى الْوَقْتِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ
كَصِيَامِ النَّهَارِ وَالشِّعْرِ لِأَبِي فِرَاسٍ ، وَقَبْلَهُ : عَلَيَّ
لِرَبْعِ الْعَامِرِيَّةِ وَقْفَةٌ لِيُمْلِيَ عَلَيَّ الشَّوْقُ
وَالدَّمْعُ كَاتِبُ وَمِنْ عَادَتِي حُبُّ الدِّيَارِ لِأَهْلِهَا
وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ ( وَالْفَنُّ خَيْرٌ كُلُّهُ )
أَيْ هَذَا الْفَنُّ وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ كُلُّهُ خَيْرٌ ، فَإِنْ
شِئْت فَارْغَبْ فِي الْأَقْصَرِ وَالْأَخْصَرِ حِفْظًا
وَتَحْصِيلًا وَإِنْ شِئْت فِي الْأَطْوَلِ وَالْأَكْبَرِ كَشْفًا وَتَأْصِيلًا .
وَقِيلَ
مَعْنَاهُ جِنْسُ الْعِلْمِ حَسَنٌ فَارْغَبْ فِي أَيِّ نَوْعٍ شِئْت ،
وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ لَكِنْ لَا تَقْرِيبَ لَهُ هُنَا ، وَالْمُرَادُ
بِالْمَجْمُوعِ الثَّانِي هُوَ الْهِدَايَةُ ، وَكَأَنَّهُ بَعْدَ صَرْفِ
الْعَنَانِ وَالْعِنَايَةِ لَمْ يَشْرَعْ فِيهِ حَتَّى سَأَلَهُ إخْوَانُهُ
الْإِمْلَاءَ عَلَيْهِمْ فَافْتَتَحَ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ فِي
تَحْرِيرِ : أَيْ تَقْوِيمِ مَا يُقَاوِلُهُ وَتَلْخِيصِهِ .
وَفِي لَفْظِ الْمُفَاعِلَةِ مَزِيدُ مُزَاوَلَةٍ وَمُقَاسَاةٍ لَيْسَ فِي الْقَوْلِ .
وَحَاوَلْت الشَّيْءَ أَرَدْته ، وَيُقَالُ فُلَانٌ جَدِيرٌ بِكَذَا : أَيْ خَلِيقٌ بِهِ .
رُوِيَ
أَنَّ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ بَقِيَ فِي تَصْنِيفِ الْكِتَابِ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَ صَائِمًا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يُفْطِرُ
أَصْلًا ، وَكَانَ يَجْتَهِدُ أَلَّا يَطَّلِعَ عَلَى صَوْمِهِ أَحَدٌ ،
فَإِذَا أَتَى خَادِمٌ بِطَعَامٍ يَقُولُ خَلِّهِ وَرُحْ ، فَإِذَا رَاحَ
كَانَ يُطْعِمُهُ أَحَدَ الطَّلَبَةِ أَوْ غَيْرَهُمْ ، فَكَانَ بِبَرَكَةِ
زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ كِتَابُهُ مُبَارَكًا مَقْبُولًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ
.
كِتَابُ الطِّهَارَاتِ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ }
الْآيَةَ .
( فَفَرْضُ الطَّهَارَةِ : غَسْلُ الْأَعْضَاءِ
الثَّلَاثَةِ ، وَمَسْحُ الرَّأْسِ ) بِهَذَا النَّصِّ ، وَالْغَسْلُ هُوَ
الْإِسَالَةُ وَالْمَسْحُ هُوَ الْإِصَابَةُ .
وَحَدُّ الْوَجْهِ مِنْ
قِصَاصِ الشَّعْرِ إلَى أَسْفَلِ الذَّقَنِ وَإِلَى شَحْمَتَيْ الْأُذُنِ ؛
لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ تَقَعُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ
مِنْهَا ( وَالْمِرْفَقَانِ وَالْكَعْبَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْغَسْلِ )
عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، هُوَ يَقُولُ : الْغَايَةُ
لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُغَيَّا كَاللَّيْلِ فِي بَابِ الصَّوْمِ .
وَلَنَا
أَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهَا إذْ لَوْلَاهَا
لَاسْتَوْعَبَتْ الْوَظِيفَةُ الْكُلَّ ، وَفِي بَابِ الصَّوْمِ لِمَدِّ
الْحُكْمِ إلَيْهَا إذْ الِاسْمُ يُطْلَقُ عَلَى الْإِمْسَاكِ سَاعَةً ،
وَالْكَعْبُ هُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ هُوَ الصَّحِيحُ وَمِنْهُ
الْكَاعِبُ .
قَالَ ( وَالْمَفْرُوضُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ مِقْدَارُ
النَّاصِيَةِ وَهُوَ رُبْعُ الرَّأْسِ ) لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى
سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ
وَخُفَّيْهِ } وَالْكِتَابُ مُجْمَلٌ فَالْتَحَقَ بَيَانًا بِهِ ، وَهُوَ
حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي التَّقْدِيرِ بِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ ،
وَعَلَى مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ الِاسْتِيعَابِ .
وَفِي بَعْضِ
الرِّوَايَاتِ : قَدَّرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ
أَصَابِعِ الْيَدِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي آلَةِ
الْمَسْحِ .
الْكِتَابُ وَالْكِتَابَةُ فِي اللُّغَةِ : جَمْعُ
الْحُرُوفِ ، وَالْكِتَابُ قَدْ يُعْرَفُ بِأَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ
الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ اُعْتُبِرَتْ مُسْتَقِلَّةً شَمَلَتْ
أَنْوَاعًا أَوْ لَمْ تَشْمَلْ ، فَقَوْلُهُ طَائِفَةٌ كَالْجِنْسِ ،
وَقَوْلُهُ مِنْ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ احْتِرَازٌ عَنْ غَيْرِهَا ،
وَقَوْلُهُ اُعْتُبِرَتْ مُسْتَقِلَّةً : أَيْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ
تَبَعِيَّتِهَا لِلْغَيْرِ أَوْ تَبَعِيَّةِ غَيْرِهَا لَهَا لِيَدْخُلَ
فِيهِ هَذَا الْكِتَابُ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِلصَّلَاةِ ، وَيَدْخُلُ
كِتَابُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مُسْتَتْبِعٌ لِلطَّهَارَةِ ، وَقَدْ
اُعْتُبِرَا مُسْتَقِلَّيْنِ ، أَمَّا كِتَابُ الطَّهَارَةِ فَلِكَوْنِهِ
الْمِفْتَاحَ ، وَأَمَّا كِتَابُ الصَّلَاةِ فَلِكَوْنِهِ الْمَقْصُودَ
الْأَصْلِيَّ ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ اعْتِبَارَ الِاسْتِقْلَالِ قَدْ
يَكُونُ لِانْقِطَاعِهِ عَنْ غَيْرِهِ ذَاتًا كَكِتَابِ اللُّقَطَةِ عَنْ
كِتَابِ الْآبِقِ وَكِتَابِ الْمَفْقُودِ وَانْقِطَاعِهِمَا عَنْ
الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى يُورِثُ ذَلِكَ
كَانْقِطَاعِ الصَّرْفِ عَنْ الْبُيُوعِ وَالرَّضَاعِ عَنْ النِّكَاحِ
وَالطَّهَارَةِ عَنْ الصَّلَاةِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَقَوْلُهُ شَمَلَتْ
أَنْوَاعًا أَوْ لَمْ تَشْمَلْ لِدَفْعِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْكِتَابُ
اسْمٌ لِجِنْسٍ يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مِنْ الْحِكَمِ وَكُلُّ نَوْعٍ
يُسَمَّى بِالْبَابِ ، وَالْبَابُ اسْمٌ لِنَوْعٍ يَشْتَمِلُ عَلَى
أَشْخَاصٍ تُسَمَّى فُصُولًا ، فَإِنَّ الْكِتَابَ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ
وَقَدْ لَا يَكُونُ ، فَإِنَّ مِنْ الْكُتُبِ مَا لَا يُذْكَرُ فِيهِ بَابٌ
وَلَا فَصْلٌ كَكِتَابِ اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ وَالْآبِقِ وَغَيْرِهَا
عَلَى مَا يَأْتِي ، فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَرُبَّمَا تُوُهِّمَ
ذَلِكَ فَذَكَرَهُ دَفْعًا لِذَلِكَ .
وَالطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ
ظَاهِرَةٌ ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ تَحْصُلُ لِمُزِيلِ
الْحَدَثِ أَوْ الْخُبْثِ عَمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ الصَّلَاةُ ،
وَالْمُرَادُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا ، وَكَلِمَةُ
أَوْ لَيْسَتْ بِمَانِعَةِ الْجَمْعِ فَلَا يَفْسُدُ بِهَا الْحَدُّ ،
وَقَوْلُهُ عَمَّا
تَتَعَلَّقُ بِهِ الصَّلَاةُ لِيَتَنَاوَلَ
الْمَكَانَ فَإِنَّ طَهَارَتَهُ شَرْطٌ عَلَى مَا يَأْتِي ، وَرُكْنُهَا
اسْتِعْمَال الْمُزِيلِ ، وَشَرْطُ وُجُوبِهَا الْحَدَثُ أَوْ الْخُبْثُ ،
وَسَبَبُهَا وُجُوبُ الصَّلَاةِ : لَا وُجُودُهَا ، لِأَنَّ وُجُودَهَا
مَشْرُوطٌ بِهَا فَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا ، وَالْمُتَأَخِّرُ لَا
يَكُونُ سَبَبًا لِلْمُتَقَدِّمِ .
وَحُكْمُهَا إبَاحَةُ الصَّلَاةِ أَوْ مَا يُضَاهِيهَا لِمَنْ قَامَتْ بِهِ .
وَإِنَّمَا
جَمَعَ الطِّهَارَاتِ نَظَرًا إلَى أَنْوَاعِهَا ، وَلَا يُشْكِلُ
بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْجَمْعِ فِي مِثْلِهِ
أَحَدُ الْجَائِزَيْنِ فَلَا يَرِدُ تَرْكُهُ نَقْضًا .
وَوَجْهُ
تَخْصِيصِ الطَّهَارَةِ بِذَلِكَ أَنَّ أَنْوَاعَهَا أَحْسَنُ
بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا لِتَفَاوُتِهَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ
وَالْحُكْمُ وَالْخِفَّةُ وَالْغِلَظُ ، بِخِلَافِ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ ، وَلَا يُشْكِلُ بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّهَا دُعَاءٌ ،
وَإِنَّمَا ابْتَدَأَ بِكِتَابِ الطَّهَارَةِ لِأَنَّهَا مِفْتَاحُ
الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ الْوَاجِبُ تَقْدِيمُهَا بَعْدَ
الْإِيمَانِ عَلَى كُلِّ عِبَادَةٍ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى
الصَّلَاةِ } تَبَرَّكَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِتَقْدِيمِ
الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْوُضُوءِ عَلَى حُكْمِهَا وَإِنْ
كَانَتْ الْقَاعِدَةُ فِي الدَّعَاوَى تَقْدِيمَ الْمُدَّعَى ، وَمَعْنَى
قَوْلِهِ { إذَا قُمْتُمْ } إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ
الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ الْخَاصِّ ، فَإِنَّ الْفِعْلَ
الِاخْتِيَارِيَّ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ ، وَذَلِكَ مَجَازٌ
شَائِعٌ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
الْتِفَاتٌ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ
يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ
مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَالْجُمْهُورُ
عَلَى خِلَافِهِ قَالُوا : مَعْنَاهُ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ
وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَفْوِيتُ
الْمَقْصُودِ
الْأَصْلِيِّ بِالِاشْتِغَالِ بِمُقَدِّمَاتِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ
الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرُوا كَانَ كُلُّ مَنْ جَلَسَ مُتَوَضِّئًا لَزِمَهُ
إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ وُضُوءٌ آخَرُ ، وَفِي ذَلِكَ تَفْوِيتُ
الصَّلَاةِ بِالِاشْتِغَالِ بِالْوُضُوءِ ، وَلِأَنَّ الْحَدَثَ شَرْطُ
وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ التَّيَمُّمَ
فِي قَوْلِهِ { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } إلَى قَوْلِهِ
{ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } مَقْرُونًا بِذِكْرِ الْحَدَثِ
وَهُوَ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ .
وَالنَّصُّ فِي الْبَدَلِ نَصٌّ فِي
الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا أُضْمِرَ قَوْلُهُ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ
كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ آيَةَ الطَّهَارَةِ بِذِكْرِ الْحَدَثِ كَمَا
قَالَ { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَلَمْ يَقُلْ هُدًى لِلضَّالِّينَ
الصَّائِرِينَ إلَى التَّقْوَى بَعْدَ الضَّلَالِ كَرَاهَةَ أَنْ
يَفْتَتِحَ أُولَى الزَّهْرَاوَيْنِ بِذِكْرِ الضَّلَالَةِ .
وَاعْتُرِضَ
عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْجُلُوسَ فِي الْوُضُوءِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ
فَلَا يَتِمُّ مَا ذَكَرْتُمْ ، وَعَلَى الثَّانِي بِأَنَّ الْآيَةَ
بِعِبَارَتِهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ ،
وَآيَةُ التَّيَمُّمِ تَدُلُّ بِدَلَالَتِهَا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى
الْمُحْدِثِينَ ، وَالْعِبَارَةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الدَّلَالَةِ كَمَا
عُرِفَ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ : سَلَّمْنَا أَنَّ الْجُلُوسَ
فِي الْوُضُوءِ غَيْرُ وَاجِبٍ لَكِنْ خِلَافُ مَا ذَكَرْنَا يُفْضِي إلَى
وُجُوبِ الْقِيَامِ لِلْوُضُوءِ دَائِمًا لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ لَا
يَتَحَقَّقُ إذْ ذَاكَ إلَّا إذَا تَوَضَّأَ قَائِمًا ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ
بِالْإِجْمَاعِ ، وَمَا يُفْضِي إلَى الْبَاطِلِ بَاطِلٌ .
وَإِذَا
ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ غَيْرُ مُرَادٍ فَلَا
تَقْتَضِي عِبَارَتُهُ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ فَتَسْلَمُ
الدَّلَالَةُ عَنْ الْمُعَارِضِ وَيَسْقُطُ السُّؤَالُ الثَّانِي .
وَاعْتُرِضَ
بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالدَّلَالَةِ فَاسِدٌ هَاهُنَا لِأَنَّهَا
تَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ وُجُوبِ التَّيَمُّمِ بِوُجُوبِ الْحَدَثِ
وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ الْبَدَلُ الْأَصْلَ فِي
الشَّرْطِ فَإِنَّهُ خَالَفَهُ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَهِيَ شَرْطٌ لَا مَحَالَةَ .
وَالْجَوَابُ
أَنَّ كَلَامَنَا فِي مُخَالَفَةِ الْبَدَلِ الْأَصْلُ فِي شَرْطِ
السَّبَبِ ، فَإِنَّ إرَادَةَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ بِشَرْطِ
الْحَدَثِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ التَّيَمُّمِ ، وَالْبَدَلُ لَا يُخَالِفُ
الْأَصْلَ فِي سَبَبِهِ ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ بِشَرْطِ السَّبَبِ ،
فَإِنَّ إرَادَةَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ بِشَرْطِ نِيَّةِ
التَّيَمُّمِ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لَهُ ، وَإِنَّمَا النِّيَّةُ شَرْطُ
صِحَّةِ التَّيَمُّمِ لَا شَرْطُ سَبَبِهِ .
قَالَ ( فَفَرَضَ
الطَّهَارَةَ ) الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ دَخَلَتْ عَلَى الْحُكْمِ بَعْدَ
ذِكْرِ الدَّلِيلِ ، وَالْفَرْضُ بِمَعْنَى الْمَفْرُوضِ ، وَالْمُرَادُ
بِالطَّهَارَةِ الْوُضُوءُ ، وَالْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ ، وَإِنَّمَا
فَسَّرَ الْغُسْلَ وَالْمَسْحَ مَعَ ظُهُورِ مَعْنَاهُمَا إشَارَةً إلَى
دَفْعِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَكْرَارِ مَسْحِ الرَّأْسِ
عَلَى مَا سَيَجِيءُ ، وَإِلَى أَنَّ الْبَلَلَ بِالْمَاءِ فِي
الْمَغْسُولَاتِ لَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ
رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقُصَاصُ الشَّعْرِ مُنْتَهَاهُ وَغَايَتُهُ فِي الرَّأْسِ .
وَفِي الْقَافِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ وَالضَّمُّ أَعْلَاهَا .
وَقَوْلُهُ
وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهَا ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الثُّلَاثِيَّ
لَا يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ الْمُنْشَعِبَةِ ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ
ذَلِكَ فِي الِاشْتِقَاقِ الصَّغِيرِ ، وَأَمَّا فِي الِاشْتِقَاقِ
الْكَبِيرِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كَلِمَتَيْنِ تَنَاسُبٌ فِي
اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فَهُوَ جَائِزٌ ، وَالْمِرْفَقَانِ وَالْكَعْبَانِ
يَدْخُلَانِ فِي الْغُسْلِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا
يَدْخُلَانِ لِأَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلَ تَحْتَ الْمُغَيَّا
كَاللَّيْلِ فِي الصَّوْمِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لِزُفَرَ
يُخَالِفُ مَا ذُكِرَ لَهُ فِي نُسَخِ الْأُصُولِ ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ
لَهُ فِيهَا تَعَارُضُ الْأَشْبَاهِ وَهُوَ أَنَّ مِنْ الْغَايَاتِ مَا
يَدْخُلُ كَقَوْلِهِ قَرَأْت الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ ،
وَمِنْهَا مَا لَا يَدْخُلُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كَانَ
ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } وَقَوْلُهُ { ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } وَهَذِهِ الْغَايَةُ : أَعْنِي الْمَرَافِقَ
تُشْبِهُ كُلًّا مِنْهُمَا فَلَا تَدْخُلُ بِالشَّكِّ ، وَتَأْوِيلُ
كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ : أَعْنِي الْمَرَافِقَ لَا
تَدْخُلُ بِتَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ كَمَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ {
إلَى اللَّيْلِ } وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ لِإِسْقَاطِ مَا
وَرَاءَهَا : يَعْنِي أَنَّ الْغَايَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ يَكُونُ
لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهَا ، وَنَوْعٌ يَكُونُ لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهَا
.
وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا حَالُ صَدْرِ الْكَلَامِ ، فَإِنْ كَانَ
مُتَنَاوِلًا لِمَا وَرَاءَهَا كَانَتْ لِلثَّانِي وَإِلَّا فَلِلْأَوَّلِ ،
وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الثَّانِي لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ
الْآبَاطَ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهْم
أَهْلُ اللِّسَانِ فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ آيَةِ التَّيَمُّمِ فَتَبْقَى
الْمَرْفِقُ دَاخِلَةً ، بِخِلَافِ ذِكْرِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ
الْإِمْسَاكَ سَاعَةً فَكَانَتْ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَيَبْقَى
اللَّيْلُ خَارِجًا ( وَالْكَعْبُ هُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ ) النَّتْءُ
وَالنُّتُوءُ الِارْتِفَاعُ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ )
احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ هُوَ
الْمَفْصِلُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ ،
قَالَ : لِأَنَّ الْكَعْبَ اسْمٌ لِلْمَفْصِلِ وَمِنْهُ كُعُوبُ الرُّمْحِ ،
وَاَلَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ مَفْصِلٌ وَهُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ ،
وَهَذَا صَحِيحٌ فِي الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَإِنَّهُ
يَقْطَعُ خُفَّيْهِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ ، فَأَمَّا فِي
الطَّهَارَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْعَظْمُ النَّاتِئُ الْمُتَّصِلُ
بِعَظْمِ السَّاقِ ، وَمِنْهُ الْكَاعِبُ وَهِيَ الْجَارِيَةُ الَّتِي
يَبْدُو ثَدْيُهَا لِلنُّهُودِ ( قَوْلُهُ وَالْمَفْرُوضُ فِي مَسْحِ
الرَّأْسِ ) أَيْ الْمُقَدَّرِ عَلَى جِهَةِ الْفَرْضِيَّةِ ( مِقْدَارُ
النَّاصِيَةِ وَهُوَ رُبْعُ الرَّأْسِ ) وَهُوَ كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى
أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ كَانَ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى
ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ
وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَخُفَّيْهِ } وَلَمْ يَقْتَصِرْ
عَلَى إيرَادِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ مَعَ
حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ ، لِأَنَّ نَقْلَ الْحَدِيثِ بِمَا يَتْلُوهُ
مِنْ الْحِكَايَةِ يُوجِبُ صِحَّتَهُ وَوَكَادَتَهُ .
قِيلَ هُوَ
حَدِيثٌ وَاحِدٌ ، وَقِيلَ حَدِيثَانِ جَمَعَ الْقُدُورِيُّ بَيْنَهُمَا ،
فَإِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ السُّبَاطَةِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ
الْمَسْحُ عَلَى النَّاصِيَةِ وَاَلَّذِي ذُكِرَ فِيهِ الْمَسْحُ
عَلَيْهَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ السُّبَاطَةُ ، وَالسُّبَاطَةُ الْكُنَاسَةُ
مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْحَالِّ وَإِرَادَةِ الْمَحَلِّ .
وَقَوْلُهُ (
وَالْكِتَابُ مُجْمَلٌ فَالْتَحَقَ بَيَانًا بِهِ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ
حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ خَبَرٌ وَاحِدٌ لَا يُزَادُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ ،
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْكِتَابِ بَلْ
الْكِتَابُ مُجْمَلٌ فَالْتَحَقَ الْخَبَرُ بَيَانًا بِهِ ، وَيَجُوزُ
أَنْ يَقَعَ خَبَرُ الْوَاحِدِ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ ، وَفِيهِ
بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكِتَابَ مُجْمَلٌ لِأَنَّ
الْمُجْمَلَ مَا لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بِبَيَانٍ مِنْ
الْمُجْمِلِ ، وَالْعَمَلُ بِهَذَا النَّصِّ مُمْكِنٌ بِحَمْلِهِ عَلَى
الْأَقَلِّ لِتَيَقُّنِهِ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُجْمَلٌ وَالْخَبَرُ بَيَانٌ
لَهُ ، وَلَكِنَّ الدَّلِيلَ أَخَصُّ مِنْ الْمَدْلُولِ ، فَإِنَّ
الْمَدْلُولَ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ وَهُوَ رُبْعُ الرَّأْسِ ،
وَالدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِ النَّاصِيَةِ ، وَمِثْلُهُ لَا
يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ .
سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ
مِقْدَارَ النَّاصِيَةِ فَرْضٌ لِأَنَّ الْفَرْضَ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ
قَطْعِيٍّ ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ ، سَلَّمْنَاهُ
وَلَكِنَّ لَازِمَهُ وَهُوَ تَكْفِيرُ الْجَاحِدِ مُنْتَفٍ فَيَنْتَفِي
الْمَلْزُومُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ قَبْلَ الْبَيَانِ مُمْكِنٌ قَوْلُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْأَقَلِّ ،
قُلْنَا
: لَا أَقَلَّ مِنْ شَعْرَةٍ وَالْمَسْحُ عَلَيْهَا لَا يُمْكِنُ إلَّا
بِزِيَادَةٍ عَلَيْهَا ، وَمَا لَا يُمْكِنُ الْفَرْضُ إلَّا بِهِ فَهُوَ
فَرْضٌ ، وَالزِّيَادَةُ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَتَحَقَّقَ الْإِجْمَالُ فِي
الْمِقْدَارِ ، وَالْبَيَانُ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا فِيهِ الْإِجْمَالُ ،
فَكَأَنَّ النَّاصِيَةَ بَيَانٌ لِلْمِقْدَارِ لَا لِلْمَحَلِّ الْمُسَمَّى
نَاصِيَةً ، إذْ لَا إجْمَالَ فِي الْمَحَلِّ فَكَانَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ
الْخَاصِّ وَإِرَادَةِ الْعَامِّ ، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ فَكَانَا
مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْعُمُومِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ
إذَا لَحِقَ بَيَانًا لِلْمُجْمَلِ كَانَ الْحُكْمُ بَعْدَهُ مُضَافًا إلَى
الْمُجْمَلِ دُونَ الْبَيَانِ وَالْمُجْمَلُ مِنْ الْكِتَابِ ،
وَالْكِتَابُ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ ، وَلَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ
لِأَنَّ الْجَاحِدَ مَنْ لَا يَكُونُ مُؤَوِّلًا ، وَمُوجِبُ الْأَقَلِّ
أَوْ الِاسْتِيعَابُ مُؤَوِّلٌ يَعْتَمِدُ شُبْهَةً قَوِيَّةً ، وَقُوَّةُ
الشُّبْهَةِ تَمْنَعُ التَّكْفِيرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، أَلَا تَرَى
أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا مَنَعُوا مِمَّا دَلَّ
عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ فِي نَظَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ
لِتَأْوِيلِهِمْ .
وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا كَانَ حُجَّةً عَلَى
الشَّافِعِيِّ فِي التَّقْدِيرِ بِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ ، وَعَلَى مَالِكٍ فِي
اشْتِرَاطِهِ الِاسْتِيعَابَ ( قَوْلُهُ : وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ
قَدَّرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِثَلَاثِ أَصَابِعَ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ
مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي آلَةِ الْمَسْحِ ) وَهِيَ الْأَصَابِعُ ، قِيلَ
هِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِكَوْنِهَا الْمَذْكُورَةَ فِي الْأَصْلِ
فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَلَى
هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَوْ وَضَعَ الْأَصَابِعَ وَلَمْ يَمُدَّهَا جَازَ ،
بِخِلَافِ الْأُولَى .
.
قَالَ ( وَسُنَنُ الطَّهَارَةِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ إذَا اسْتَيْقَظَ الْمُتَوَضِّئُ مِنْ نَوْمِهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } وَلِأَنَّ الْيَدَ آلَةُ التَّطْهِيرِ فَتُسَنُّ الْبُدَاءَةُ بِتَنْظِيفِهَا ، وَهَذَا الْغَسْلُ إلَى الرُّسْغِ لِوُقُوعِ الْكِفَايَةِ بِهِ فِي التَّنْظِيفِ .
قَالَ (
وَسُنَنُ الطَّهَارَةِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ
) لَمَّا فَرَغَ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ بَيَّنَ سُنَنَهُ ،
وَالسَّنَةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ ، وَحُكْمُهَا
أَنْ يُثَابَ عَلَى الْفِعْلِ وَيَسْتَحِقَّ الْمَلَامَةَ بِالتَّرْكِ لَا
غَيْرُ .
وَسُنَنُ الطَّهَارَةِ : أَيْ الْوُضُوءِ وَالْإِضَافَةُ
لِلْبَيَانِ ، وَإِنَّمَا جَمَعَ دُونَ الْفَرْضِ لِأَنَّ الْفَرْضَ فِي
الْأَصْلِ مَصْدَرٌ فَرُوعِيَ ذَلِكَ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْجَمْعِ
بِخِلَافِ السُّنَّةِ ، وَذِكْرُ الْإِنَاءِ وَقَعَ عَلَى عَادَتِهِمْ ،
فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ مِنْ الْأَتْوَارِ .
وَطَرِيقُ
غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ أَنْ يَأْخُذَ
الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ إنْ كَانَ صَغِيرًا وَيَصُبَّ عَلَى يَمِينِهِ
فَيَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ
يَأْخُذُ عَنْهُ الْمَاءَ بِإِنَاءٍ آخَرَ صَغِيرٍ إنْ كَانَ مَعَهُ
فَيَصُبُّهُ بِشِمَالِهِ عَلَى يَمِينِهِ ، وَإِلَّا يُدْخِلْ أَصَابِعَ
يَدِهِ الْيُسْرَى مَضْمُومَةً دُونَ الْكَفِّ ، وَيَصُبَّ عَلَى يَمِينِهِ
فَيَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ يُدْخِلُ الْيَمِينَ .
وَقَوْلُهُ : (
إذَا اسْتَيْقَظَ الْمُتَوَضِّئُ ) نُقِلَ عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ
الْكَرْدَرِيِّ أَنَّهُ شَرْطٌ حَتَّى إذَا لَمْ يَسْتَيْقِظْ لَا يُسَنُّ
غَسْلُهُمَا وَقِيلَ هُوَ شَرْطٌ اتِّفَاقِيٌّ ، خَصَّ الْمُصَنِّفُ
غَسْلَهُمَا بِالْمُسْتَيْقِظِ تَبَرُّكًا بِلَفْظِ الْحَدِيثِ .
وَالسَّنَةُ تَشْمَلُ الْمُسْتَيْقِظَ وَغَيْرَهُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ .
وَوَجْهُ
التَّمَسُّكِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ الْوُضُوءَ وَاجِبٌ ، وَقَدْ لَا
يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْغَمْسِ ، وَالْغَمْسُ حَرَامٌ حَتَّى
يَغْسِلَ الْيَدَ ثَلَاثًا فَيَكُونَ الْغَمْسُ وَالْغَسْلُ وَاجِبَيْنِ ؛
لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، لَكِنْ
تَرَكْنَا الْوُجُوبَ إلَى السُّنَّةِ فِي الْغَسْلِ لِأَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ بِتَوَهُّمِ النَّجَاسَةِ ،
وَتَوَهُّمُهَا لَا يُوجِبُ التَّنَجُّسَ الْمُوجِبَ لِلْغَسْلِ فَكَانَ
دَلِيلًا عَلَى التَّوَرُّعِ وَالِاحْتِيَاطِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلِأَنَّ
الْيَدَ
آلَةُ التَّطْهِيرِ ) مَبْنَاهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ
الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، لَكِنَّهُ تُرِكَ لِأَنَّ
طَهَارَةَ الْعُضْوِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ ،
وَالرُّسْغُ مُنْتَهَى الْكَفِّ عِنْدَ الْمَفْصِلِ .
.
قَالَ ( وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ } وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَإِنْ سَمَّاهَا فِي الْكِتَابِ سُنَّةً ، وَيُسَمِّي قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ وَبَعْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ .
وَقَوْلُهُ : (
وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ ) قَالَ
الطَّحَاوِيُّ : هُوَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ ،
وَقِيلَ إنَّهُ مَرْفُوعٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ } وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ لَا
لِنَفْيِ الْجِنْسِ فَبِحَقِيقَتِهِ يَقْتَضِي أَلَّا يَكُونَ وُضُوءٌ
إلَّا بِتَسْمِيَةٍ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ وَأَحْمَدُ
وَجَعَلُوا التَّسْمِيَةَ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ ، لَكِنَّا قُلْنَا
الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ نَسْخُ آيَةِ
الْوُضُوءِ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ فَحِينَئِذٍ كَانَ كَقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ }
وَهُوَ أَفَادَ الْوُجُوبَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ خَبَرَ الْفَاتِحَةِ
مَشْهُورٌ دُونَهُ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ وَلَيْسَ
بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ بِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى
الْكِتَابِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَى الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ
تَرْكٍ دُونَ التَّسْمِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ رَوَى { أَنَّ مُهَاجِرَ بْنَ
قُنْفُذٍ سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك
إلَّا أَنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ }
وَرُبَّمَا تَمَسَّكَ بِهِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَنْكَرَ
التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ فَقَالَ : أَتُرِيدُ أَنْ تَذْبَحَ ،
إشَارَةً إلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الذَّبْحِ دُونَ الْوُضُوءِ ،
وَذَلِكَ كَمَا تَرَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ ، وَكَوْنُهَا سُنَّةً
مُخْتَارُ الطَّحَاوِيِّ وَالْقُدُورِيِّ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ
التَّسْمِيَةَ مُسْتَحَبَّةٌ وَإِنْ سَمَّاهَا فِي الْكِتَابِ
يَعْنِي الْقُدُورِيَّ سُنَّةً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا .
رُوِيَ
أَنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَكَيَا وُضُوءَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْقَلْ
عَنْهُمَا التَّسْمِيَةُ .
وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِبِسْمِ
اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ } ( وَيُسَمِّي قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ وَبَعْدَهُ
هُوَ الصَّحِيحُ ) دُونَ مَا قِيلَ يُسَمِّي قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ لِمَا
أَنَّهُ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ فَيُسَمِّي قَبْلَهُ لِيَقَعَ جَمِيعُ
أَفْعَالِ الْوُضُوءِ فَرْضُهَا وَسُنَنُهَا بِالتَّسْمِيَةِ ، وَمَا قِيلَ
يُسَمِّي بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ حَالُ كَشْفِ
الْعَوْرَةِ وَذِكْرُ اللَّهِ حَالَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ
، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأُ فِيهِ
بِذِكْرِ اللَّهِ } يَسْتَدْعِي التَّسْمِيَةَ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ ،
وَالِاسْتِنْجَاءُ لَمَّا كَانَ مُلْحَقًا بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ
طَهَارَةٌ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُبْدَأَ بِهَا .
قَالَ ( وَالسِّوَاكُ )
لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ
وَعِنْدَ فَقْدِهِ يُعَالِجُ بِالْأُصْبُعِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فَعَلَ كَذَلِكَ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُسْتَحَبُّ
.وَقَوْلُهُ : ( وَالسِّوَاكُ ) أَيْ اسْتِعْمَالُهُ حُذِفَ الْمُضَافُ
لِأَمْنِ الْإِلْبَاسِ .
وَالسِّوَاكُ اسْمٌ لِخَشَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ
لِلِاسْتِيَاكِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَشْجَارِ الْمُرَّةِ ؛
لِأَنَّهُ يُطَيِّبُ النَّكْهَةَ وَيَشُدُّ الْأَسْنَانَ وَيُقَوِّي
الْمَعِدَةَ ، وَيَكُونُ فِي غِلَظِ الْخِنْصَرِ وَطُولِ الشِّبْرِ ،
وَيَسْتَاكُ عَرْضًا لَا طُولًا عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ ( ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ ،
وَعِنْدَ فَقْدِهِ ) كَانَ يُعَالِجُ بِالْأُصْبُعِ ) وَالْمُوَاظَبَةُ
مَعَ التَّرْكِ دَلِيلُ السُّنِّيَّةِ وَبِدُونِهِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ ،
وَقَدْ دَلَّ عَلَى تَرْكِهِ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَإِنَّهُ لَمْ
يُنْقَلْ فِيهِ تَعْلِيمُ السِّوَاكِ ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَعَلَّمَهُ ،
وَيُسْتَدَلُّ بِتَرْكِ التَّعْلِيمِ عَلَى تَرْكِهِ دَفْعًا
لِلتَّعَارُضِ ، فَإِنَّ عَدَمَ التَّرْكِ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ
وَتَرْكُ التَّعْلِيمِ عَلَى عَدَمِهِ فَكَانَ تَدَافُعٌ .
.
قَالَ ( وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَهُمَا عَلَى الْمُوَاظَبَةِ .
وَكَيْفِيَّتُهُ
أَنْ يُمَضْمِضَ ثَلَاثًا يَأْخُذُ لِكُلِّ مَرَّةٍ مَاءً جَدِيدًا ثُمَّ
يَسْتَنْشِقَ كَذَلِكَ هُوَ الْمَحْكِيُّ مِنْ وُضُوءٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَوَقَوْلُهُ : ( وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ ؛
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُمَا عَلَى
الْمُوَاظَبَةِ ) يَعْنِي مَعَ التَّرْكِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّرْكِ
حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
وَمَا
رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا حَكَتْ وُضُوءَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَذْكُرْ
الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ
لِكَيْفِيَّتِهِمَا نَفْيًا لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُ
الْأَفْضَلَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْشِقَ بِكَفٍّ بِمَاءٍ وَاحِدٍ
لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ
كَذَلِكَ ، وَلَنَا أَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ عُضْوَانِ مُنْفَرِدَانِ
فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِمَاءٍ وَاحِدٍ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ ،
وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يَسْتَعِنْ بِالْيَدَيْنِ كَمَا فِي غَسْلِ الْوَجْهِ بَلْ اسْتَعْمَلَ
الْكَفَّ الْوَاحِدَ .
.
( وَمَسْحُ الْأُذُنَيْنِ ) وَهُوَ
سُنَّةٌ بِمَاءِ الرَّأْسِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ }
وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ دُونَ الْخِلْقَةِ .
قَالَ (
وَتَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ ، وَقِيلَ
هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لِأَنَّ السُّنَّةَ إكْمَالُ
الْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ وَالدَّاخِلُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ .
وَقَوْلُهُ
: ( وَمَسْحُ الْأُذُنَيْنِ وَهُوَ سُنَّةٌ بِمَاءِ الرَّأْسِ ) أَيْ لَا
بِمَاءٍ جَدِيدٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ : هُوَ سُنَّةٌ
بِمَاءٍ جَدِيدٍ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : انْتِصَابُ خِلَافًا جَازَ
أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ بِإِضْمَارِ فِعْلِهِ أَيْ
قَوْلُنَا هَذَا يُخَالِفُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، أَوْ هَذَا
الْمَذْكُورُ فِي مَعْنًى يُخَالِفُ فَكَانَ مَصْدَرًا مُؤَكَّدًا
لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ
اعْتِرَافًا ، اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيُّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَخَذَ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا } .
وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ
عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ
بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ ، وَقَالَ الْأُذُنَانِ مِنْ
الرَّأْسِ } .
وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ {
الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ } : إمَّا أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ
الْحَقِيقَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرُ مَبْعُوثٍ
لِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُشَاهَدٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ ، أَوْ
بَيَانِ أَنَّهُمَا مَمْسُوحَانِ كَالرَّأْسِ لَا بِمَاءِ الرَّأْسِ وَلَا
سَبِيلَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي أَمْرٍ
لَا يُوجِبُ كَوْنَ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ كَالرِّجْلِ مِنْ الْوَجْهِ
لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْغَسْلِ وَالْخُفِّ مِنْ الرَّأْسِ
لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَسْحِ .
وَإِمَّا لِبَيَانِ أَنَّهُمَا
مَمْسُوحَانِ بِمَاءِ الرَّأْسِ ، وَذَلِكَ يُنَاسِبُ الذِّكْرَ عِنْدَ
مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ
أَبْعَاضِ الرَّأْسِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا جَازَ أَنْ يُمْسَحَ بِمَاءٍ
وَاحِدٍ فَكَذَا إذَا حَكَمَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْزِئَ مَسْحُهُمَا عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ .
أُجِيبَ
بِأَنَّ كَوْنَ الْأُذُنِ مِنْ الرَّأْسِ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
فَلَا يَقَعُ عَمَّا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ ، كَمَا أَنَّ التَّوَجُّهَ إلَى
الْحَطِيمِ لَا يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ الْبَيْتِ ثَبَتَ
بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
، وَالتَّوَجُّهُ إلَى الْبَيْتِ ثَابِتٌ
بِالْكِتَابِ فَلَا يُجْزِئُ عَنْهُ مَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
لِئَلَّا يَلْزَمَ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَتَخْلِيلُ
اللِّحْيَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ ) قَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَزَلَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَأَمَرَنِي أَنْ أُخَلِّلَ لِحْيَتِي إذَا تَوَضَّأْت } وَوَجْهُ
التَّمَسُّكِ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ
لِئَلَّا يُعَارِضَ الْكِتَابَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا
لَزِمَ ذَلِكَ أَنْ لَوْ أَفَادَ الْفَرْضِيَّةَ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ
، وَأَمَّا إذَا أَفَادَ الْوُجُوبَ فَلَا مَانِعَ عَنْهُ كَخَبَرِ
الْفَاتِحَةِ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الْوُجُوبَ يَثْبُتُ بِالْمُوَاظَبَةِ
مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : مَا رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ خَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ
وَقَالَ بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي } ، لَمْ يَثْبُتْ إلَّا مَرَّةً
وَاحِدَةً .
وَعَنْ هَذَا نَقَلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَسْحُ اللِّحْيَةِ جَائِزٌ لَيْسَ بِسُنَّةٍ .
وَمَعْنَى
قَوْلِهِ جَائِزٌ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُنْسَبُ إلَى الْبِدْعَةِ ، وَهُوَ
الْمَنْقُولُ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا ذُكِرَ فِي
الْكِتَابِ ، وَقَوْلُهُ : ( ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ ) يَعْنِي فِي
الْوُضُوءِ ( إكْمَالُ الْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ وَالدَّاخِلُ ) أَيْ
دَاخِلِ اللِّحْيَةِ ( لَيْسَ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ ) لِعَدَمِ وُجُوبِ
إيصَالِ الْمَاءِ إلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ
الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ سُنَّتَانِ ، وَدَاخِلُ الْفَمِ
وَالْأَنْفِ لَيْسَ مَحَلَّ الْفَرْضِ فِي الْوُضُوءِ .
وَأُجِيبَ
بِأَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ مِنْ الْوَجْهِ مِنْ وَجْهٍ ؛ إذْ لَهُمَا
حُكْمُ الْخَارِجِ مِنْ وَجْهٍ ، وَالْوَجْهُ مَحَلُّ الْفَرْضِ .
.
قَالَ
( وَتَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ كَيْ لَا تَتَخَلَّلُهَا نَارُ
جَهَنَّمَ } وَلِأَنَّهُ إكْمَالُ الْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ .وَقَوْلُهُ : (
خَلِّلُوا ) لَمْ يُفِدْ الْوُجُوبَ وَإِنْ كَانَ مَقْرُونًا بِالْوَعِيدِ
؛ لِأَنَّ حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ وَالْأَخْبَارَ الَّتِي حُكِيَ فِيهَا
وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ
ذِكْرِ التَّخْلِيلِ فِيهَا يَصْرِفُهُ عَنْ إفَادَةِ الْوُجُوبِ .
وَالْوَعِيدُ مَصْرُوفٌ بِمَا إذَا لَمْ يَصِلْ الْمَاءُ بَيْنَ الْأَصَابِعِ .
.
قَالَ
( وَتَكْرَارُ الْغَسْلِ إلَى الثَّلَاثِ ) { لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ : هَذَا
وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ ،
وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ : هَذَا وُضُوءُ مَنْ
يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ ، وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا
ثَلَاثًا وَقَالَ : هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي ،
فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ تَعَدَّى وَظَلَمَ } .
وَالْوَعِيدُ
لِعَدَمِ رُؤْيَتِهِ سُنَّةٌ .وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً } ) أَيْ غَسَلَ
كُلَّ عُضْوٍ مَرَّةً ، وَالْمُرَادُ بِالْقَبُولِ الْجَوَازُ ، وَرَتَّبَ
عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَعِيدًا وَلَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ ،
فَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلٍ وَهُوَ مَنْ زَادَ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ
أَوْ نَقَصَ عَنْهَا أَوْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ الْمَحْدُودِ أَوْ نَقَصَ
عَنْهُ أَوْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ مُعْتَقِدٌ أَنَّ كَمَالَ السُّنَّةِ
لَا يَحْصُلُ بِالثَّلَاثِ فَهُوَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ .
وَقَوْلُهُ : ( فَقَدْ تَعَدَّى ) يَرْجِعُ إلَى الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُجَاوَزَةٌ عَنْ الْحَدِّ .
وَقَوْلُهُ
: ( وَظَلَمَ ) يَرْجِعُ إلَى النُّقْصَانِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {
وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } أَيْ لَمْ تُنْقِصْ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْوَعِيدُ لِعَدَمِ رُؤْيَتِهِ سُنَّةٌ ) إشَارَةٌ إلَى اخْتِيَارِهِ .
التَّأْوِيلُ
الثَّالِثُ : يَعْنِي أَنَّهُ إذَا أَرَادَ لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ
عِنْدَ الشَّكِّ أَوْ بِنِيَّةِ وُضُوءٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، فَإِنَّ
الْوُضُوءَ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ ، وَقَدْ أَمَرَ بِتَرْكِ
مَا يَرِيبُهُ إلَى مَا لَا يَرِيبُهُ .
قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ
لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَنْوِيَ الطَّهَارَةَ ) فَالنِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ
سُنَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ
فَلَا تَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ كَالتَّيَمُّمِ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَا
يَقَعُ قُرْبَةً إلَّا بِالنِّيَّةِ ، وَلَكِنَّهُ يَقَعُ مِفْتَاحًا
لِلصَّلَاةِ لِوُقُوعِهِ طَهَارَةً بِاسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ ،
بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ لِأَنَّ التُّرَابَ غَيْرُ مُطَهِّرٍ إلَّا فِي
حَالِ إرَادَةِ الصَّلَاةِ ، أَوْ هُوَ يُنْبِئُ عَنْ الْقَصْدِ (
وَيَسْتَوْعِبُ رَأْسَهُ بِالْمَسْحِ ) وَهُوَ سُنَّةٌ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : السُّنَّةُ التَّثْلِيثُ بِمِيَاهٍ مُخْتَلِفَةٍ اعْتِبَارًا بِالْمَغْسُولِ .
وَلَنَا
أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا
وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَاحِدَةً وَقَالَ : هَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَاَلَّذِي يُرْوَى مِنْ
التَّثْلِيثِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ عَلَى
مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ
الْمَسْحُ وَبِالتَّكْرَارِ يَصِيرُ غُسْلًا ، وَلَا يَكُونُ مَسْنُونًا
فَصَارَ كَمَسْحِ الْخُفِّ ، بِخِلَافِ الْغُسْلِ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ
التَّكْرَارُ .
قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَنْوِيَ
الطَّهَارَةَ ) قِيلَ الْمُسْتَحَبُّ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا
يُلَامُ عَلَى تَرْكِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( فَالنِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ
سُنَّةٌ عِنْدَنَا ) يُنَافِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ مَا يُثَابُ
عَلَى فِعْلِهِ وَيُلَامُ عَلَى تَرْكِهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَوَّلَ
اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ .
وَالثَّانِي اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ ،
وَتَفْسِيرُ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ هُوَ أَنْ يَنْوِيَ إزَالَةَ
الْحَدَثِ أَوْ إبَاحَةَ الصَّلَاةِ ، وَهِيَ فَرْضٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
قَالَ : ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ، إذْ الْعِبَادَةُ فِعْلٌ يَأْتِي بِهِ
الْمُكَلَّفُ عَلَى خِلَافِ هَوَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ رَبِّهِ ،
وَالْوُضُوءُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ عِبَادَةٌ لَا
يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا أُمِرُوا إلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَالْإِخْلَاصُ لَا
يَحْصُلُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَقَدْ جَعَلَهُ حَالًا لِلْعَابِدَيْنِ ،
وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ ، فَتَكُونُ كُلُّ عِبَادَةٍ مَشْرُوطَةً
بِالنِّيَّةِ ، وَقَاسَهُ عَلَى التَّيَمُّمِ فِي كَوْنِهِمَا
طَهَارَتَيْنِ لِلصَّلَاةِ .
وَلَنَا الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ :
يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَقَعُ عِبَادَةً إلَّا
بِالنِّيَّةِ ، لَكِنْ لَيْسَ كَلَامُنَا فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي
أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ الْمُطَهِّرِ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ هَلْ
يُوجِبُ الطَّهَارَةَ بِدُونِ النِّيَّةِ حَتَّى يَكُونَ مِفْتَاحًا
لِلصَّلَاةِ أَوْ لَا ، وَلَا مَدْخَلَ لِكَوْنِهِ عِبَادَةً فِي ذَلِكَ ،
وَيُفِيدُ ذَلِكَ بِدُونِهَا ؛ لِأَنَّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ مَحْكُومٌ
بِنَجَاسَتِهَا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ ضَرُورَةَ الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِهَا ،
وَالْمَاءُ طَهُورٌ بِطَبْعِهِ فَإِذَا لَاقَى النَّجِسَ طَهَّرَهُ قَصَدَ
الْمُسْتَعْمِلُ ذَلِكَ أَوْ لَا كَالثَّوْبِ النَّجِسِ وَكَمَا فِي حَقِّ
الْإِرْوَاءِ ، بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ فَإِنَّ التُّرَابَ لَمْ يُعْقَلُ
مُطَهِّرًا طَبْعًا فَلَمْ يَبْقَ فِيهِ إلَّا مَعْنَى التَّعَبُّدِ وَلَا
تَعَبُّدَ بِدُونِ النِّيَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ فِي الْوُضُوءِ مَسْحٌ وَالْمَسْحُ
لَمْ يُعْقَلْ مُطَهِّرًا طَبْعًا فَيُحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ مُلْحَقٌ بِالْغَسْلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ وَانْتِقَالِهِ إلَيْهِ بِضَرْبٍ مِنْ الْخُرْجِ .
وَقَوْلُهُ
: ( أَوْ هُوَ يُنْبِئُ عَنْ الْقَصْدِ ) فَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ
قِيلَ يَعْنِي أَنَّ التَّيَمُّمَ يُنْبِئُ عَنْ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةُ
هِيَ الْقَصْدُ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّيَمُّمُ بِدُونِ الْقَصْدِ أَيْ
النِّيَّةِ وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الْقَصْدِ لُغَةً ،
وَالْقَصْدُ الَّذِي هُوَ النِّيَّةُ إنَّمَا هُوَ قَصْدٌ خَاصٌّ ، وَهُوَ
قَصْدُ إبَاحَةِ الصَّلَاةِ ، وَالْأَعَمُّ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى
الْأَخَصِّ ؛ وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ ، وَالثَّانِي
فِعْلُ الْقَلْبِ وَلَا دَلَالَةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ( قَوْلُهُ
: وَيَسْتَوْعِبُ رَأْسَهُ بِالْمَسْحِ ) أَيْ يُسْتَحَبُّ أَنْ
يَسْتَوْعِبَ رَأْسَهُ بِالْمَسْحِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْقُدُورِيُّ ،
وَقَوْلُهُ : ( وَهُوَ سُنَّةٌ ) يَعْنِي عَلَى اخْتِيَارِهِ ، وَصِفَةُ
الِاسْتِيعَابِ أَنْ يَبُلَّ يَدَيْهِ وَيَضَعَ بُطُونَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ
مِنْ كُلِّ كَفٍّ عَلَى مُقَدَّمِ الرَّأْسِ ، وَيَعْزِلُ
السَّبَّابَتَيْنِ وَالْإِبْهَامَيْنِ وَيُجَافِي الْكَفَّيْنِ
وَيَجُرَّهُمَا إلَى مُؤَخِّرِ الرَّأْسِ ، ثُمَّ يَمْسَحُ الْفَوْدَيْنِ
بِالْكَفَّيْنِ وَيَجُرُّهُمَا إلَى مُقَدَّمِ الرَّأْسِ ، وَيَمْسَحُ
ظَاهِرَ الْأُذُنَيْنِ بِبَاطِنِ الْإِبْهَامَيْنِ وَبَاطِنَ الْأُذُنَيْنِ
بِبَاطِنِ السَّبَّابَتَيْنِ ، وَيَمْسَحُ رَقَبَتَهُ بِظَاهِرِ
الْيَدَيْنِ حَتَّى يَصِيرَ مَاسِحًا بِبَلَلٍ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا ،
هَكَذَا رَوَتْ عَائِشَةُ مَسْحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : السُّنَّةُ
التَّثْلِيثُ بِمِيَاهٍ مُخْتَلِفَةٍ ) ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ ،
فَكَانَ التَّثْلِيثُ فِيهِ سُنَّةً كَغَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ
وَالرِّجْلَيْنِ ( وَلَنَا أَنَّ { أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَمَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ،
وَقَالَ : هَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ } ) وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْبَرَاءِ وَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ .
قَالَ
التِّرْمِذِيُّ : وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ
مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا
حَكَيَا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَغَسَلَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَمَسَحَا ثَلَاثًا } ، قُلْنَا :
الْمَشْهُورُ عَنْهُمَا مَا رَوَيْنَاهُ أَوَّلًا ( قَالَ الْمُصَنِّفُ :
وَاَلَّذِي يُرْوَى فِيهِ مِنْ التَّثْلِيثِ ) يُرِيدُ بِهِ ذَلِكَ :
يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ ( مَحْمُولٌ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى
التَّثْلِيثِ ( بِمَاءٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ عَلَى مَا رَوَى
الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ) ذَكَرَ الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا مَسَحَ ثَلَاثًا بِمَاءٍ وَاحِدٍ كَانَ
مَسْنُونًا .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ صَارَ الْبَلَلُ مُسْتَعْمَلًا
بِالْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَيْفَ يُسَنُّ إمْرَارُهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا ؟
أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ لِإِقَامَةِ فَرْضٍ
آخَرَ لَا لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْفَرْضِ ، أَلَا
يُرَى أَنَّ الِاسْتِيعَابَ يُسَنُّ بِمَاءٍ وَاحِدٍ ( قَوْلُهُ :
وَلِأَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمَسْحُ ) دَلِيلٌ آخَرُ وَتَقْرِيرُهُ
الْمَفْرُوضُ هُوَ الْمَسْحُ وَالْمَسْحُ يَصِيرُ بِالتَّكْرَارِ غَسْلًا ،
فَالْمَفْرُوضُ هُوَ الْغَسْلُ وَهُوَ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَالْإِجْمَاعِ ، فَلَا يَكُونُ التَّكْرَارُ مَسْنُونًا ؛ لِأَنَّ
السُّنَّةَ فِي الْوُضُوءِ إكْمَالُ الْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ لَا نَقْلُهُ
مِنْ كَوْنِهِ مَسْحًا إلَى كَوْنِهِ غَسْلًا .
وَقَوْلُهُ : ( فَصَارَ
كَمَسْحِ الْخُفِّ ) تَقْرِيرُهُ مَسْحُ الرَّأْسِ مَسْحٌ فِي الْوُضُوءِ ،
وَكُلُّ مَا هُوَ مَسْحٌ فِي الْوُضُوءِ لَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَمَسْحِ
الْخُفِّ .
وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ الْغَسْلِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ
وَبِالتَّكْرَارِ يَصِيرُ غَسْلًا ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَسْحَ
يُفْسِدُهُ التَّكْرَارُ ، بِخِلَافِ الْغَسْلِ فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُهُ ،
فَكَانَ قِيَاسُ
الشَّافِعِيِّ الْمَمْسُوحَ عَلَى الْمَغْسُولِ فَاسِدًا .
.
قَالَ
( وَيُرَتِّبُ الْوُضُوءَ فَيَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى
بِذَكَرِهِ وَبِالْمَيَامِنِ ) فَالتَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ
عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } الْآيَةَ ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ .
وَلَنَا
أَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا حَرْفُ الْوَاوِ وَهِيَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ
بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فَتَقْتَضِي إعْقَابَ غَسْلِ جُمْلَةِ
الْأَعْضَاءِ وَالْبُدَاءَةُ بِالْمَيَامِنِ فَضِيلَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّه تَعَالَى يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي
كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى التَّنَعُّلِ وَالتَّرَجُّلِ } .
قَالَ (
وَيُرَتِّبُ الْوُضُوءَ فَيَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى
بِذِكْرِهِ ) وَيُرَتِّبُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَيَسْتَوْعِبُ ،
وَالْكَلَامُ فِي كَوْنِهِ مُسْتَحَبًّا أَوْ سُنَّةً كَمَا تَقَدَّمَ .
قَوْلُهُ
: ( فَيَبْدَأُ بَيَانُ التَّرْتِيبِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ :
التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ } الْآيَةَ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْفَاءَ
لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّعْقِيبُ يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ فَيُفِيدُ
تَرْتِيبَ غَسْلِ الْوَجْهِ عَلَى الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ ، وَإِذَا
ثَبَتَ التَّرْتِيبُ فِيهِ ثَبَتَ فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ
عَلَى الْمُرَتَّبِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْمُرَتَّبِ مُرَتَّبٌ أَوْ
لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي
الْآيَةِ حَرْفُ الْوَاوِ يَعْنِي بَعْدَ الْفَاءِ ، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ
الْجَمْعِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ ، وَالْفَاءُ دَخَلَتْ عَلَى
هَذِهِ الْجُمْلَةِ الَّتِي لَا تَرْتِيبَ فِيهَا فَتَقْتَضِي إعْقَابَ
غَسْلِ جُمْلَةِ الْأَعْضَاءِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ وَتَحْقِيقِهِ .
سَلَّمْنَا
أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ تُفِيدُ تَعْقِيبَ مَا بَعْدَهَا لِمَا
قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا غَسْلُ جُمْلَةٍ غَيْرِ مُرَتَّبَةٍ فَيُفِيدُ
تَعْقِيبَهَا لِلْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ ،
وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَرْتِيبِ
الْأَعْضَاءِ ، وَالدَّاخِلُ فِيهَا الْوَاوُ وَهِيَ لَا تُفِيدُ
التَّرْتِيبَ ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ ادَّعَى الْمُصَنِّفُ إجْمَاعَ
أَهْلِ اللُّغَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يُفِيدُ التَّرْتِيبَ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُفِيدُ الْقِرَانَ ، أُجِيبَ بِأَنَّ أَبَا
عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ ذَكَرَ أَنَّ النُّحَاةَ أَجْمَعُوا أَنَّ الْوَاوَ
لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ ، ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ
مَوْضِعًا فِي كِتَابِهِ فَاعْتَمَدَ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ وَبِأَنَّ
خِلَافَ الْقَلِيلِ لَا يَمْنَعُ الْإِجْمَاعَ اللُّغَوِيَّ وَقَوْلُهُ : (
وَالْبُدَاءَةُ بِالْمَيَامِنِ فَضِيلَةٌ ) أَيْ مُسْتَحَبَّةٌ ،
وَالْمَيَامِنُ جَمْعُ مَيْمَنَةٍ خِلَافُ الْمَيْسَرَةِ ، وَذَكَرَ فِي
الْمُغْرِبِ
أَنَّ الْبِدَايَةَ بِالْيَاءِ عَامِّيَّةٌ وَالصَّوَابُ بُدَاءَةٌ .
وَقَوْلُهُ
: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ
فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى التَّنَعُّلِ وَالتَّرَجُّلِ } التَّنَعُّلُ :
لُبْسُ النَّعْلَيْنِ ، وَالتَّرَجُّلُ : تَسْرِيحُ شَعْرِ الرَّأْسِ .
.
(
فَصْلٌ فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ ) : ( الْمَعَانِي النَّاقِضَةُ
لِلْوُضُوءِ كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } { وَقِيلَ لِرَسُولِ
اللَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الْحَدَثُ ؟ قَالَ : مَا
يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ } وَكَلِمَةُ مَا عَامَّةٌ فَتَتَنَاوَلُ
الْمُعْتَادَ وَغَيْرَهُ ( وَالدَّمُ وَالْقَيْحُ إذَا خَرَجَا مِنْ
الْبَدَنِ فَتَجَاوَزَا إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ ،
وَالْقَيْءُ مِلْءَ الْفَمِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لِمَا
رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَاءَ فَلَمْ
يَتَوَضَّأْ } وَلِأَنَّ غَسْلَ غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِصَابَةِ أَمْرٌ
تَعَبُّدِيٌّ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَخْرَجُ
الْمُعْتَادُ ، وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ
وَلْيَتَوَضَّأْ وَلِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ }
وَلِأَنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مُؤَثِّرٌ فِي زَوَالِ الطَّهَارَةِ ،
وَهَذَا الْقَدْرُ فِي الْأَصْلِ مَعْقُولٌ ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى
الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ لَكِنَّهُ يَتَعَدَّى
ضَرُورَةَ تَعَدِّي الْأَوَّلِ ، غَيْرَ أَنَّ الْخُرُوجَ إنَّمَا
يَتَحَقَّقُ بِالسَّيَلَانِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ ،
وَبِمِلْءِ الْفَمِ فِي الْقَيْءِ لِأَنَّ بِزَوَالِ الْقِشْرَةِ تَظْهَرُ
النَّجَاسَةُ فِي مَحَلِّهَا فَتَكُونُ بَادِيَةً لَا خَارِجَةً ،
بِخِلَافِ السَّبِيلَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَضْعَ لَيْسَ بِمَوْضِعِ
النَّجَاسَةِ فَيُسْتَدَلُّ بِالظُّهُورِ عَلَى الِانْتِقَالِ وَالْخُرُوجِ
، وَمِلْءُ الْفَمِ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ إلَّا
بِتَكَلُّفٍ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ ظَاهِرًا فَاعْتُبِرَ خَارِجًا .
وَقَالَ
زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : قَلِيلُ الْقَيْءِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ ،
وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ السَّيَلَانُ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِالْمَخْرَجِ
الْمُعْتَادِ ،
وَلِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْقَلْسُ حَدَثٌ } .
وَلَنَا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ فِي الْقَطْرَةِ
وَالْقَطْرَتَيْنِ مِنْ الدَّمِ وُضُوءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَائِلًا }
وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ عَدَّ الْأَحْدَاثَ جُمْلَةً
: أَوْ دَسْعَةً تَمْلَأُ الْفَمَ .
وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْأَخْبَارُ
يُحْمَلُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْقَلِيلِ ،
وَمَا رَوَاهُ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْكَثِيرِ ، وَالْفَرْقُ
بَيْنَ الْمَسْلَكَيْنِ قَدْ بَيَّنَّاهُ .
وَلَوْ قَاءَ مُتَفَرِّقًا
بِحَيْثُ لَوْ جُمِعَ يَمْلَأُ الْفَمَ ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ
اللَّهُ يُعْتَبَرُ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ يُعْتَبَرُ اتِّحَادُ السَّبَبِ وَهُوَ الْغَثَيَانُ ، ثُمَّ مَا
لَا يَكُونُ حَدَثًا لَا يَكُونُ نَجَسًا ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجَسٍ
حُكْمًا حَيْثُ لَمْ تَنْتَقِضْ بِهِ الطَّهَارَةُ ( وَهَذَا إذَا قَاءَ
مُرَّةً أَوْ طَعَامًا أَوْ مَاءً ، فَإِنْ قَاءَ بَلْغَمًا فَغَيْرُ
نَاقِضٍ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ نَاقِضٌ إذَا كَانَ مِلْءَ الْفَمِ ، وَالْخِلَافُ فِي الْمُرْتَقِي مِنْ الْجَوْفِ .
أَمَّا النَّازِلُ مِنْ الرَّأْسِ فَغَيْرُ نَاقِضٍ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ بِمَوْضِعِ النَّجَاسَةِ .
لِأَبِي
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ نَجِسٌ بِالْمُجَاوَرَةِ ، وَلَهُمَا
أَنَّهُ لَزِجٌ لَا تَتَخَلَّلُهُ النَّجَاسَةُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ
قَلِيلٌ وَالْقَلِيلُ فِي الْقَيْءِ غَيْرُ نَاقِضٍ ( وَلَوْ قَاءَ دَمًا
وَهُوَ عَلَقٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ مِلْءُ الْفَمِ لِأَنَّهُ سَوْدَاءُ
مُحْتَرِقَةٌ ) وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ ، وَعِنْدَهُمَا إنْ
سَالَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا
لِأَنَّ الْمَعِدَةَ لَيْسَتْ بِمَحَلِّ الدَّمِ فَيَكُونُ مِنْ قُرْحَةٍ
فِي الْجَوْفِ
وَيُعْرَفُ الْفَصْلُ بِأَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ
الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ تَغَيَّرَتْ أَحْكَامُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى
مَا قَبْلَهَا غَيْرُ مُتَرْجَمَةٍ بِالْكِتَابِ وَالْبَابِ .
لَمَّا
فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْوُضُوءِ فَرْضِهِ وَسُنَّتِهِ وَمُسْتَحَبِّهِ
بَدَأَ بِمَا يُنَافِيهِ مِنْ الْعَوَارِضِ ، إذْ الْعَارِضُ إنَّمَا
يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْمَعْرُوضِ : وَالنَّوَاقِضُ جَمْعُ نَاقِضَةٍ
، وَالنَّقْضُ مَتَى أُضِيفَ إلَى الْأَجْسَامِ يُرَادُ بِهِ إبْطَالُ
تَأْلِيفِهَا ، وَمَتَى أُضِيفَ إلَى الْمَعَانِي يُرَادُ بِهِ إخْرَاجُهُ
عَمَّا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِهِ ، وَالْمَطْلُوبُ هُنَا مِنْ الْوُضُوءِ
اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ ( وَالْمَعَانِي النَّاقِضَةُ ) أَيْ الْعِلَلُ
الْمُؤَثِّرَةُ فِي إخْرَاجِ الْوُضُوءِ عَمَّا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِهِ (
كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ ) أَيْ خُرُوجُ كُلِّ مَا يَخْرُجُ
مِنْ السَّبِيلَيْنِ : يَعْنِي الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ وَالذَّكَرَ ،
وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا الْمُضَافَ تَصْحِيحًا لِلْحَمْلِ ، فَإِنَّ حَمْلَ
الذَّاتِ عَلَى الْمَعْنَى غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ
الْعِلَلِ بِالْمَعَانِي اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا
بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ } وَاحْتِرَازًا عَنْ عِبَارَةِ الْفَلَاسِفَةِ
فَإِنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ اسْتَنْكَفُوا عَنْ ذَلِكَ إلَى أَنْ نَشَأَ
الطَّحَاوِيُّ فَاسْتَعْمَلَهَا فَتَبِعَهُ مَنْ بَعْدَهُ .
فَإِنْ
قِيلَ : الْكُلِّيَّةُ مُنْتَقِضَةٌ بِالرِّيحِ الْخَارِجِ مِنْ الذَّكَرِ
وَالْقُبُلِ فَإِنَّ الْوُضُوءَ لَا يَنْتَقِضُ بِهِ فِي أَصَحِّ
الرِّوَايَتَيْنِ : أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ مِنْ الْعُمُومِ ؛ لِأَنَّ
الرِّيحَ لَا تَنْبَعِثُ مِنْ الذَّكَرِ ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَاجٌ .
وَالْقُبُلُ
مَحَلُّ الْوَطْءِ لَيْسَ فِيهِ نَجَاسَةٌ تُنَجِّسُ الرِّيحَ
بِالْمُرُورِ عَلَيْهَا وَهُوَ فِي نَفْسِهِ طَاهِرٌ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ
عَلَى مَا سَيَجِيءُ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } وَالْغَائِطُ : هُوَ
الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ مِنْ الْأَرْضِ يَنْتَهِي إلَيْهِ الْإِنْسَانُ
عِنْدَ
إرَادَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ تَسَتُّرًا أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى رَتَّبَ وُجُوبَ التَّيَمُّمِ عَلَى الْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ
حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ ، وَهُوَ لَازِمٌ لِخُرُوجِ النَّجِسِ .
فَكَانَ
كِنَايَةً عَنْ الْحَدَثِ لِكَوْنِهِ ذَكَرَ اللَّازِمَ ، وَأَرَادَ
الْمَلْزُومَ ، وَالتَّرْتِيبُ يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ ، وَإِذَا
ثَبَتَ ذَلِكَ فِي التَّيَمُّمِ ثَبَتَ فِي الْوُضُوءِ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ الْبَدَلَ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فِي السَّبَبِ .
لَا يُقَالُ :
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَدَثَ شَرْطٌ لِلْوُضُوءِ فَكَيْفَ يَكُونُ
عِلَّةً لِنَقْضِهِ ؛ لِأَنَّهُ عِلَّةٌ لِنَقْضِ مَا كَانَ وَشَرْطٌ
لِوُجُوبِ مَا سَيَكُونُ ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا .
وَقَوْلُهُ : (
وَكَلِمَةُ مَا عَامَّةٌ فَتَتَنَاوَلُ الْمُعْتَادَ وَغَيْرَهُ ) نَفْيٌ
لِقَوْلِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَا وُضُوءَ لَمَا يَخْرُجُ نَادِرًا
كَالْحَصَاةِ وَالدُّودَةِ وَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ ، مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى كَنَّى بِالْغَائِطِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ
عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ الْمُعْتَادَةِ فَلَا يَكُونُ غَيْرُهَا نَاقِضًا .
قُلْنَا : تَقْيِيدٌ بِلَا دَلِيلٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ وَهُوَ عُمُومُ كَلِمَةِ مَا .
قَالَ
( وَالدَّمُ وَالْقَيْحُ إذَا خَرَجَا مِنْ الْبَدَنِ ) خُرُوجُ النَّجَسِ
مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ ، يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ كَيْفَمَا
كَانَ عِنْدَنَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ وَابْنِ
مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي
الدَّرْدَاءِ وَصُدُورِ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَقَيَّدَ
بِالْخُرُوجِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ النَّجَاسَةِ غَيْرُ نَاقِضَةٍ مَا لَمْ
تُوصَفْ بِالْخُرُوجِ وَإِلَّا لَمَا حَصَلَتْ الطَّهَارَةُ لِشَخْصٍ مَا ،
وَالْمُرَادُ بِالْبَدَنِ بَدَنُ الْحَيِّ كَمَا ذَكَرْنَا ، فَإِنَّهَا
إنْ خَرَجَتْ مِنْ بَدَنِ الْمَيِّتِ بَعْدَ غُسْلِهِ لَا تُوجِبُ إعَادَةَ
غُسْلِهِ بَلْ تُوجِبُ غَسْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَلَى مَا سَيَأْتِي ،
وَشَرْطُ التَّجَاوُزِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ
احْتِرَازًا عَمَّا يَبْدُو وَلَمْ يَخْرُجْ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ فَإِنَّهُ
لَا
يُسَمَّى خَارِجًا ، فَكَانَ تَفْسِيرًا لِلْخُرُوجِ وَرَدًّا
لِمَا ظَنَّ زُفَرُ أَنَّ الْبَادِيَ خَارِجٌ حَتَّى أَوْرَدَ مَا لَمْ
يَسِلْ نَقْضًا عَلَى قَوْلِنَا الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ
نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ وَقَوْلُهُ : ( يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ ) أَيْ
يَلْحَقُهُ حُكْمٌ هُوَ التَّطْهِيرُ ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَجِبَ
تَطْهِيرُهُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي الْجَنَابَةِ حَتَّى لَوْ سَالَ
الدَّمُ مِنْ الرَّأْسِ إلَى قَصَبَةِ الْأَنْفِ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ ،
بِخِلَافِ الْبَوْلِ إذَا نَزَلَ إلَى قَصَبَةِ الذَّكَرِ وَلَمْ يَظْهَرْ ؛
لِأَنَّ النَّجَاسَةَ هُنَاكَ لَمْ تَصِلْ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ
حُكْمُ التَّطْهِيرِ ، وَفِي الْأَنْفِ وَصَلَتْ إلَى ذَلِكَ إذْ
الِاسْتِنْشَاقُ فِي الْجَنَابَةِ فَرْضٌ .
( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ :
الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلِمَا
رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَاءَ
فَلَمْ يَتَوَضَّأْ } ؛ وَلِأَنَّ غَسْلَ غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِصَابَةِ
أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ ) أَيْ أَمْرٌ تُعُبِّدْنَا بِهِ : أَيْ كَلَّفَنَا
اللَّهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى يُعْقَلُ ؛ إذْ الْعَقْلُ إنَّمَا
يَقْتَضِي وُجُوبَ غَسْلِ مَوْضِعٍ أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ (
فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَخْرَجُ الْمُعْتَادُ )
وَالْيَاءُ فِي تَعَبُّدِيٌّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلنِّسْبَةِ وَيَجُوزُ
أَنْ تَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ كَأَحْمَرَيَّ فِي أَحْمَرَ ، وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ مَعْنَاهُ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي
وُجُوبَ غَسْلِ كُلِّ الْأَعْضَاءِ كَمَا فِي الْمَنِيِّ ، بَلْ بِطَرِيقِ
الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْغَائِطَ أَنْجَسُ مِنْ الْمَنِيِّ لِاخْتِلَافٍ
فِي نَجَاسَتِهِ دُونَ الْغَائِطِ ، فَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَعْضَاءِ
الْأَرْبَعَةِ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ ( وَلَنَا قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ } أَخْرَجَهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا
التَّرْكِيبِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْوُجُوبُ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ } وَلَا
خِلَافَ
فِي فَرْضِيَّتِهِ ، وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ } وَلَا خِلَافَ فِي
وُجُوبِ الْغُسْلِ بِسَبَبِ خُرُوجِ الْمَنِيِّ ، فَكَانَ مَعْنَاهُ
تَوَضَّئُوا مِنْ كُلِّ دَمٍ سَالَ مِنْ الْبَدَنِ ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ
عَنْهُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ لِكَوْنِهِ آكَدُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى
الْوُجُوبِ كَأَنَّهُ أَمَرَ فَامْتُثِلَ أَمْرُهُ فَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ
وَهُوَ آيَةُ كَوْنِهِ وَاجِبًا ، فَإِنَّ الْآمِرَ إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا
يَكْذِبُ فِي كَلَامِهِ يُعَبِّرُ عَنْ مَطْلُوبِهِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ
تَأْكِيدًا لِلطَّلَبِ ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ تَكْذِيبًا لَهُ وَهُوَ
مِمَّنْ لَا يَكْذِبُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
فَإِنْ قِيلَ سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْوُضُوءَ اللُّغَوِيَّ .
قُلْنَا
: ذَاكَ مَجَازٌ شَرْعِيٌّ ، وَلَا تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ
فِي كَلَامِ الشَّارِعِ بِلَا دَلِيلٍ ( وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ
وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ } )
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ذَكَرَهُ الرَّازِيّ فِي شَرْحِ
الطَّحَاوِيِّ .
يُقَالُ رَعَفَ : إذَا سَالَ رُعَافُهُ .
قَالَ
الْمُطَرِّزِيُّ : وَفَتْحُ الْعَيْنِ هُوَ الْفَصِيحُ ، وَوَجْهُ
التَّمَسُّكِ بِهِ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا الْأَمْرُ بِالِانْصِرَافِ
وَهُوَ إبْطَالُ الْعَمَلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الْمُفْضِي إلَى
التَّنَاقُضِ الْمُسْتَحِيلِ عَلَى الشَّرْعِ .
فَإِنْ قِيلَ جَازَ أَنْ
يَكُونَ الْأَمْرُ بِالِانْصِرَافِ لِإِزَالَةِ نَجَاسَةٍ أَصَابَتْ
ثَوْبَهُ أَوْ بَدَنَهُ مِنْ الرُّعَافِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْبِنَاءِ يَأْبَاهُ ، فَإِنَّ الْبِنَاءَ إذْ ذَاكَ غَيْرُ جَائِزٍ بِالِاتِّفَاقِ .
وَالثَّانِي
الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَإِرَادَةُ الْوُضُوءِ
اللُّغَوِيُّ مَدْفُوعَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ .
لَا
يُقَالُ : وَقَعَ فِي الشَّرْعِ ذَلِكَ { إذْ غَسَلَ فَمَه بَعْدَ
الْقَيْءِ فَقِيلَ لَهُ أَلَا تَتَوَضَّأُ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ
فَقَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَكَذَا الْوُضُوءُ مِنْ الْقَيْءِ } ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ بِقَرِينَةٍ قَائِمَةٍ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ لِقَوْلِ السَّائِلِ
أَلَا تَتَوَضَّأُ وُضُوءَك لِلصَّلَاةِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ
أَمَرَ بِالْبِنَاءِ وَأَدْنَاهُ الْإِبَاحَةُ ، وَلَا إبَاحَةَ
لِلْبِنَاءِ بَعْدَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ إلَّا بَعْدَ انْتِقَاضِ
الطَّهَارَةِ بِالِاتِّفَاقِ .
لَا يُقَالُ : الْبِنَاءُ الْمَعْطُوفُ
عَلَى الِانْصِرَافِ غَيْرُ وَاجِبٍ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا مَا عُطِفَ
عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي
الْحُكْمِ ، أَلَا يُرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { كُلُوا مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ } فَإِنَّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ لِلْإِبَاحَةِ
وَالثَّانِي لِلْوُجُوبِ ، وَ إذَا جَازَ ذَلِكَ فَعَكْسُهُ أَوْلَى ؛
لِأَنَّهُ اتِّبَاعُ الضَّعِيفِ لِلْقَوِيِّ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ
خُرُوجَ النَّجَاسَةِ ) إثْبَاتُ صِفَةِ النَّجَاسَةِ لِمَا يَخْرُجُ مِنْ
غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ ، وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ
اللَّهُ ظَهَرَ عَنْ حِذْقٍ عَظِيمٍ مَعَ وَجَازَةِ اللَّفْظِ وَبَيَانُهُ
عَلَى وَجْهٍ وَاضِحٍ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ
وَشُرُوطِ الْقِيَاسِ .
فَلَا عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ ذَلِكَ إجْمَالًا
فَنَقُولُ : الْقِيَاسُ إبَانَةُ مِثْلِ حُكْمِ أَحَدِ الْمَذْكُورِينَ
بِمِثْلِ عِلَّتِهِ فِي الْآخَرِ فَالْمَذْكُورُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَصْلُ
وَالثَّانِي هُوَ الْفَرْعُ .
وَشُرُوطُهُ أَلَّا يَكُونَ الْأَصْلُ
مَخْصُوصًا بِحُكْمِهِ بِنَصٍّ آخَرَ كَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ ، وَأَلَّا
يَكُونَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ كَبَقَاءِ الصَّوْمِ مَعَ
الْأَكْلِ نَاسِيًا ، وَأَنْ يَتَعَدَّى الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ الثَّابِتَ
بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ وَلَا نَصَّ فِيهِ .
وَأَمَّا
مَعْرِفَةُ تَفَاصِيلِ ذَلِكَ وَمَا يُحْتَرَزُ عَنْهُ بِكُلِّ قَيْدٍ
مِنْ الْقُيُودِ فَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ إذَا عُرِفَ هَذَا
فَنَقُولُ : فَأَمَّا الْأَصْلُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَهُوَ الْخَارِجُ
مِنْ السَّبِيلَيْنِ .
أَعْنِي الْغَائِطَ ، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى
مَعْنًى
مَعْقُولٍ ، وَهُوَ أَنَّ لِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ أَثَرًا فِي زَوَالِ
الطَّهَارَةِ عَنْ الْمَخْرَجِ لِاتِّصَافِهِ بِضِدِّ الطَّهَارَةِ وَهُوَ
التَّلَوُّثُ بِالنَّجَاسَةِ ، وَعَنْ سَائِرِ الْبَدَنِ بِاعْتِبَارِ
أَنَّ الِاتِّصَافَ بِالْحَدَثِ لَا يَقْبَلُ التَّجَزُّؤَ ، وَعَلَى
مَعْنًى غَيْرِ مَعْقُولٍ ، وَهُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَعْضَاءِ
الْأَرْبَعَةِ .
وَأَمَّا الْفَرْعُ فِيهِ فَهُوَ الْخَارِجُ مِنْ
غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا اعْتَبَرُوا
فَاسْتَنْبَطُوا أَنَّ الْخَارِجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ كَانَ حَدَثًا
لِكَوْنِهِ نَجَسًا خَارِجًا مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْله
تَعَالَى { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } الْآيَةَ ،
وَهُوَ نَصٌّ مَعْلُولٌ بِذَلِكَ الْوَصْفِ لِظُهُورِ أَثَرِهِ فِي جِنْسِ
الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهِ وَهُوَ انْتِقَاضُ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ
دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ، وَوَجَدُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ
مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ فَعَدُوًّا الْحُكْمَ الْأَوَّلَ إلَيْهِ ،
وَتَعَدِّي الْحُكْمِ الثَّانِي وَهُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَعْضَاءِ
الْأَرْبَعَةِ أَيْضًا ضَرُورَةُ تَعَدِّي الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ
لَمْ يَتَعَدَّ إلَيْهِ تَغَيَّرَ حُكْمُ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ وَذَلِكَ
يُفْسِدُ الْقِيَاسَ .
فَإِنْ قِيلَ التَّغَيُّرُ وَاقِعٌ ؛ لِأَنَّ
مُجَرَّدَ الْخُرُوجِ مُؤَثِّرٌ فِي الْأَصْلِ وَاعْتَبَرْتُمْ فِي
الْفَرْعِ السَّيَلَانَ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ
فَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْخُرُوجَ يَتَحَقَّقُ
بِالسَّيَلَانِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ وَبِمِلْءِ
الْفَمِ إلَخْ .
فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ
الْقِيَاسِ أَلَّا يَكُونَ الْأَصْلُ مَخْصُوصًا بِحُكْمِهِ بِنَصٍّ آخَرَ ،
وَلَا نُسَلِّمُ وُجُودَهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ } ،
فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } مَخْصُوصٌ بِحُكْمِهِ وَهُوَ نَقْضُ
الطَّهَارَةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَلِيلِ كَمَا ذَكَرَهُ
فِي الْكِتَابِ .
وَيُجَابُ
عَمَّا لَوْ قِيلَ وَمِنْ شَرْطِهِ أَلَّا يَكُونَ الْفَرْعُ مَنْصُوصًا
عَلَيْهِ وَقَدْ رَوَيْتُمْ فِيهِ حَدِيثَيْنِ بِأَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ
لَيْسَ بِمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارُ
الْمُصَنِّفِ خِلَافَهُ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : قَدْ ذَكَرْتُمْ
أَنَّ الْأَصْلَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنًى مَعْقُولٍ وَمَعْنًى غَيْرِ
مَعْقُولٍ ، وَعَدَّيْتُمْ غَيْرَ الْمَعْقُولِ تَبَعًا لِلْمَعْقُولِ
لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّغَيُّرُ الْمُفْسِدُ لِتَعْدِيَةِ الْمَعْقُولِ ،
فَهَلَّا تَرَكْتُمْ تَعْدِيَةَ غَيْرِ الْمَعْقُولِ وَجَعَلْتُمْ
الْمَعْقُولَ تَبَعًا لَهُ فِي ذَلِكَ ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَوَّلَ مَعْقُولٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَمَشْرُوعٌ
لِاعْتِبَارِهِ فِي الشَّرْعِ حَدَثًا ، وَالثَّانِي مَشْرُوعٌ فَقَطْ
فَجَعْلُهُ تَابِعًا لِلْأَوَّلِ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ لَا مَحَالَةَ .
وَالثَّانِي
أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا اعْتَبَرَ الْأَوَّلَ حَدَثًا اسْتَلْزَمَ
الطَّهَارَةَ عِنْدَ تَكَرُّرِهِ ، وَفِي غَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ
كُلَّمَا وُجِدَ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَعْضَاءِ
الْأَرْبَعَةِ الظَّاهِرِ تَيْسِيرًا عَلَيْنَا ، فَكَانَ الثَّانِي مِنْ
ضَرُورَاتِ الْأَوَّلِ فَكَانَ تَابِعًا لَهُ ، وَعَرَّفَ مِلْءَ الْفَمِ
بِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ .
وَقِيلَ إنْ مَنَعَ مِنْ الْكَلَامِ فَهُوَ مِلْؤُهُ وَإِلَّا فَلَا .
وَفَرَّقَ
بَيْنَ الْمِلْءِ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْفَمَ تَجَاذَبَ فِيهِ
دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ ظَاهِرًا ، وَالْآخَرُ
يَقْتَضِي كَوْنَهُ بَاطِنًا حَقِيقَةً وَحُكْمًا .
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّهُ إذَا فَتَحَ فَاهُ يَظْهَرُ ، وَإِذَا ضَمَّهُ يُبْطِنُ .
وَأَمَّا
الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الصَّائِمَ إذَا أَخَذَ الْمَاءَ بِفِيهِ ثُمَّ
مَجَّهُ لَمْ يُفْسِدْ صَوْمَهُ كَمَا إذَا سَالَ الْمَاءُ عَلَى ظَاهِرِ
جِلْدِهِ فَكَانَ ظَاهِرًا .
وَإِذَا ابْتَلَعَ رِيقَهُ لَا يُفْسِدُ
صَوْمَهُ أَيْضًا كَمَا إذَا انْتَقَلَ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ بَطْنِهِ إلَى
أُخْرَى فَكَانَ بَاطِنًا ، فَوَفَّرْنَا عَلَى الدَّلِيلَيْنِ حُكْمَهُمَا
فَقُلْنَا إذَا كَثُرَ يَنْقُضُ ؛
لِأَنَّهُ يَخْرُجُ غَالِبًا
بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى ضَبْطِهِ إلَّا بِكُلْفَةٍ
فَاعْتُبِرَ خَارِجًا ، وَإِذَا قَلَّ لَا يَنْقُضُ فَيَصِيرُ تَبَعًا
لِلرِّيقِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ : ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ
ظَاهِرًا فَاعْتُبِرَ خَارِجًا .
فَإِنْ قِيلَ : عَرَّفَ الْمُصَنِّفُ مِلْءَ الْفَمِ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ وَالتَّعْرِيفَاتُ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا .
فَالْجَوَابُ
أَنَّ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ ظَاهِرًا لَيْسَ دَلِيلًا لِقَوْلِهِ
وَمِلْءُ الْفَمِ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ إلَخْ ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ
لِقَوْلِهِ وَبِمِلْءِ الْفَمِ فِي الْقَيْءِ .
قَالَ ( وَقَالَ زُفَرُ :
قَلِيلُ الْقَيْءِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ ) قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
لَمَّا كَانَ الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ حَدَثًا بِمَا دَلَّ
عَلَيْهِ مِنْ الدَّلِيلِ وَجَبَ .
أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْقَلِيلُ
وَالْكَثِيرُ كَالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ ، وَهُوَ قِيَاسٌ ظَاهِرٌ ،
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْقَلْسُ حَدَثٌ }
رَوَاهُ سَوَّارُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ بَعْضِ
آبَائِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ
.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مَا ذُكِرَ عَنْ الْخَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ :
الْقَلْسُ مَا خَرَجَ مِنْ الْفَمِ مِلْءَ الْفَمِ أَوْ دُونَهُ .
وَإِنَّمَا
قَدَّمَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ
؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ مُقِرٌّ بِصِحَّةِ الْقِيَاسِ لَا نِزَاعَ لَهُ
فِيهَا فَكَانَ أَقْطَعَ فِي الْإِلْزَامِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ :
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ فِي الْقَطْرَةِ
وَالْقَطْرَتَيْنِ مِنْ الدَّمِ وُضُوءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَائِلًا }
أَيْ لَيْسَ فِي الْقَطْرَةِ وَالْقَطْرَتَيْنِ بِالْقُوَّةِ مِنْ الدَّمِ
وُضُوءٌ ، لَكِنْ إذَا سَالَ الدَّمُ فَفِيهِ الْوُضُوءُ .
وَحَاصِلُ
مَعْنَاهُ : لَا وُضُوءَ فِي الدَّمِ الْقَلِيلِ ، لَكِنْ فِي الْكَثِيرِ
وُضُوءٌ وَهُوَ السَّائِلُ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ ؛ لِأَنَّ
الْحَقِيقَةَ لَيْسَتْ بِمُرَادَةٍ لِحُصُولِهَا بَعْدَ السَّيَلَانِ ،
وَالْمَجَازُ وَهُوَ
الْقَلِيلُ لَا يَتَنَاوَلُ السَّائِلَ فَلَا يَكُونُ مُتَّصِلًا .
فَإِنْ
قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَيْسَتْ بِمُرَادَةٍ لِجَوَازِ
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ قَطْرَ الدَّمِ مِنْ رَأْسِ الْجُرْحِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَسِيلَ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ .
فَالْجَوَابُ
أَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لَا يَضُرُّنَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا
يَخْرُجُ بِهِ عَنْ كَوْنِهِ مُنْقَطِعًا وَهُوَ ظَاهِرُهُ ( قَوْلُهُ :
وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ عَدَّ الْأَحْدَاثَ جُمْلَةً
: أَوْ دَسْعَةً ) أَيْ دَفْعَةً مِنْ الْقَيْءِ اسْتِدْلَالٌ بِالْأَثَرِ
، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ سَمَاعًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَ قَوْلُهُ : كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْأَخْبَارُ )
يَعْنِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ أَنْ
يُعْمَلَ بِهِمَا إنْ أَمْكَنَ ، وَإِلَّا فَيُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا إنْ
أَمْكَنَ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ يَتَهَاتَرَانِ فَيُصَارُ إلَى الْقِيَاسِ
، فَإِنْ تَعَارَضَ الْقِيَاسَانِ يَعْمَلُ الْمُجْتَهِدُ بِأَيِّهِمَا
شَاءَ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ تَعَارَضَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ
مِنْ قَوْلِهِ { قَاءَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَمْ
يَتَوَضَّأْ } وَمَا رَوَاهُ زُفَرُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { الْقَلْسُ حَدَثٌ } وَالْعَمَلُ بِهِمَا مُمْكِنٌ بِحَمْلِ
مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْقَلِيلِ ، وَمَا رَوَاهُ زُفَرُ عَنْ
الْكَثِيرِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَيْءَ مِلْءَ الْفَمِ مِنْ كَثْرَةِ
الْأَكْلِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
عَنْ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ ( قَوْلُهُ : وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْلَكَيْنِ )
أَيْ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ وَغَيْرِهِ جَوَابٌ لِزُفَرَ عَنْ
اعْتِبَارِ غَيْرِ الْمُعْتَادِ بِالْمُعْتَادِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا عِنْدَ
قَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْخُرُوجَ إلَخْ فَلَا نُعِيدُهُ ( وَلَوْ قَاءَ
مُتَفَرِّقًا بِحَيْثُ لَوْ جُمِعَ يَمْلَأُ الْفَمَ فَعِنْدَ أَبِي
يُوسُفَ يُعْتَبَرُ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ ) ؛ لِأَنَّ لَهُ أَثَرًا فِي
جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ وَلِهَذَا
تَتَّحِدُ الْأَقْوَالُ
الْمُتَفَرِّقَةُ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ
بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ ، وَكَذَا التِّلَاوَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ لِآيَةِ
السَّجْدَةِ تَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ .
( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْتَبَرُ اتِّحَادُ السَّبَبِ وَهُوَ الْغَثَيَانُ ) ؛
لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ عَلَى حَسَبِ ثُبُوتِ السَّبَبِ مِنْ
الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَيَتَّحِدُ بِاتِّحَادِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
إذَا جُرِحَ جِرَاحَاتٍ وَمَاتَ مِنْهَا قَبْلَ الْبُرْءِ يَتَّحِدُ
الْمُوجِبُ وَإِنْ تَخَلَّلَ الْبُرْءُ اخْتَلَفَ ، وَتَفْسِيرُ
الِاتِّحَادِ فِي الْغَثَيَانِ أَنْ يَقِيءَ ثَانِيًا قَبْلَ سُكُونِ
النَّفْسِ عَنْ الْغَثَيَانِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ سَكَنَتْ ثُمَّ قَاءَ
فَهُوَ حَدَثٌ جَدِيدٌ .
( ثُمَّ مَا لَا يَكُونُ حَدَثًا لَا يَكُونُ
نَجِسًا يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ ذَكَرَهُ فِي جَامِعِ الْكَرْدَرِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَهُوَ
اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَاحْتَرَزَ
بِقَوْلِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ نَجِسٌ
عِنْدَهُ ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ احْتِيَاطًا .
وَفَائِدَتُهُ
تَظْهَرُ فِيمَا إذَا أَخَذَهُ بِقُطْنَةٍ فَأَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ لَا
يَنْجُسُ الْمَاءُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ .
وَقَوْلُ
أَبِي يُوسُفَ أَرْفَقُ خُصُوصًا فِي حَقِّ أَصْحَابِ الْقُرُوحِ ،
وَوَجْهُ الصِّحَّةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ إنَّهُ لَيْسَ
بِنَجِسٍ حُكْمًا حَيْثُ لَمْ تُنْتَقَضْ بِهِ الطَّهَارَةُ ، وَمَعْنَاهُ
أَنَّ الْخَارِجَ النَّجِسَ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ
يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ حَدَثًا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فَقَدْ
انْتَفَى اللَّازِمُ وَانْتِفَاؤُهُ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ
وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الضَّمِيرَ
فِي قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى مَا لَا يَكُونُ حَدَثًا ،
وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ تُنْتَقَضْ بِهِ الطَّهَارَةُ لَيْسَ بِحَدَثٍ ،
فَكَانَ مَعْنَى كَلَامِهِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ حَدَثًا لَيْسَ
بِنَجِسٍ حُكْمًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ وَهُوَ
مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَرَّتَيْنِ .
وَالثَّانِي
أَنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ عَلَى عَدَمِ
النَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ النَّقْضِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ
غَيْرَ خَارِجٍ لَا لِكَوْنِهِ غَيْرَ نَجِسٍ ، فَإِنَّ عِلَّةَ النَّاقِضِ
ذَاتُ وَصْفَيْنِ : وَصْفِ الْخُرُوجِ ، وَوَصْفِ النَّجَاسَةِ فَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ انْتِفَاؤُهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ خَارِجٍ دُونَ انْتِفَاءِ
الْوَصْفِ الْآخَرِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ تَقْرِيرَ
كَلَامِهِ هَكَذَا مَا لَا يَكُونُ حَدَثًا لَا يَكُونُ نَجِسًا ، ؛
لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ حَدَثًا لَيْسَ بِنَجَسٍ حُكْمًا .
وَقَوْلُهُ :
حُكْمًا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّجَسَ هُوَ مَا يَحْكُمُ الشَّرْعُ
بِنَجَاسَتِهِ ، وَالشَّرْعُ لَمْ يَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ ؛ لِأَنَّ
حُكْمَهُ بِالنَّجَاسَةِ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ حَدَثًا وَلَيْسَ بِحَدَثٍ
لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الدَّلِيلِ فَلَا يَكُونُ نَجَسًا .
وَعَنْ
الثَّانِي بِأَنَّ غَيْرَ الْخَارِجِ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ
لِكَوْنِهِ فِي مَحَلِّهِ ، فَإِنَّ مَنْ صَلَّى وَهُوَ حَامِلٌ سَخْلَةً
أَوْ بَيْضَةً حَالَ مَجِّهَا دَمًا جَازَتْ صَلَاتُهُ ، فَكَانَ
انْتِفَاءُ الْخُرُوجِ مُسْتَلْزِمًا لِانْتِفَاءِ النَّجَاسَةِ ،
وَنُوقِضَ بِدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ وَالْجُرْحِ السَّائِلُ فَإِنَّهُ لَيْسَ
بِحَدَثٍ وَهُوَ نَجَسٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ
لَيْسَ بِحَدَثٍ بَلْ هُوَ حَدَثٌ لَكِنْ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ حَتَّى
يَخْرُجَ الْوَقْتُ ( قَوْلُهُ : وَهَذَا ) أَيْ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ
انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِمِلْءِ الْفَمِ ( إذَا قَاءَ مَرَّةً أَوْ
طَعَامًا أَوْ مَاءً ، فَإِنْ قَاءَ بَلْغَمًا ) يَعْنِي صِرْفًا لَا
يَشُوبُهُ طَعَامٌ ، فَإِمَّا أَنْ يَنْزِلَ مِنْ الرَّأْسِ أَوْ
يَرْتَقِيَ مِنْ الْجَوْفِ ، وَالْأَوَّلُ غَيْرُ نَاقِضٍ بِالِاتِّفَاقِ ؛
لِأَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ بِمَوْضِعِ النَّجَاسَةِ .
وَكَذَا الثَّانِي عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .
لَهُ
أَنَّهُ نَجَسٌ بِمُجَاوَرَةِ مَا فِي الْمَعِدَةِ مِنْ النَّجَاسَةِ ،
وَقَدْ خَرَجَ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ فَيَكُونُ
نَاقِضًا كَالطَّعَامِ وَالصَّفْرَاءِ ،
وَلَهُمَا أَنَّ الْبَلْغَمَ
لَزِجٌ لَا تَتَخَلَّلُهُ النَّجَاسَةُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ قَلِيلٌ
وَالْقَلِيلُ فِي الْقَيْءِ غَيْرُ نَاقِضٍ .
فَإِنْ قِيلَ يُنْقَضُ بِبَلْغَمٍ يَقَعُ فِي النَّجَاسَةِ ثُمَّ يُرْفَعُ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ .
أُجِيبَ
بِأَنَّهُ لَا رِوَايَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَلَئِنْ سُلِّمَ
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَلْغَمَ مَا دَامَ فِي الْبَاطِنِ
تَزْدَادُ ثَخَانَتُهُ فَتَزْدَادُ لُزُوجَتُهُ ، فَإِذَا انْفَصَلَ عَنْ
الْبَاطِنِ تَقِلُّ ثَخَانَتُهُ فَتَقِلُّ لُزُوجَتُهُ .
وَإِذَا
قَلَّتْ لُزُوجَتُهُ ازْدَادَتْ رِقَّتُهُ فَجَازَ أَنْ يَقْبَلَ
النَّجَاسَةَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا اخْتَلَطَ الْبَلْغَمُ
بِالطَّعَامِ ، قَالُوا : يُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَلَبَةُ ، فَإِنْ كَانَ
الطَّعَامُ غَالِبًا نَقَضَ كَالدَّمِ وَإِلَّا فَلَا .
( قَوْلُهُ : وَلَوْ قَاءَ دَمًا ) فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَجَمِّدًا وَهُوَ الْعَلَقُ أَوْ مَائِعًا .
فَإِنْ
كَانَ الْأَوَّلَ يُعْتَبَرُ فِيهِ مِلْءُ الْفَمِ ؛ لِأَنَّهُ سَوْدَاءُ
مُحْتَرِقَةٌ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الْمَعِدَةِ وَالْخَارِجُ مِنْهَا
حَدَثٌ إذَا كَانَ مِلْءَ الْفَمِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَذَلِكَ
عِنْدَ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ .
قِيلَ وَهِيَ خَمْسَةٌ : الطَّعَامُ ، وَالْمَاءُ وَالْمُرَّةُ ، وَالسَّوْدَاءُ ، وَالصَّفْرَاءُ .
وَعِنْدَهُمَا
إنْ سَالَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ نَقَضَ ، وَإِنْ قَلَّ ؛ لِأَنَّ
الْمَعِدَةَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلدَّمِ فَيَكُونُ مِنْ قُرْحَةٍ فِي
الْجَوْفِ ظَاهِرًا فَيُعْتَبَرُ بِالْخَارِجِ مِنْ الْقُرْحَةِ
الظَّاهِرَةِ وَالْمُعْتَبَرُ هُنَاكَ السَّيَلَانُ .
فَكَذَلِكَ
هَاهُنَا ذُكِرَ فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهُ
أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُضْطَرِبٌ ،
مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مَعَ
أَبِي حَنِيفَةَ ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ .
.
( وَلَوْ ) ( نَزَلَ ) مِنْ الرَّأْسِ ( إلَى مَا لَانَ مِنْ الْأَنْفِ ) ( نَقَضَ بِالِاتِّفَاقِ ) لِوُصُولِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ فَيَتَحَقَّقُ الْخُرُوجُ ( وَالنَّوْمُ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَّكِئًا أَوْ مُسْتَنِدًا إلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيلَ عَنْهُ لَسَقَطَ ) لِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ سَبَبٌ لِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ فَلَا يَعْرَى عَنْ خُرُوجِ شَيْءٍ عَادَةً ، وَالثَّابِتُ عَادَةً كَالْمُتَيَقَّنِ بِهِ ، وَالِاتِّكَاءُ يُزِيلُ مَسْكَةَ الْيَقَظَةِ لِزَوَالِ الْمَقْعَدِ عَنْ الْأَرْضِ ، وَيَبْلُغُ الِاسْتِرْخَاءُ غَايَتَهُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاسْتِنَادِ ، غَيْرَ أَنَّ السَّنَدَ يَمْنَعُهُ مِنْ السُّقُوطِ ، بِخِلَافِ النَّوْمِ حَالَةَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا هُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ بَعْضَ الِاسْتِمْسَاكِ بَاقٍ ، إذْ لَوْ زَالَ لَسَقَطَ فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِرْخَاءُ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا ، إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا ، فَإِنَّهُ إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ }
( قَوْلُهُ : وَلَوْ نَزَلَ إلَى مَا لَانَ ) أَيْ الَّذِي لَانَ مِنْ الْأَنْفِ : يَعْنِي الْمَارِنَ .
فَإِنْ
قِيلَ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ
الْفَصْلِ وَالدَّمُ وَالْقَيْحُ إذَا خَرَجَا مِنْ الْبَدَنِ فَتَجَاوَزَ
إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ فَكَانَ ذِكْرُهُ
تَكَرُّرًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذِكْرَهُ هَاهُنَا لَيْسَ لِبَيَانِ
حُكْمِهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِنْ ذَلِكَ إذَا وَصَلَ الدَّمُ إلَى
قَصَبَةِ الْأَنْفِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا بَيَانًا لِاتِّفَاقِ
أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّ عِنْدَ زُفَرَ لَا يَنْقُضُ بِوُصُولِهِ إلَى
قَصَبَةِ الْأَنْفِ ، وَإِنَّمَا يَنْقُضُ إذَا وَصَلَ إلَى مَا لَانَ
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَوْلُهُ :
لِوُصُولِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ : يَعْنِي
بِالِاتِّفَاقِ لِعَدَمِ الظُّهُورِ قَبْلَ ذَلِكَ عِنْدَ زُفَرَ (
قَوْلُهُ : وَالنَّوْمُ مُضْطَجِعًا ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ نَقْضِ
الْوُضُوءِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْ الْبَدَنِ حَقِيقَةً ذَكَرَ نَقْضَهُ بِمَا
يُوجِبُ ذَلِكَ حُكْمًا ( قَوْلُهُ : وَالنَّوْمُ مُضْطَجِعًا ) وَهُوَ
أَنْ يَضَعَ النَّائِمُ جَنْبَهُ عَلَى الْأَرْضِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ؛
لِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ سَبَبٌ لِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ فَلَا يَخْلُو
عَنْ خُرُوجِ رِيحٍ عَادَةً ، وَالثَّابِتُ عَادَةً كَالْمُتَيَقَّنِ بِهِ ،
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ الْمُسْتَرَاحَ ثُمَّ شَكَّ فِي وُضُوئِهِ
فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِنَقْضِ وُضُوئِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ عِنْدَ
الدُّخُولِ فِي الْخَلَاءِ بِالتَّبَرُّزِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَكَّ
بِدُونِ الدُّخُولِ ، وَكَذَلِكَ النَّوْمُ مُتَّكِئًا عَلَى أَحَدِ
وَرِكَيْهِ ، وَالِاتِّكَاءُ افْتِعَالٌ مِنْ وَكَأَ مُعْتَلِّ الْفَاءِ
مَهْمُوزِ اللَّامِ مُقَدَّرٍ لَا مُسْتَعْمَلٍ ، فَأَبْدَلَ التَّاءَ فِي
اتِّكَاءٍ مِنْ الْوَاوِ إذْ الْأَصْلُ أَوْ اتَّكَأَ ، فَإِنَّ التَّاءَ
تُبْدَلُ مِنْ الْوَاوِ فِي افْتَعَلَ وَغَيْرِهِ ( وَلِأَنَّ الِاتِّكَاءَ
يُزِيلُ مَسْكَةَ الْيَقِظَةِ ) أَيْ التَّمَاسُكَ الَّذِي يَكُونُ
لِلْيَقْظَانِ ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِنَادُ إلَى شَيْءٍ كَجِدَارٍ أَوْ
حَائِطٍ بِحَيْثُ إذَا
أُزِيلَ سَقَطَ ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ
رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ وَإِنَّمَا هُوَ مِمَّا اخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ ؛
لِأَنَّ الِاسْتِرْخَاءَ يَبْلُغُ غَايَتَهُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ
الِاسْتِنَادِ ، غَيْرَ أَنَّ السَّنَدَ يَمْنَعُهُ مِنْ السُّقُوطِ ،
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا
يُنْقَضُ وُضُوءُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ مَقْعَدَهُ مُسْتَقِرٌّ
عَلَى الْأَرْضِ فَيَأْمَنُ مِنْ خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْهُ ( قَوْلُهُ :
بِخِلَافِ النَّوْمِ حَالَةَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ عَلَى هَيْئَةِ سُجُودِ
الصَّلَاةِ مِنْ تَجَافِي الْبَطْنِ عَنْ الْفَخِذَيْنِ وَعَدَمِ
افْتِرَاشِ الذِّرَاعَيْنِ ، أَمَّا إذَا كَانَ بِخِلَافِهِ فَيُنْقَضُ .
وَقَوْلُهُ
: وَغَيْرُهَا هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ
أَنَّهُ لَا يَكُونُ حَدَثًا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ إذَا كَانَ فِي
الصَّلَاةِ ، أَمَّا إذَا كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَهُوَ حَدَثٌ
وَاَلَّذِي صَحَّحَهُ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ( ؛ لِأَنَّ بَعْضَ
الِاسْتِمْسَاكِ بَاقٍ ، إذْ لَوْ زَالَ لَسَقَطَ فَلَا يَتِمُّ
الِاسْتِرْخَاءُ ) وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ لَمْ يَكُنْ النَّوْمُ فِي هَذِهِ
الْأَحْوَالِ سَبَبًا لِخُرُوجِ شَيْءٍ عَادَةً فَلَا يُقَامُ مَقَامَهُ ؛
لِأَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ إذَا كَانَ
غَالِبَ الْوُجُودِ بِذَلِكَ السَّبَبِ ، أَمَّا إذَا لَمْ يَغْلِبْ فَلَا ؛
لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُودِ الْحَدَثِ وَالْوُضُوءُ
كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يُزَالُ بِالشَّكِّ .
( وَالْأَصْلُ
فِيهِ ) أَيْ فِي كَوْنِ النَّوْمِ غَيْرَ نَاقِضٍ لِلْوُضُوءِ فِي هَذِهِ
الْأَحْوَالِ ( قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا
وُضُوءَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ
سَاجِدًا ، إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ
إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ } ) رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ مُسْنَدًا إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى أَبِي
الْعَالِيَةِ
وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْد النَّقَلَةِ ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ
قَالَ : حَدِّثْ عَمَّنْ شِئْت إلَّا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فَإِنَّهُ
لَا يُبَالِي عَمَّنْ أَخَذَ : أَيْ لَا يُبَالِي أَنْ يَرْوِيَ عَنْ كُلِّ
أَحَدٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ أَبَا الْعَالِيَةِ ثِقَةٌ نَقَلَ عَنْهُ
الثِّقَاتُ كَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيِّ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَكَوْنُهُ لَا يُبَالِي عَمَّنْ أَخَذَ يُؤَثِّرُ
فِي مَرَاسِيلِهِ دُونَ مَسَانِيدِهِ ، وَقَدْ أَسْنَدَ هَذَا الْحَدِيثَ
إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ
أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ نَفْيُ الْوُضُوءِ عَمَّنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ
رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا .
وَالثَّانِي : إثْبَاتُهُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا مُؤَكَّدًا بِإِنَّمَا .
فَإِنْ
قِيلَ : إنَّمَا لِلْحَصْرِ وَلَا حَصْرَ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ
لَمْ يَنْحَصِرْ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا بَلْ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى
الْمُسْتَنِدِ وَالْمُتَّكِئِ كَمَا مَرَّ وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا
نُسَلِّمُ أَنَّهُ لِلْحَصْرِ بَلْ هُوَ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ وَلَئِنْ
سَلَّمْنَا فَصِيغَتُهُ أَفَادَتْ الْحَصْرَ فِي الْمُضْطَجِعِ
وَالْمُتَّكِئِ ، وَالْمُسْتَنِدُ يَلْحَقُ بِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ .
وَالثَّالِثُ
التَّعْلِيلُ وَهُوَ قَوْلُهُ : { فَإِنَّهُ إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا
اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ
الْوُضُوءِ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا
لِعَدَمِ الِاسْتِرْخَاءِ ، وَعَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْمُضْطَجِعِ وَمَنْ
هُوَ بِمَعْنَاهُ لِوُجُودِهِ فِيهِ .
قِيلَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ {
اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ } : بَلَغَ الِاسْتِرْخَاءُ غَايَتَهُ ؛ لِأَنَّ
أَصْلَ الِاسْتِرْخَاءِ يُوجَدُ فِيمَنْ نَامَ قَائِمًا ، فَحِينَئِذٍ
يَتَنَاقَضُ أَوَّلُ الْحَدِيثِ وَآخِرُهُ .
وَرُبَّمَا يُشِيرُ إلَى
هَذَا قَوْلُهُ : مَنْ قِيلَ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الِاسْتِمْسَاكِ بَاقٍ ،
وَقَوْلُهُ : فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِرْخَاءُ .
.
( وَالْغَلَبَةُ
عَلَى الْعَقْلِ بِالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونُ ) لِأَنَّهُ فَوْقَ النَّوْمِ
مُضْطَجِعًا فِي الِاسْتِرْخَاءِ ، وَالْإِغْمَاءِ حَدَثٌ فِي
الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي النَّوْمِ إلَّا أَنَّا
عَرَفْنَاهُ بِالْأَثَرِ ، وَالْإِغْمَاءُ فَوْقَهُ فَلَا يُقَاسَ
عَلَيْهِقَالَ ( وَالْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ بِالْإِغْمَاءِ
وَالْجُنُونُ ) وَالْجُنُونُ مَرْفُوعٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ
وَالْغَلَبَةُ ، وَالْجَرُّ خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ فِي الْإِغْمَاءِ
مَغْلُوبٌ وَفِي الْجُنُونِ مَسْلُوبٌ ، وَلِهَذَا جَازَ الْإِغْمَاءُ
عَلَى الْأَنْبِيَاءِ دُونَ الْجُنُونِ ، وَالْإِغْمَاءُ ضَرْبُ مَرَضٍ
يُضْعِفُ الْقُوَى وَلَا يُزِيلُ الْحِجَا ، وَسَبَبُهُ امْتِلَاءُ بُطُونِ
الدِّمَاغِ مِنْ بَلْغَمٍ غَلِيظٍ بَارِدٍ .
وَقَوْلُهُ : ( لِأَنَّهُ )
أَيْ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ ( فَوْقَ
النَّوْمِ مُضْطَجِعًا فِي الِاسْتِرْخَاءِ ) ؛ لِأَنَّ النَّائِمَ
يَتَنَبَّهُ بِالتَّنَبُّهِ دُونَهُمَا ( وَالْإِغْمَاءُ حَدَثٌ فِي
الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ) يَعْنِي حَالَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ
وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِوُجُودِ الِاسْتِرْخَاءِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ
فِي النَّوْمِ لِزَوَالِ الْمَقْعَدَةِ عَنْ الْأَرْضِ وَوُجُودِ أَصْلِ
الِاسْتِرْخَاءِ ، لَكِنْ تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ فِي النَّوْمِ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ
نَامَ قَائِمًا } الْحَدِيثَ ، وَالْإِغْمَاءُ فَوْقَهُ كَمَا مَرَّ فَلَا
يُقَاسُ عَلَيْهِ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً ؛ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ
أَلَّا يَكُونَ أَدْنَى الْغَفْلَةِ نَاقِضًا أَلَّا يَكُونَ أَعْلَاهَا
نَاقِضًا .
وَالسُّكْرُ إذَا حَصَلَ بِهِ تَمَايُلٌ فِي الْمِشْيَةِ
كَالْإِغْمَاءِ قِيلَ لَمْ يُعَلِّلْ الْمُصَنِّفُ لِلْجُنُونِ ، وَمِنْ
الْمَشَايِخِ مَنْ عَلَّلَهُ بِغَلَبَةِ الِاسْتِرْخَاءِ ، وَرُدَّ بِأَنَّ
الْمَجْنُونَ قَدْ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الصَّحِيحِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ
يُقَالَ إنَّهُ نَاقِضٌ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ مُبَالَاتِهِ وَتَمْيِيزِ
الْحَدَثِ عَنْ غَيْرِهِ .
( وَالْقَهْقَهَةُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ ) وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا لَا تَنْقُضُ .
وَهُوَ
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ نَجَسٍ
، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ
التِّلَاوَةِ وَخَارِجِ الصَّلَاةِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا مَنْ ضَحِكَ مِنْكُمْ قَهْقَهَةً
فَلْيُعِدْ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ جَمِيعًا } وَبِمِثْلِهِ يُتْرَكُ
الْقِيَاسُ .
وَالْأَثَرُ وَرَدَ فِي صَلَاةِ مُطْلَقَةٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا .
وَالْقَهْقَهَةُ
مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ وَلِجِيرَانِهِ ، وَالضَّحِكُ مَا يَكُونُ
مَسْمُوعًا لَهُ دُونَ جِيرَانِهِ وَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ يُفْسِدُ
الصَّلَاةَ دُونَ الْوُضُوءِ .
قَوْلُهُ : ( وَالْقَهْقَهَةُ فِي
كُلِّ صَلَاةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ ) احْتِرَازٌ عَنْ صَلَاةِ
الْجِنَازَةِ ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ ( وَلَنَا قَوْلُهُ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا مَنْ ضَحِكَ مِنْكُمْ قَهْقَهَةً } )
الْحَدِيثَ ، رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ عَنْ
الْحَسَنِ عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي وَأَصْحَابُهُ خَلْفَهُ فَجَاءَ
أَعْرَابِيٌّ وَفِي بَصَرِهِ سُوءٌ : أَيْ ضَعْفٌ ، فَوَقَعَ فِي رَكِيَّةٍ
فَضَحِكَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ :
أَلَا مَنْ ضَحِكَ مِنْكُمْ } الْحَدِيثَ ، وَرَوَاهُ أُسَامَةُ بْنُ
زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ وَرَوَاهُ أَبُو الْعَالِيَةِ مُرْسَلًا وَمُسْنَدًا
إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ( وَبِمِثْلِهِ ) أَيْ بِمِثْلِ هَذَا
الْحَدِيثِ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ، وَكَانَ
رَاوِيهِ مَعْرُوفًا بِالْفِقْهِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الِاجْتِهَادِ كَأَبِي
مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( يُتْرَكُ الْقِيَاسُ ) قِيلَ التَّعَلُّقُ
بِهِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِيَّةٌ فَكَانَ مَوْضُوعًا .
وَأُجِيبَ
بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي خَبَرِ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي
الْمَسْجِدِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ
يُصَلِّي فِيهِ رَكِيَّةٌ .
وَرَاوِي الْمَسْجِدِ كَأَبِي مُوسَى وَأُسَامَةَ ثِقَةٌ وَهُوَ مُثْبِتٌ فَهُوَ أَوْلَى .
وَقِيلَ
لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ عَلَى
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّحِكُ
فِي الصَّلَاةِ قَهْقَهَةً ، وَاَلَّذِينَ كَانُوا خَلْفَهُ أَصْحَابُهُ ،
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَهُ الصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ
مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْأَعْرَابِ الْجُهَّالِ ، وَهَذَا مِنْ بَابِ
حُسْنِ الظَّنِّ بِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِلَّا فَلَيْسَ
الضَّحِكُ كَبِيرَةً ، وَهْم لَيْسُوا مِنْ الصَّغَائِرِ بِمَعْصُومِينَ
وَلَا مِنْ الْكَبَائِرِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ كَبِيرَةً .
( قَوْلُهُ : وَالْأَثَرُ وَرَدَ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ )
أَيْ
كَامِلَةٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى صَلَاةِ
الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَصَلَاةِ الصَّبِيِّ وَصَلَاةِ
الْبَانِي بَعْدَ الْوُضُوءِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَصَلَاةِ
النَّائِمِ فَإِنَّ الْوُضُوءَ لَا يَفْسُدُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ، وَفَرْقٌ
بَيْنَ الْقَهْقَهَةِ وَالضَّحِكِ وَهُوَ وَاضِحٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ
التَّبَسُّمَ فِي الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ لِلصَّلَاةِ
وَلَا لِلْوُضُوءِ فَلَيْسَ لَهُ هَاهُنَا مَدْخَلٌ .
{ قَالَ جَابِرُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا تَبَسَّمَ وَلَوْ فِي الصَّلَاةِ }
.
( وَالدَّابَّةُ تَخْرُجُ مِنْ الدُّبُرِ نَاقِضَةٌ ، فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِ الْجُرْحِ أَوْ سَقَطَ اللَّحْمُ لَا تَنْقُضُ ) وَالْمُرَادُ بِالدَّابَّةِ الدُّودَةُ وَهَذَا لِأَنَّ النَّجَسَ مَا عَلَيْهَا وَذَلِكَ قَلِيلٌ وَهُوَ حَدَثٌ فِي السَّبِيلَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا ، فَأَشْبَهَ الْجُشَاءَ وَالْفُسَاءَ ، بِخِلَافِ الرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ وَذَكَرِ الرَّجُلِ لِأَنَّهَا لَا تَنْبَعِثُ عَنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ مُفْضَاةً يُسْتَحَبُّ لَهَا الْوُضُوءُ لِاحْتِمَالِ خُرُوجِهَا مِنْ الدُّبُرِ
:
قَالَ : ( وَالدَّابَّةُ تَخْرُجُ مِنْ الدُّبُرِ تَنْقُضُ الْوُضُوءِ )
الدَّابَّةُ : أَيْ الدُّودَةُ الَّتِي تَنْشَأُ فِي الْبَطْنِ إذَا
خَرَجَتْ مِنْ الدُّبُرِ نَقَضَتْ الْوُضُوءَ ، وَاَلَّتِي تَنْشَأُ فِي
الْجُرْحِ إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ أَوْ لَحْمٌ سَقَطَ مِنْهُ لَمْ يَنْقُضْ ؛
لِأَنَّ نَفْسَ الدُّودَةِ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ ، وَلِهَذَا لَوْ غُسِلَتْ
جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَهَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْ النَّجَسِ إلَّا مَا
عَلَيْهَا وَذَلِكَ قَلِيلٌ وَهُوَ حَدَثٌ فِي السَّبِيلَيْنِ دُونَ
غَيْرِهِمَا ، فَأَشْبَهَ الْخَارِجُ مِنْ الْجُرْحِ الْجُشَاءَ فِي عَدَمِ
النَّقْضِ ، وَالْخَارِجُ مِنْ الدُّبُرِ الْفُسَاءَ فِي نَقْضِ
الْوُضُوءِ .
قِيلَ إنَّمَا فَسَّرَ الدَّابَّةَ بِالدُّودَةِ ؛ لِأَنَّ
الدَّابَّةَ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ ، فَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ
الْمُرَادَ بِهَا مَا يَدْخُلُ الْجُرْحَ كَالذُّبَابِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ
فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ فَفَسَّرَهُ بَيَانًا لِذَلِكَ .
وَقِيلَ قَدْ
تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مَا لَا يَكُونُ حَدَثًا لَا
يَكُونُ نَجَسًا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَقَالَ هَاهُنَا : ؛ لِأَنَّ النَّجَسَ
مَا عَلَيْهَا وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ
كَانَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى
قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، أَوْ أَطْلَقَ النَّجَسَ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ : يَعْنِي
لَوْ كَانَ ثَمَّةَ نَجَسٌ فَهُوَ مَا عَلَيْهَا ، وَهَذَا لَيْسَ
بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الشَّرْطِيَّةِ إنْ كَانَ عَلَى هَذَا
الْوَجْهِ لَكِنْ ثَمَّةَ نَجَسٌ فَيَكُونُ مَا عَلَيْهَا لَمْ يَسْتَقِمْ
فِي الْجُرْحِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ حَدَثًا لَا يَكُونُ نَجَسًا
وَهُوَ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي الْجُرْحِ فَلَا يَكُونُ نَجَسًا ، وَإِنْ
كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ نَجَسٌ مَا عَلَيْهَا
فَلَا يَكُونُ نَجَسًا لَمْ يَسْتَقِمْ فِي الدُّبُرِ ؛ لِأَنَّهُ نَجَسٌ
وَحَدَثٌ وَالْأَوَّلُ صَوَابٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : أَطْلَقَ
النَّجَسَ عَلَى مَا يَخْرُجُ مِنْ الْجُرْحِ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ ،
فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الدُّبُرِ نَجَسًا ذُكِرَ فِي
الْجُرْحِ بِلَفْظِ النَّجَسِ .
قَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ
الرِّيحِ
الْخَارِجَةِ مِنْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ ) مُتَّصِلٌ بِالْفُسَاءِ : يَعْنِي
أَنَّهُ نَاقِضٌ ، بِخِلَافِ الرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنْ قُبُلِ
الْمَرْأَةِ ( وَذَكَرِ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْبَعِثُ عَنْ
مَحَلِّ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ مُفْضَاةً ) وَهِيَ الَّتِي
صَارَ سَبِيلَاهَا وَاحِدًا ( يُسْتَحَبُّ لَهَا الْوُضُوءُ ) لِاحْتِمَالِ
أَنْ يَكُونَ فُسَاءً .
وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ عَيْنَ الرِّيحِ نَجَسٌ
أَوْ مُتَنَجِّسٌ بِمُرُورِهَا عَلَى النَّجَاسَةِ وَثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ
فِيمَا لَوْ خَرَجَ مِنْهُ الرِّيحُ وَعَلَيْهِ سَرَاوِيلُ مُبْتَلَّةٌ ،
فَمَنْ قَالَ بِنَجَاسَةِ عَيْنِهَا قَالَ بِتَنَجُّسِ السَّرَاوِيلِ ،
وَمَنْ قَالَ بِطَهَارَةِ عَيْنِهَا لَمْ يَقُلْ بِهِ ، كَمَا لَوْ مَرَّتْ
الرِّيحُ بِنَجَاسَةٍ ثُمَّ مَرَّتْ بِثَوْبِ مُبْتَلٍّ فَإِنَّهُ لَا
يَتَنَجَّسُ بِهَا .
قِيلَ إذَا كَانَ الْخُرُوجُ مِنْ الدُّبُرِ مُحْتَمَلًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ وَاجِبًا .
وَأُجِيبَ
بِأَنَّ كَوْنَهَا مُتَوَضِّئَةً ثَابِتٌ بِيَقِينٍ ، وَالْيَقِينُ لَا
يَزُولُ بِالْمُحْتَمَلِ كَالشَّاكِّ فِي الْحَدَثِ .
وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ : يَجِبُ عَلَيْهَا الْوُضُوءُ وَهُوَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ .
وَقِيلَ إذَا كَانَتْ مُنْتِنَةً يَجِبُ وَإِلَّا فَلَا .
(
فَإِنْ قُشِرَتْ نَفْطَةٌ فَسَالَ مِنْهَا مَاءٌ أَوْ صَدِيدٌ أَوْ
غَيْرُهُ إنْ سَالَ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ نَقَضَ ، وَإِنْ لَمْ يَسِلْ لَا
يَنْقُضُ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْقُضُ فِي الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْقُضُ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَهِيَ
مَسْأَلَةُ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ
نَجِسَةٌ لِأَنَّ الدَّمَ يَنْضَجُ فَيَصِيرُ قَيْحًا ثُمَّ يَزْدَادُ
نُضْجًا فَيَصِيرُ صَدِيدًا ثُمَّ يَصِيرُ مَاءً ، هَذَا إذَا قَشَرَهَا
فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ ، أَمَّا إذَا عَصَرَهَا فَخَرَجَ بِعَصْرِهِ لَا
يَنْقُضُ لِأَنَّهُ مُخْرَجٌ وَلَيْسَ بِخَارِجٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ
: ( قُشِّرَتْ نَفِطَةٌ ) فِي نُونِهَا الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ وَهُوَ
بَثْرٌ يَخْرُجُ بِالْيَدِ مَلْآنُ مَاءً ، مِنْ قَوْلِهِمْ انْتَفَطَ
فُلَانٌ : أَيْ امْتَلَأَ غَضَبًا ، إذَا قُشِّرَتْ فَإِمَّا أَنْ يَسِيلَ
الْمَاءُ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ أَوْ لَا ، وَسَمَّاهُ جُرْحًا ؛ لِأَنَّ
قِشْرَهَا جُرْحٌ لَهَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ نُقِضَ وَإِنْ كَانَ
الثَّانِي لَمْ يُنْقَضْ ، وَإِنَّمَا أَعَادَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَإِنْ
كَانَتْ تُعْلَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ لِيُعْلَمَ الْفَرْقُ بَيْنَ
الْخَارِجِ وَالْمَخْرَجِ ، أَوْ لِيُعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ الْمَاءِ حُكْمُ
غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَذْكُرْهُ مِنْ قَبْلُ ، فَرُبَّمَا
كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ كَغَيْرِهِ ، وَهَذِهِ
الْجُمْلَةُ : أَعْنِي قَوْلَهُ مَاءٌ أَوْ صَدِيدٌ أَوْ غَيْرَهُمَا ،
وَقَوْلُهُ : هَذَا : أَيْ الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ إذَا سَالَ نُقِضَ
إنَّمَا هُوَ إذَا قَشَّرَهَا فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ ، أَمَّا إذَا عَصَرَهَا
فَخَرَجَ بِعَصْرِهِ وَلَوْ لَمْ يَعْصِرْهَا لَمْ يَخْرُجْ لَمْ يُنْقَضْ
؛ لِأَنَّهُ مُخْرَجٌ وَلَيْسَ بِخَارِجٍ ، وَهُوَ مُخْتَارُ بَعْضِ
الْمَشَايِخِ ، اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ : يُنْقَضُ .
قَالَ
بَعْضُ الشَّارِحِينَ : وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدِي ؛ لِأَنَّ
الْخُرُوجَ لَازِمُ الْإِخْرَاجِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ اللَّازِمِ
عِنْدَ وُجُودِ الْمَلْزُومِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ
لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يَسْتَلْزِمُهُ ، فَكَانَ
ثُبُوتُهُ غَيْرَ قَصْدِيٍّ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ .
( فَصْلٌ فِي الْغُسْلِ ) ( وَفَرْضُ الْغُسْلِ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَغَسْلُ سَائِرِ الْبَدَنِ ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُمَا سُنَّتَانِ فِيهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ } أَيْ مِنْ السُّنَّةِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَلِهَذَا كَانَا سُنَّتَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } وَهُوَ أَمْرٌ بِتَطْهِيرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ ، إلَّا أَنَّ مَا يَتَعَذَّرُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ خَارِجٌ عَنْ النَّصِّ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ غَسْلُ الْوَجْهِ وَالْمُوَاجِهَةُ فِيهِمَا مُنْعَدِمَةٌ ، وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ حَالَةَ الْحَدَثِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّهُمَا فَرْضَانِ فِي الْجَنَابَةِ سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوءِ } " .
فَصْلٌ
فِي الْغُسْلِ ) مَعْنَى الْفَصْلِ فِي اللُّغَةِ ظَاهِرٌ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ تَعْرِيفُهُ بِأَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ
الْفِقْهِيَّةِ تَغَيَّرَتْ أَحْكَامُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَبْلَهَا
غَيْرُ مُتَرْجَمَةٍ بِالْكِتَابِ وَالْبَابِ ، فَإِنْ وُصِلَ بِمَا
بَعْدَهُ نُوِّنَ وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فَصْلَ الْغُسْلِ
بَعْدَ الْوُضُوءِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْوُضُوءِ أَكْثَرُ ،
وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْوُضُوءِ جُزْءُ الْبَدَنِ وَمَحَلُّ الْغُسْلِ
كُلُّهُ وَالْجُزْءُ قَبْلَ الْكُلِّ ، أَوْ اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ
فَإِنَّهُ وَقَعَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ، وَالْفَرْضُ بِمَعْنَى
الْمَفْرُوضِ ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ ( وَفَرْضُ الْغُسْلِ ) إمَّا
لِلِاسْتِئْنَافِ وَإِمَّا وَاوُ الْمُخْتَصِّ لِلْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ
فَفَرْضُ الْوُضُوءِ ، وَالْغُسْلُ اسْمٌ مِنْ الِاغْتِسَالِ وَهُوَ غَسْلُ
تَمَامِ الْجَسَدِ قَوْلُهُ : ( وَغَسْلُ سَائِرِ الْبَدَنِ ) أَيْ
الْبَاقِي .
وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَشْرٌ
مِنْ الْفِطْرَةِ } أَيْ السُّنَّةِ ، قِيلَ خَمْسٌ مِنْهَا فِي الرَّأْسِ
وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ ، فَاَلَّتِي فِي الرَّأْسِ : الْفَرْقُ ،
وَالسِّوَاكُ ، وَالْمَضْمَضَةُ ، وَالِاسْتِنْشَاقُ ، وَقَصُّ الشَّارِبِ .
وَاَلَّتِي
فِي الْجَسَدِ : الْخِتَانُ ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ ،
وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ ، وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ .
( وَلَنَا
قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } وَالْجُنُبُ
يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ ؛
لِأَنَّهُ اسْمٌ جَرَى مَجْرَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْإِجْنَابُ
وَقَوْلُهُ : { فَاطَّهَّرُوا } أَيْ اغْسِلُوا أَبْدَانَكُمْ عَلَى وَجْهِ
الْمُبَالَغَةِ ، وَهُوَ أَمْرٌ بِتَطْهِيرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ إلَّا
أَنَّ مَا يَتَعَذَّرُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ خَارِجٌ عَنْ الْإِرَادَةِ
كَدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ لِمَا فِي غَسْلِهِمَا مِنْ الضَّرَرِ وَالْأَذَى
، وَلِهَذَا سَقَطَ غَسْلُهُمَا عَنْ حَقِيقَةِ النَّجَاسَةِ بِأَنْ
كَحَّلَ عَيْنَيْهِ بِكُحْلٍ نَجِسٍ ، وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ
لَا تَعَذُّرَ فِيهِمَا ، وَلِهَذَا افْتَرَضَ
غَسْلَهُمَا عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَيُفْتَرَضُ أَيْضًا فِي الْجَنَابَةِ .
قَوْلُهُ
: ( بِخِلَافِ الْوُضُوءِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ الْغُسْلَ بِالْوُضُوءِ ( ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ غَسْلُ
الْوَجْهِ لَا جَمِيعِ الْبَدَنِ وَالْمُوَاجَهَةُ فِيهِمَا ) أَيْ فِي
مَحَلَّيْ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ مَعْدُومَةٌ .
وَقَوْلُهُ : (
وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ ) جَوَابٌ عَنْ حَدِيثِ الشَّافِعِيِّ
يَحْمِلُهُ عَلَى الْوُضُوءِ بِدَلِيلِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ
أَنَّهُمَا فَرْضَانِ فِي الْجَنَابَةِ سُنَّتَانِ فِي الْوُضُوءِ .
قَالَ ( وَسُنَّتُهُ أَنْ يَبْدَأَ الْمُغْتَسِلُ فَيَغْسِلَ يَدَيْهِ وَفَرْجَهُ وَيُزِيلَ نَجَاسَةً إنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ إلَّا رِجْلَيْهِ ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثَلَاثًا ، ثُمَّ يَنْتَحِي عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ ) هَكَذَا حَكَتْ مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اغْتِسَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُ غَسْلَ رِجْلَيْهِ لِأَنَّهُمَا فِي مُسْتَنْقَعِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَلَا يُفِيدُ الْغَسْلُ حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى لَوْحٍ لَا يُؤَخِّرُ ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ كَيْ لَا تَزْدَادَ بِإِصَابَةِ الْمَاءِ ( وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَنْقُضَ ضَفَائِرَهَا فِي الْغُسْلِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أُصُولَ الشَّعْرِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَمَا يَكْفِيك إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أُصُولَ شَعْرِك } " وَلَيْسَ عَلَيْهَا بَلُّ ذَوَائِبِهَا هُوَ الصَّحِيحُ ، بِخِلَافِ اللِّحْيَةِ لِأَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي إيصَالِ الْمَاءِ إلَى أَثْنَائِهَا
قَالَ
( وَسُنَّتُهُ أَنْ يَبْدَأَ الْمُغْتَسِلُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ
وَفَرْجَهُ وَيُزِيلُ نَجَاسَةً إنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ ) قَالَ فِي
النِّهَايَةِ : وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ الْإِمَامِ حُمَيْدِ الدِّينِ
الضَّرِيرِ ، وَأَنَّهُ أَصَحُّ .
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ :
النَّجَاسَةُ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ إمَّا
أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ أَوْ لِلْجِنْسِ ، لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ ؛
لِأَنَّ كَلِمَةَ الشَّكِّ تَأْبَاهُ ، فَإِنَّ الْعَهْدَ يَقْتَضِي
التَّقَرُّرَ إمَّا ذِكْرًا وَإِمَّا ذِهْنًا ، وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي ؛
لِأَنَّ كَوْنَ النَّجَاسَاتِ كُلِّهَا فِي بَدَنِهِ مُحَالٌ ،
وَأَقَلُّهَا وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ غَيْرُ مُرَادٍ
أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ كَيْ لَا
تَزْدَادَ بِإِصَابَةِ الْمَاءِ ، وَهَذَا الْقَلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ
لَا يَزْدَادُ بِإِصَابَةِ الْمَاءِ ، ثُمَّ قَالَ : إلَّا أَنَّ
الرِّوَايَةَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ قَدْ ثَبَتَتْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ،
فَوَجْهُهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَحْسِينِ النَّظْمِ .
وَقَالَ بَعْضُ
الشَّارِحِينَ : إنَّمَا يَتَعَيَّنُ التَّنْكِيرُ إذَا انْحَصَرَ اللَّامُ
فِي التَّعْرِيفَيْنِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ
اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ
الْمَاهِيَّةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا تُوجَدُ فِي الْخَارِجِ فَإِمَّا أَنْ
تُوجَدَ فِي الْأَقَلِّ أَوْ غَيْرَهُ وَذَلِكَ فَاسِدٌ لِمَا مَرَّ .
قَوْلُهُ
: ( ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ إلَّا رِجْلَيْهِ )
احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّ الْجُنُبَ يَتَوَضَّأُ وَلَا يَمْسَحُ رَأْسَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا
فَائِدَةَ فِيهِ لِوُجُودِ إسَالَةِ الْمَاءِ مِنْ بَعْدِهِ وَذَلِكَ
يَعْدَمُ مَعْنَى الْمَسْحِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ ؛ لِأَنَّ
التَّسْيِيلَ هُوَ الْمَوْجُودُ فَلَمْ يَكُنْ التَّسْيِيلُ مِنْ بَعْدُ
مُعْدِمًا لَهُ .
وَقِيلَ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ دَفْعًا لِمَا
يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُضُوءِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ إلَى
الرُّسْغَيْنِ فَإِنَّهُ قَدْ يُسَمَّى وُضُوءًا .
وَقَوْلُهُ : ( وَيَبْدَأُ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ )
تَكْرَارٌ
، وَأَعَادَهُ لِبَيَانِ التَّعْلِيلِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ
بِهَا النَّجَاسَةَ الْمَعْهُودَةَ فِي ذَلِكَ الْحَالِ وَهُوَ الْمَنِيُّ
الرَّطْبُ ، فَإِنَّ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : {
تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُضُوءَهُ
لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ مِنْ
الْأَذَى } قَوْلُهُ : ( وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ ) هَاهُنَا أَمْرَانِ
نَقْضُ الضَّفَائِرِ ، وَبَلُّهَا .
أَمَّا نَقْضُهَا فَلَيْسَ
بِوَاجِبٍ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ الشَّعْرَ بِالِاتِّفَاقِ ؛ { لِأَنَّهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ حِينَ قَالَتْ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي
أَفَأَنْقُضُهَا إذَا اغْتَسَلْت ؟ فَقَالَ لَهَا : أَمَا يَكْفِيك إذَا
بَلَغَ الْمَاءُ أُصُولَ شَعْرِك } لَا يُقَالُ خَبَرُ وَاحِدٍ فَلَا
تَجُوزُ بِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى قَوْله تَعَالَى { فَاطَّهَّرُوا } ؛
لِأَنَّ الشَّعْرَ لَيْسَ بِبَدَنٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَالْأَمْرُ
بِالتَّطَهُّرِ لَهُ ، أَوْ ؛ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الضَّرُورَةِ
مُسْتَثْنَاةٌ كَدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ ، وَأَمَّا بَلُّهَا فَكَذَلِكَ فِي
الصَّحِيحِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ ؛ وَقَوْلُهُ : ( هُوَ الصَّحِيحُ )
احْتِرَازٌ عَمَّا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَبُلُّ
ذَوَائِبَهَا ثَلَاثًا مَعَ كُلِّ بَلَّةٍ عَصْرَةٌ لِيَبْلُغَ الْمَاءُ
شُعَبَ قُرُونِهَا ، بِخِلَافِ اللِّحْيَةِ فَإِنَّهُ لَا حَرَجَ فِي
إيصَالِ الْمَاءِ إلَى أَثْنَائِهَا .
وَفِي تَخْصِيصِ الْمَرْأَةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ حُكْمَ الرَّجُلِ بِخِلَافِهَا .
قَالَ
فِي الْمَبْسُوطِ : الرَّجُلُ إذَا ضَفَّرَ شَعْرَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ
الْعَلَوِيُّونَ وَالْأَتْرَاكُ هَلْ يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى
أَثْنَاءِ الشَّعْرِ ؟ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا
يَجِبُ ، وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ أَنَّهُ يَجِبُ .
.
قَالَ
( وَالْمَعَانِي الْمُوجِبَةُ لِلْغُسْلِ إنْزَالُ الْمَنِيِّ عَلَى
وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ حَالَةَ
النَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
خُرُوجُ الْمَنِيِّ كَيْفَمَا كَانَ يُوجِبُ الْغُسْلَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ } " أَيْ الْغُسْلُ
مِنْ الْمَنِيِّ ، وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّطْهِيرِ يَتَنَاوَلُ
الْجُنُبَ ، وَالْجَنَابَةُ فِي اللُّغَةِ خُرُوجُ الْمَنِيِّ عَلَى وَجْهِ
الشَّهْوَةِ ، يُقَالُ أَجْنَبَ الرَّجُلُ إذَا قَضَى شَهْوَتَهُ مِنْ
الْمَرْأَةِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى خُرُوجِ الْمَنِيِّ عَنْ
شَهْوَةٍ ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ انْفِصَالُهُ عَنْ مَكَانِهِ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ظُهُورُهُ أَيْضًا اعْتِبَارًا
لِلْخُرُوجِ بِالْمُزَايَلَةِ إذْ الْغُسْلُ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا وَلَهُمَا
أَنَّهُ مَتَى وَجَبَ مِنْ وَجْهٍ فَالِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ .
قَالَ
( وَالْمَعَانِي الْمُوجِبَةُ لِلْغُسْلِ ) أَيْ الْعِلَلُ الْمُوجِبَةُ ،
وَاخْتَارَ لَفْظَ الْمَعَانِي لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْوُضُوءِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَذِهِ مَعَانٍ مُوجِبَةٌ لِلْجَنَابَةِ لَا لِلْغُسْلِ ، فَإِنَّهَا تَنْقُضُهُ فَكَيْفَ تُوجِبُهُ .
وَذَكَرَ
فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ سَبَبَ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ إرَادَةَ
مَا لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْمَشَايِخِ ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْغُسْلَ يَجِبُ إذْ وُجِدَ أَحَدُ
الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ سَوَاءٌ وُجِدَتْ الْإِرَادَةُ أَمْ لَمْ
تُوجَدْ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ : السَّبَبُ الْجَنَابَةُ ،
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ ، وَلَوْ زِيدَ أَوْ مَا فِي
مَعْنَاهَا لَانْدَفَعَ ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْمَعَانِي الْمُوجِبَةُ
عِلَّةَ الْعِلَّةِ .
وَقَوْلُهُ : ( إنْزَالُ الْمَنِيِّ عَلَى وَجْهِ
الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ ) قِيلَ هَذَا اللَّفْظُ بِإِطْلَاقِهِ
يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِاشْتِرَاطِهِ الدَّفْقَ
وَالشَّهْوَةَ حَالَ الْخُرُوجِ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِمَا ؛
لِأَنَّهُمَا مَا اشْتَرَطَا الدَّفْقَ عِنْدَ الْخُرُوجِ حَتَّى قَالَا
يَجِبُ الْغُسْلُ إذَا زَالَ الْمَنِيُّ عَنْ مَكَانِهِ بِشَهْوَةٍ وَإِنْ
خَرَجَ بِغَيْرِ دَفْقٍ ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى قَوْلِهِمْ
فَإِنَّ خُرُوجَ الْمَنِيِّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ
بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ الْغُسْلُ إذَا زَايَلَ الْمَنِيَّ
عَنْ مَكَانِهِ عَنْ شَهْوَةٍ ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ دَفْقٍ فَلَيْسَ
فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُنَافِيهِ وَلَا يَحْصُرُهُ عَلَى
الْأَوَّلِ وَهَذَا جَيِّدٌ ، لَكِنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ يُوهِمُ تَرْكَ
بَعْضِ مُوجِبَاتِهِ عِنْدَهُمَا فِي مَوْضِعِ بَيَانِهَا ، وَرُبَّمَا
يُبَيِّنُ قَوْلَهُ ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ إلَخْ بَعْضَ بَيَانٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : خُرُوجُ
الْمَنِيِّ كَيْفَمَا كَانَ يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ بِشَهْوَةٍ أَوْ
بِحَمْلِ ثَقِيلٍ أَوْ سَقْطَةٍ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
يُوجِبُ الْغُسْلَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
الْمَاءُ
مِنْ الْمَاءِ } أَيْ الْغُسْلُ مِنْ الْمَنِيِّ ، وَلَنَا
أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّطْهِيرِ يَتَنَاوَلُ الْجُنُبَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } وَالْجُنُبُ فِي اللُّغَةِ
مَنْ خَرَجَ مِنْهُ الْمَنِيُّ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ ، يُقَالُ
أَجْنَبَ الرَّجُلُ : إذَا قَضَى شَهْوَتَهُ مِنْ الْمَرْأَةِ ،
فَالْأَمْرُ بِالتَّطْهِيرِ يَتَنَاوَلُ مَنْ خَرَجَ مِنْهُ الْمَنِيُّ
عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ ، وَغَيْرُهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَلَا يُقَاسُ
عَلَيْهِ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ .
وَقَوْلُهُ : مِنْ الْمَرْأَةِ قِيلَ
إنَّمَا ذَكَرَهُ لِيَخْرُجَ قَضَاءُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ فَإِنَّ
قَاضِيَهَا لَا يُسَمَّى جُنُبًا .
وَقِيلَ ذَكَرَهُ اتِّفَاقًا لِوُجُوبِهِ عَلَى الْمُحْتَلِمِ .
وَقِيلَ
الْجَنَابَةُ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعَةٌ لِذَلِكَ ، وَالْمُحْتَلِمُ
وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي بَعْضِ
أَلْفَاظِهَا { أَنَّهَا لَمَّا سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مِثْلَ مَا
يَرَى الرَّجُلُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَتَجِدُ
لِذَلِكَ لَذَّةً ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ : فَلْتَغْتَسِلْ } وَالْحَدِيثُ يَعْنِي قَوْلَهُ { الْمَاءُ
مِنْ الْمَاءِ } مَحْمُولٌ عَلَى خُرُوجِ الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ
تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ الْمَاءِ
يَتَنَاوَلُ الْمَذْيَ وَالْوَدْيَ وَلَيْسَ ثَمَّةَ غُسْلٌ بِالْإِجْمَاعِ
فَيُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ ، وَيُحْمَلُ عَلَى حَالَةِ الشَّهْوَةِ
بِدَلِيلِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ .
وَقَوْلُهُ : ( ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ
) ظَاهِرٌ ، وَثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَنْ أَمْسَكَ ذَكَرَهُ بَعْدَ
الِانْفِصَالِ بِشَهْوَةٍ عَنْ مَكَانِهِ حَتَّى سَكَنَتْ الشَّهْوَةُ
ثُمَّ تَرَكَ حَتَّى خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنْ إحْلِيلِهِ بِلَا شَهْوَةٍ لَا
يَجِبُ الْغُسْلُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، هُوَ قَاسَ الْخُرُوجَ
بِالْمُزَايَلَةِ بِجَامِعِ تَعَلُّقِ الْغُسْلِ بِهِمَا ( وَلَهُمَا
أَنَّهُ مَتَى وَجَبَ مِنْ وَجْهٍ ) مَعْنَاهُ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ
لِلشَّهْوَةِ مَدْخَلًا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِي
حَالَةٍ وَهُوَ
الِانْفِصَالُ دُونَ الْأُخْرَى وَهُوَ الْخُرُوجُ ،
فَبِالنَّظَرِ إلَى الْأَوَّلِ يَجِبُ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الثَّانِي لَا
يَجِبُ ، وَالْبَابُ بَابُ الْعِبَادَاتِ فَنُوجِبُهُ احْتِيَاطًا وَقَدْ
وَقَعَ فِي النِّهَايَةِ فِي بَيَانِ ذَلِكَ أَنَّ الْخُرُوجَ عَلَى وَجْهِ
الشَّهْوَةِ قَدْ وُجِدَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَهْوٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ كَذَلِكَ لَارْتَفَعَ النِّزَاعُ .
فَإِنْ قِيلَ دَارَ الْغُسْلُ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ فَلَا يَجِبُ كَمَا إذَا خَرَجَ الرِّيحُ مِنْ الْمُفْضَاةِ .
أُجِيبَ
بِأَنَّ جِهَةَ الْوُجُوبِ هُنَا رَاجِحَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ أَصْلٌ ،
إذْ الْخُرُوجُ بِنَاءٌ عَلَى الْمُزَايَلَةِ بِالشَّهْوَةِ وَعَدَمُ
الْخُرُوجِ بِالشَّهْوَةِ بَعْدَ الْمُزَايَلَةِ مِنْ الْعَوَارِضِ
النَّادِرَةِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ ، قِيلَ وَقَوْلُهُ : قِيَاسٌ
وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ وَالْخَائِفُ مِنْ الرِّيبَةِ يَأْخُذُ
بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
( وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَتَوَارَتْ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ ، أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ } " وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الْإِنْزَالِ وَنَفْسُهُ يَتَغَيَّبُ عَنْ بَصَرِهِ وَقَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ لِقِلَّتِهِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ ، وَكَذَا الْإِيلَاجُ فِي الدُّبُرِ لِكَمَالِ السَّبَبِيَّةِ ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ احْتِيَاطًا ، بِخِلَافِ الْبَهِيمَةِ وَمَا دُونَ الْفَرْجِ لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ نَاقِصَةٌ .
وَقَوْلُهُ : (
وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ ) الْخِتَانُ مَوْضِعُ الْقَطْعِ مِنْ
الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَمِنْ عَادَتِهِمْ خِتَانُ الْأُنْثَى .
وَقَوْلُهُ
: ( مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ ) لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْغُسْلِ ،
فَإِنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ وَجَبَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ
نَفْيًا لِقَوْلِ الْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ
قَالُوا لَا يَجِبُ الْغُسْلُ بِالْإِكْسَالِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ }
وَلَنَا قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا الْتَقَى
الْخِتَانَانِ وَتَوَارَتْ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ ، أَنْزَلَ أَوْ
لَمْ يُنْزِلْ } وَهَذَا مُفَسَّرٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا يَقْبَلُ
التَّأْوِيلَ ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فَنَعْمَلُ بِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَنَقُولُ الْجَنَابَةُ تَثْبُتُ بِانْفِصَالِ
الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ بِقَوْلِهِ { الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ } لِمَا
ذَكَرْنَا مِنْ تَأْوِيلِهِ ، وَبِالْإِيلَاجِ فِي الْآدَمِيِّ بِقَوْلِهِ {
إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ } الْحَدِيثَ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا
الْحَدِيثَ فِي التَّقْرِيرِ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ .
وَفِي قَوْلِهِ (
وَتَوَارَتْ الْحَشَفَةُ إشَارَةٌ ) إلَى أَنَّ مُجَرَّدَ التَّلَاقِي لَا
يُوجِبُهُ ، وَلَكِنْ يُوجِبُ الْوُضُوءَ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ
.
وَالْحَشَفَةُ مَا فَوْقَ الْخِتَانِ مِنْ رَأْسِ الذَّكَرِ .
وَقَوْلُهُ
: ( وَلِأَنَّهُ سَبَبُ الْإِنْزَالِ ) بَيَانُهُ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ إذَا كَانَ خَفِيًّا وَلَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ ،
يُقَامُ ذَلِكَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَفِيِّ
، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ ، وَهَاهُنَا الْتِقَاءُ
الْخِتَانَيْنِ سَبَبُ الْإِنْزَالِ ، وَنَفْسُ الْإِنْزَالِ الَّذِي
تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ يَتَغَيَّبُ عَنْ بَصَرِ الْمُنْزِلِ ،
وَقَدْ يَخْفَى الْإِنْزَالُ لِقِلَّةِ الْمَنِيِّ فَيُقَامُ الِالْتِقَاءُ
مَقَامَ الْإِنْزَالِ كَمَا فِي السَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ .
وَالِالْتِقَاءُ مَجَازٌ لِلْإِيلَاجِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ ،
وَكَذَا
الْإِيلَاجُ فِي الدُّبُرِ لِكَمَالِ السَّبَبِيَّةِ حَتَّى إنَّ بَعْضَ
الْفَسَقَةِ يُرَجِّحُونَ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ فِي الدُّبُرِ عَلَى قَضَاءِ
الشَّهْوَةِ فِي الْقُبُلِ لِمَا يَدَّعُونَ فِيهِ مِنْ اللِّينِ
وَالْحَرَارَةِ وَالضِّيقِ ، وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ
مُحَاذَاةَ الْأَمْرَدِ فِي الصَّلَاةِ تُفْسِدُ صَلَاةَ غَيْرِهِ
كَالْمَرْأَةِ ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ احْتِيَاطًا أَمَّا
عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُمَا يُوجِبَانِ الْحَدَّ
الَّذِي فِيهِ لِلِاحْتِيَاطِ فِي تَرْكِهِ فَلَأَنْ يُوجِبَا الْغُسْلَ
الَّذِي الِاحْتِيَاطُ فِي وُجُوبِهِ أَوْلَى ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّهُ يُحْتَاطُ فِي الْحَدِّ
فَيَتْرُكُهُ وَيُحْتَاطُ فِي الْغُسْلِ فَيُوجِبُهُ ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي
كُلِّ بَابٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ .
وَقَوْلُهُ : ( بِخِلَافِ
الْبَهِيمَةِ وَمَا دُونَ الْفَرْجِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ فَيُقَامُ
مَقَامَهُ : أَيْ يُقَامُ سَبَبُ الْإِنْزَالِ مَقَامَهُ فِي
السَّبِيلَيْنِ فِي الْآدَمِيِّ ، بِخِلَافِ الْبَهِيمَةِ فَإِنَّهُ لَا
يَجِبُ فِيهَا الْغُسْلُ بِمُجَرَّدِ الْإِيلَاجِ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ ،
وَبِخِلَافِ مَا دُونَ الْفَرْجِ وَهُوَ التَّفْخِيذُ وَالتَّبْطِينُ
فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْغُسْلُ أَيْضًا لِنُقْصَانِ السَّبَبِيَّةِ
إذَا لَمْ يُنْزِلْ .
قَالَ ( وَالْحَيْضُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { حَتَّى يَطَّهَّرْنَ } بِالتَّشْدِيدِ ( وَ ) كَذَا ( النِّفَاسُ ) لِلْإِجْمَاعِ .
قَالَ
( وَالْحَيْضُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { حَتَّى يَطْهُرْنَ } اخْتَلَفَ
الشَّارِحُونَ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى
ظَاهِرِهِ وَقَالَ : نَفْسُ الْحَيْضِ يُوجِبُ الْغُسْلَ ؛ لِأَنَّهُ فِي
مَعْنَى الْجَنَابَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَنْعُ عَنْ الصَّلَاةِ
وَالْقِرَاءَةِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى
أَنَّ مَعْنَاهُ انْقِطَاعُ الْحَيْضِ يُوجِبُ الْغُسْلَ ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَجِبُ إلَّا عِنْدَ انْقِطَاعِهِ وَقَالَ : ؛ لِأَنَّهُ يُلَازِمُهُ ،
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْ
الْحَيْضِ يُوجِبُ الْغُسْلَ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ مَا دَامَ بَاقِيًا لَا
يَجِبُ الْغُسْلُ ، وَالْخُرُوجُ عَنْ الْحَيْضِ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ
فَوُجِدَ الِاتِّصَالُ فَصَحَّتْ الِاسْتِعَارَةُ ، وَعُزِيَ هَذَا إلَى
الْإِمَامِ حُمَيْدِ الدِّينِ ، وَفِي الْكُلِّ نَظَرٌ .
أَمَّا فِي
الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْحَيْضَ اسْمٌ لِلدَّمِ مَخْصُوصٌ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ أَنَّ الْجَوْهَرَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْمَعْنَى
، وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ الِانْقِطَاعَ طُهْرٌ وَالطُّهْرُ لَا
يُوجِبُ الْإِطْهَارَ ، وَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهُمَا لِوُجُودِ
الْحَيْضِ قَبْلَ الِانْقِطَاعِ وَوُجُودِ الِانْقِطَاعِ بَعْدَهُ فَكَانَ
أَحَدُهُمَا مُنْفَكًّا عَنْ الْآخَرِ فَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهُمَا ،
عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ انْقِطَاعِهِ يُفِيدُ
الشَّرْطِيَّةَ لَا الْعِلِّيَّةَ ، وَكَذَا الْخُرُوجُ عَنْ الْحَيْضِ
عِبَارَةٌ عَنْ انْقِطَاعِهِ فَيَرِدُ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا وَرَدَ عَلَى
ذَلِكَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : مَعْنَاهُ خُرُوجُ الْحَيْضِ وَهُوَ
الدَّمُ الْمَخْصُوصُ يُوجِبُ الْغُسْلَ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ خُرُوجَ
النَّجَسِ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ يُوجِبُ تَطْهِيرَ جَمِيعِ الْبَدَنِ ،
وَاكْتَفَى بِالْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِيمَا كَثُرَ وُقُوعُهُ دَفْعًا
لِلْحَرَجِ ، وَوُقُوعُ الْحَيْضِ لَيْسَ بِكَثِيرٍ فَبَقِيَ عَلَى
الْأَصْلِ كَخُرُوجِ الْمَنِيِّ فَكَانَ مَجَازًا بِالْحَذْفِ مِنْ بَابِ {
وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } إذْ لَا يَلْتَبِسُ أَنَّ نَفْسَ الدَّمِ لَا
يُوجِبُ شَيْئًا .
وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
حَتَّى
يَطَّهَّرْنَ } بِالتَّشْدِيدِ عَلَى وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ ، أَمَّا
بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقُرْبَانِ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى غَيًّا حُرْمَةَ
الْقُرْبَانِ الَّذِي كَانَ حَلَالًا إلَى الِاغْتِسَالِ ، فَيَنْبَغِي
أَنْ تَنْتَهِيَ الْحُرْمَةُ بِهِ وَيَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ ، وَإِلَّا
لَكَانَتْ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً ، وَفِي ذَلِكَ نَقْضٌ لِمَا شَرَعَهُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمْ اللَّهُ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ } وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّلَاةِ فَلِأَنَّ
الِاغْتِسَالَ لَمَّا صَارَ شَرْطًا لِحِلِّ الْقُرْبَانِ بِهَذِهِ
الْآيَةِ مَعَ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِحِلِّ الْقُرْبَانِ
عَمَّا سِوَى الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ فَلَأَنْ
يُشْتَرَطَ الِاغْتِسَالُ لِحِلِّ الصَّلَاةِ وَالْحَالُ أَنَّهَا شَرْطٌ
لَهَا عَنْ جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْحُكْمِيَّةِ
دَائِمًا أَوْلَى .
وَأَمَّا النِّفَاسُ فَإِنَّمَا وَجَبَ الِاغْتِسَالُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ .
قَالَ
{ وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُسْلَ
لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَعَرَفَةَ وَالْإِحْرَامِ } نَصَّ عَلَى
السُّنِّيَّةِ ، وَقِيلَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ ، وَسَمَّى
مُحَمَّدٌ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَسَنًا فِي الْأَصْلِ .
وَقَالَ
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُوَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } " .
وَلَنَا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ } "
وَبِهَذَا يُحْمَلُ مَا رَوَاهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوْ عَلَى
النَّسْخِ ، ثُمَّ هَذَا الْغُسْلُ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ لِزِيَادَةِ فَضِيلَتِهَا عَلَى
الْوَقْتِ وَاخْتِصَاصِ الطَّهَارَةِ بِهَا ، وَفِيهِ خِلَافُ الْحَسَنِ ،
وَالْعِيدَانِ بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ فِيهِمَا الِاجْتِمَاعُ
فَيُسْتَحَبُّ الِاغْتِسَالُ دَفْعًا لِلتَّأَذِّي بِالرَّائِحَةِ .
وَأَمَّا فِي عَرَفَةَ وَالْإِحْرَامِ فَسَنُبَيِّنُهُ فِي الْمَنَاسِكِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَوْلُهُ
: ( وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) بَيَانٌ
لِلْغُسْلِ الْمَسْنُونِ ( نَصَّ ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ ( عَلَى
السُّنِّيَّةِ ) يَعْنِي فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَقَدْ قِيلَ هَذِهِ
الْأَرْبَعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَسْمِيَةُ مُحَمَّدٍ
الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْأَصْلِ حَسَنًا وَهُوَ أَقْوَاهُمْ
حَيْثُ ذَهَبَ إلَى وُجُوبِهِ مَالِكٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَنْ أَتَى مِنْكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ } رَوَاهُ
ابْنُ عُمَرَ .
وَلَنَا قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ اغْتَسَلَ
فَهُوَ أَفْضَلُ } رَوَاهُ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ ، وَقَوْلُهُ : فَبِهَا
وَنِعْمَتْ أَيْ بِالسُّنَّةِ أَخَذَ وَنِعْمَتْ الْخَصْلَةُ هَذِهِ أَيْ
الْأَخْذُ بِالسُّنَّةِ ( وَبِهَذَا ) أَيْ بِهَذَا الْحَدِيثِ ( يُحْمَلُ
مَا رَوَاهُ ) مَالِكٌ ( عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ) تَوْفِيقًا بَيْنَهُمَا (
أَوْ عَلَى النُّسَخِ ) بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمَا قَالَا : كَانَ النَّاسُ
عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ وَكَانُوا يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَيَعْرَقُونَ فِيهِ
وَالْمَسْجِدُ قَرِيبُ السَّمْكِ فَكَانَ يَتَأَذَّى بَعْضُهُمْ
بِرَائِحَةِ بَعْضٍ فَأُمِرُوا بِالِاغْتِسَالِ ثُمَّ انْتَسَخَ حِينَ
لَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِأَنْفُسِهِمْ .
وَقَوْلُهُ
: ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْحَسَنِ فَإِنَّهُ
يَقُولُ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِلْيَوْمِ إظْهَارًا لِفَضِيلَتِهِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { سَيِّدُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ } .
وَمَعْنَى
قَوْلِهِ ( لِزِيَادَةِ فَضِيلَتِهَا ) ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِجَمْعٍ
عَظِيمٍ فَلَهَا مِنْ الْفَضِيلَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا ، وَسِيَادَةُ
الْيَوْمِ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِ هَذِهِ الصَّلَاةِ فِيهِ .
وَفَائِدَةُ
الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَحْدَثَ
فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الْجُمُعَةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقِيمٍ لِلسُّنَّةِ
عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِلْحَسَنِ ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ
الرِّوَايَاتِ
ذِكْرُ مُحَمَّدٍ فِي مَوْضِعِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ ( وَالْعِيدَانِ بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا الِاجْتِمَاعَ فَيُسْتَحَبُّ الِاغْتِسَالُ دَفْعًا لِلتَّأَذِّي بِالرَّائِحَةِ ، وَأَمَّا فِي عَرَفَةَ وَالْإِحْرَامِ فَسَنُبَيِّنُهُ فِي الْمَنَاسِكِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) ، .
قَالَ ( وَلَيْسَ
فِي الْمَذْيِ وَالْوَدْيِ غُسْلٌ وَفِيهِمَا الْوُضُوءُ ) لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي وَفِيهِ
الْوُضُوءُ } " وَالْوَدْيُ : الْغَلِيظُ مِنْ الْبَوْلِ يَتَعَقَّبُ
الرَّقِيقَ مِنْهُ خُرُوجًا فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا بِهِ ، وَالْمَنِيُّ :
خَاثِرٌ أَبْيَضُ يَنْكَسِرُ مِنْهُ الذَّكَرُ ، وَالْمَذْيُ : رَقِيقٌ
يَضْرِبُ إلَى الْبَيَاضِ يَخْرُجُ عِنْدَ مُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ .
وَالتَّفْسِيرُ مَأْثُورٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا .
.
وَلَيْسَ
فِي الْمَذْيِ وَالْوَدْيِ غُسْلٌ وَفِيهِمَا الْوُضُوءُ ( لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي وَفِيهِ
الْوُضُوءُ } ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .
فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ الْوَاجِبُ الْوُضُوءَ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَذْكُرَهُمَا فِي فَصْلِ الْوُضُوءِ .
أُجِيبَ
بِأَنَّهُمَا يُشَابِهَانِ الْمَنِيَّ فَذَكَرَهُمَا فِي فَصْلِ الْغُسْلِ
، وَالْأَوْجُهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّمَا ذَكَرَهُمَا هُنَا ؛ لِأَنَّ
أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ فِي رِوَايَةٍ ،
فَذَكَرَهُمَا هُنَا نَفْيًا لِمَا يَقُولُهُ .
فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ
حُكْمُهُ الْوُضُوءَ كَانَ ذِكْرُهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ ؛
لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ كُلُّ مَا خَرَجَ مِنْ
السَّبِيلَيْنِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذِكْرَهُ لِلتَّأْكِيدِ ، وَقِيلَ
ذَكَرَهُ تَصْرِيحًا بِالنَّفْيِ لِقَوْلِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ
بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ بِهِمَا .
فَإِنْ قِيلَ نَقْضُ الْوُضُوءِ
بِالْوَدْيِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ فِي
الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ عَلَى أَثَرِ الْبَوْلِ وَقَدْ
وَجَبَ الْوُضُوءُ بِالْبَوْلِ قَبْلَهُ فَلَا يَجِبُ بِالْوَدْيِ بَعْدَهُ
.
أُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا أَنَّهُ إذَا بَالَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ
أَوْدَى فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ ، وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ بِهِ
سَلَسُ الْبَوْلِ إذَا تَوَضَّأَ لِلْبَوْلِ ثُمَّ أَوْدَى حَالَةَ
بَقَاءِ الْوَقْتِ تَنْتَقِضُ طَهَارَتُهُ ، وَمِنْهَا أَنَّ الْوُضُوءَ
يَجِبُ فِي الْوَدْيِ لَوْ تُصُوِّرَ الِانْتِقَاضُ بِهِ ، وَفِيهِ ضَعْفٌ ،
وَالتَّفْسِيرُ مَأْثُورٌ عَنْ عَائِشَةَ ، وَإِنَّمَا مُرَادُهَا مَنِيُّ
الرَّجُلِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ لَيْسَ خَاثِرًا وَلَا
أَبْيَضَ وَإِنَّمَا هُوَ رَقِيقٌ أَصْفَرُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ،
وَلَيْسَ يَنْكَسِرُ مِنْهُ الذَّكَرُ ، وَالتَّعْرِيفُ الْجَامِعُ
لِمَنِيِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَنْ يُقَالَ : مَاءٌ دَافِقٌ يَخْرُجُ
مِنْ بَيْنِ صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ .
بَابُ الْمَاءِ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ الْوُضُوءُ وَمَا لَا يَجُوزُ : ( الطَّهَارَةُ مِنْ الْأَحْدَاثِ جَائِزَةٌ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَالْبِحَارِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ } " وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَحْرِ { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ } " وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَنْطَلِقُ عَلَى هَذِهِ الْمِيَاهِ .
بَابُ الْمَاءِ الَّذِي
يَجُوزُ بِهِ الْوُضُوءُ وَمَا لَا يَجُوزُ : مَعْنَى الْبَابِ فِي
اللُّغَةِ النَّوْعُ ، وَقَدْ يُعَرَّفُ بِأَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ
الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا كِتَابٌ وَلُقِّبَتْ
بِبَابِ كَذَا .
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الطَّهَارَتَيْنِ ذَكَرَ
مَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ وَهُوَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ الطَّهَارَةُ
مِنْ الْأَحْدَاثِ غَلِيظًا كَانَ الْحَدَثُ أَوْ خَفِيفًا ( جَائِزَةٌ
بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَالْبِحَارِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا }
وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا
يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } الْحَدِيثَ .
وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى ذَكَرَ الْمَاءَ فِي الْآيَةِ مُطْلَقًا ، وَالْمُطْلَقُ مَا
يَتَعَرَّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَنْطَلِقُ
عَلَى هَذِهِ الْمِيَاهِ .
لَا يُقَالُ : الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ طَهُورٌ وَلَيْسَ غَيْرُ الْمَطَرِ
مُنَزَّلًا مِنْ السَّمَاءِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الْأَرْضِ } وَقَالَ { أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ
أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ ،
وَذِكْرُ الْأَحْدَاثِ لَيْسَ لِلتَّخْصِيصِ ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ
الْخَبَثِ أَيْضًا تَحْصُلُ بِهَذِهِ الْمِيَاهِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ
التَّبْوِيبُ لِمَاءٍ يَحْصُلُ بِهِ الْوُضُوءُ ذَكَرَ ذَلِكَ .
قَالَ
( وَلَا يَجُوزُ بِمَا اُعْتُصِرَ مِنْ الشَّجَرِ وَالثَّمَرِ ) لِأَنَّهُ
لَيْسَ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ وَالْحُكْمُ عِنْدَ فَقْدِهِ مَنْقُولٌ إلَى
التَّيَمُّمِ وَالْوَظِيفَةُ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ تَعَبُّدِيَّةٌ فَلَا
تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْمَاءُ
الَّذِي يَقْطُرُ مِنْ الْكَرْمِ فَيَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ لِأَنَّهُ
مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ عِلَاجٍ ، ذَكَرَهُ فِي جَوَامِعِ أَبِي
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَفِي الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَيْهِ حَيْثُ شَرَطَ الِاعْتِصَارَ .
قَوْلُهُ
: ( وَلَا يَجُوزُ بِمَا اُعْتُصِرَ ) بِالْقَصْرِ عَلَى أَنَّهَا
مَوْصُولَةٌ هَكَذَا الْمَسْمُوعُ وَقَوْلُهُ : ( ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
بِمَاءٍ مُطْلَقٍ ) ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ إطْلَاقِ الْمَاءِ لَا يَنْطَلِقُ
عَلَيْهِ ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا فِي بَيْتِ إنْسَانٍ
مَاءُ بِئْرٍ أَوْ بَحْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ مَاءٌ اُعْتُصِرَ مِنْ شَجَرٍ
أَوْ ثَمَرٍ فَقِيلَ لَهُ هَاتِ مَاءً لَا يَسْبِقُ إلَى ذِهْنِ
الْمُخَاطَبِ إلَّا الْأَوَّلُ ، وَلَا نَعْنِي بِالْمُطْلَقِ
وَالْمُقَيَّدِ إلَّا هَذَا ( وَالْحُكْمُ ) وَهُوَ الطَّهَارَةُ ( عِنْدَ
فَقْدِهِ ) أَيْ فَقْدِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ ( مَنْقُولٌ إلَى
التَّيَمُّمِ ) قَالَ تَعَالَى { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا }
وَقَوْلُهُ : ( وَالْوَظِيفَةُ إلَخْ ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْمَاءُ
الْمُعْتَصَرُ مِنْ الشَّجَرِ أَوْ الثَّمَرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاءً
مُطْلَقًا لَكِنَّهُ فِي مَعْنَاهُ فِي الْإِزَالَةِ فَيَلْحَقُ
بِالْمُطْلَقِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَظِيفَةَ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ
تَعَبُّدِيَّةٌ فَلَا تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ،
وَمَعْنَاهُ أَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ أَلَّا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ
مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ ، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ
فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ ، بِخِلَافِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ
الْحَقِيقِيَّةِ فَإِنَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى لِوُجُودِهَا حِسًّا
فَجَازَ فِيهَا الْإِلْحَاقُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَبْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعْدِيَةُ
بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فَلْيَلْحَقْ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّ
كَوْنَهُ مَعْقُولًا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ
سَائِرَ الْمَائِعَاتِ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛
لِأَنَّ الْمَاءَ مَبْذُولٌ عَادَةً لَا يُبَالَى بِحَبْسِهِ وَسَائِرُ
الْمَائِعَاتِ لَيْسَ كَذَلِكَ .
فَإِنْ قُلْت : فَكَيْفَ أَلْحَقْته
بِهِ فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ؟ قُلْت : قِيَاسًا لَا دَلَالَةً ؛
لِأَنَّهُ مَعْقُولُ الْمَعْنَى .
فَإِنْ قُلْت : مِنْ شَرْطِ الدَّلَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُلْحَقُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ
الْحُكْمِ
مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا غَيْرُ ، وَالْوَصْفُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ
إزَالَةُ النَّجَاسَةِ ، وَالْمَاءُ وَالْمَائِعُ سِيَّانِ فِي ذَلِكَ ،
وَكَوْنُ الْمَاءِ مَبْذُولًا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ .
قُلْت :
إنَّهُمَا سِيَّانِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوْ
مُطْلَقًا ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ وَالثَّانِي
مَمْنُوعٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَفِي الْكِتَابِ ) يَعْنِي مُخْتَصَرَ الْقُدُورِيِّ .
قَالَ
( وَلَا ) يَجُوزُ ( بِمَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَأَخْرَجَهُ عَنْ
طَبْعِ الْمَاءِ كَالْأَشْرِبَةِ وَالْخَلِّ وَمَاءِ الْبَاقِلَّا
وَالْمَرَقِ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَمَاءِ الزَّرْدَجِ ) لِأَنَّهُ لَا
يُسَمَّى مَاءً مُطْلَقًا ، وَالْمُرَادُ بِمَاءِ الْبَاقِلَّا وَغَيْرِهِ
مَا تَغَيَّرَ بِالطَّبْخِ ، فَإِنْ تَغَيَّرَ بِدُونِ الطَّبْخِ يَجُوزُ
التَّوَضُّؤُ بِهِ .وَقَوْلُهُ : ( فَأَخْرَجَهُ عَنْ طَبْعِ الْمَاءِ )
كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ .
وَقَوْلُهُ : (
كَالْأَشْرِبَةِ إلَخْ ) إنْ أَرَادَ بِهَا الْأَشْرِبَةَ الْمُتَّخَذَةَ
مِنْ الشَّجَرِ كَشَرَابِ الرُّمَّانِ وَالْحُمَاضِ ، وَبِالْخَلِّ
الْخَلَّ الْخَالِصَ كَانَا مِنْ نَظِيرِ الْمُعْتَصَرِ مِنْ الشَّجَرِ
وَالثَّمَرِ ، وَكَانَ مَاءُ الْبَاقِلَّا وَالْمَرَقِ نَظِيرَ الْمَاءِ
الَّذِي غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَكَانَ فِيهِ صَنْعَةُ اللَّفِّ
وَالنَّشْرِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْأَشْرِبَةِ الْحُلْوَ الْمَخْلُوطَ
بِالْمَاءِ كَالدِّبْسِ وَالشَّهْدِ الْمَخْلُوطِ بِهِ وَمِنْ الْخَلِّ
الْخَلَّ الْمَخْلُوطَ بِالْمَاءِ كَانَتْ الْأَرْبَعَةُ كُلُّهَا نَظِيرَ
الْمَاءِ الَّذِي غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ .
وَالْبَاقِلَّا إذَا شُدِّدَتْ اللَّامُ فَهُوَ مَقْصُورٌ وَإِذَا خُفِّفَتْ فَمَمْدُودٌ .
وَمَاءُ الزَّرْدَجِ هُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْعُصْفُرِ الْمَنْقُوعِ .
وَقَوْلُهُ : ( مَا تَغَيَّرَ بِالطَّبْخِ ) قِيلَ الْمُرَادُ بِالتَّغَيُّرِ الثُّخُونَةُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَرَقًا .
قَالَ
( وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِمَاءٍ خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ فَغَيَّرَ
أَحَدَ أَوْصَافِهِ ، كَمَاءِ الْمَدِّ وَالْمَاءِ الَّذِي اخْتَلَطَ بِهِ
اللَّبَنُ أَوْ الزَّعْفَرَانُ أَوْ الصَّابُونُ أَوْ الْأُشْنَانُ ) قَالَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ : أَجْرَى فِي الْمُخْتَصَرِ مَاءَ الزَّرْدَجِ
مَجْرَى الْمَرَقِ ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَاءِ الزَّعْفَرَانِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، كَذَا
اخْتَارَهُ النَّاطِفِيُّ وَالْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِمَاءِ
الزَّعْفَرَانِ وَأَشْبَاهِهِ مِمَّا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ
لِأَنَّهُ مَاءٌ مُقَيَّدٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ مَاءُ
الزَّعْفَرَانِ بِخِلَافِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا
يَخْلُو عَنْهَا عَادَةً وَلَنَا أَنَّ اسْمَ الْمَاءِ بَاقٍ عَلَى
الْإِطْلَاقِ أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ اسْمٌ عَلَى
حِدَةٍ وَإِضَافَتُهُ إلَى الزَّعْفَرَانِ كَإِضَافَتِهِ إلَى الْبِئْرِ
وَالْعَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْخَلْطَ الْقَلِيلَ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ
لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ كَمَا فِي أَجْزَاءِ الْأَرْضِ
فَيُعْتَبَرُ الْغَالِبُ ، وَالْغَلَبَةُ بِالْأَجْزَاءِ لَا بِتَغَيُّرِ
اللَّوْنِ هُوَ الصَّحِيحُ ، فَإِنْ تَغَيَّرَ بِالطَّبْخِ بَعْدَمَا
خُلِطَ بِهِ غَيْرُهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ
فِي مَعْنَى الْمُنَزَّلِ مِنْ السَّمَاءِ إذْ النَّارُ غَيَّرَتْهُ إلَّا
إذَا طُبِخَ فِيهِ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّظَافَةِ
كَالْأُشْنَانِ وَنَحْوِهِ ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يُغْسَلُ بِالْمَاءِ
الَّذِي أُغْلِيَ بِالسِّدْرِ ، بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ ، إلَّا أَنْ
يَغْلِبَ ذَلِكَ عَلَى الْمَاءِ فَيَصِيرَ كَالسَّوِيقِ الْمَخْلُوطِ
لِزَوَالِ اسْمِ الْمَاءِ عَنْهُ .
قَوْلُهُ : ( فَغَيَّرَ أَحَدَ
أَوْصَافِهِ ) الَّتِي هِيَ الطَّعْمُ وَاللَّوْنُ ، وَالرِّيحُ إشَارَةٌ
إلَى أَنَّهُ إذَا غَيَّرَ الْوَصْفَيْنِ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ .
قَالَ
فِي النِّهَايَةِ : لَكِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْأَسَاتِذَةِ أَنَّهُ
يَجُوزُ حَتَّى إنَّ أَوْرَاقَ الْأَشْجَارِ وَقْتَ الْخَرِيفِ تَقَعُ فِي
الْحِيَاضِ فَيَتَغَيَّرُ مَاؤُهَا مِنْ حَيْثُ اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ
وَالرَّائِحَةُ ثُمَّ إنَّهُمْ يَتَوَضَّئُونَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ
، وَكَذَا أَشَارَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ إلَيْهِ وَلَكِنَّ شَرْطَهُ
أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى رِقَّتِهِ ، أَمَّا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ
غَيْرُهُ فَصَارَ بِهِ ثَخِينًا فَلَا يَجُوزُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ
تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
إلَّا مَا غُيِّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ } وَذَلِكَ
يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ التَّوَضُّؤِ عِنْدَ تَغَيُّرِ أَحَدِ
الْأَوْصَافِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } أَيْ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ
نَجِسٌ وَكَلَامُنَا فِي الْمُخْتَلَطِ الطَّاهِرِ .
وَقَوْلُهُ : (
أَجْرَى فِي الْمُخْتَصَرِ مَاءَ الزَّرْدَجِ مَجْرَى الْمَرَقِ ) أَيْ فِي
عَدَمِ جَوَازِ التَّوَضُّؤِ بِهِمَا ( وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ
أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَاءِ الزَّعْفَرَانِ ) وَسَنَذْكُرُ حُكْمَهُ
وَقَوْلُهُ : ( وَهُوَ الصَّحِيحُ ) ؛ لِأَنَّهُ خَالَطَهُ طَاهِرٌ
فَغَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِهِ كَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ
مَا ذُكِرَ فِي الْمُخْتَصَرِ إنْ كَانَ عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا يُفْهَمُ
مِنْ ظَاهِرِ لَفْظِهِ كَانَ بَيْنَ رِوَايَةِ الْمُخْتَصَرِ
وَالْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ خِلَافٌ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ
مَا إذَا كَانَ الْمَاءُ مَغْلُوبًا بِأَجْزَاءِ الزَّرْدَجِ فَلَا
خِلَافَ بَيْنَهُمَا ، وَالْإِمَامُ النَّاطِفِيُّ وَالسَّرَخْسِيُّ
اخْتَارَ الْمَرْوِيَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ ) ظَاهِرٌ ، وَقَوْلُهُ : ( وَإِضَافَتُهُ إلَى
الزَّعْفَرَانِ كَإِضَافَتِهِ إلَى الْبِئْرِ ) يَعْنِي أَنَّهَا
لِلتَّعْرِيفِ لَا لِلتَّقْيِيدِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ
الْمُضَافَ
إذَا لَمْ يَكُنْ خَارِجًا مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ بِالْعِلَاجِ
فَالْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ ، وَمَاءُ الزَّعْفَرَانِ وَمَاءُ الْبِئْرِ
وَمَاءُ الْعَيْنِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنْهُ
فَهِيَ التَّقْيِيدُ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ،
فَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ لِلْخَلْطِ ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَلَبَةُ
بِالْأَجْزَاءِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَجْزَاءُ الْمَاءِ غَالِبَةً وَيُعْلَمُ
ذَلِكَ بِبَقَائِهِ عَلَى رِقَّتِهِ جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ ، وَإِنْ
كَانَتْ أَجْزَاءُ الْمَخْلُوطِ غَالِبَةً بِأَنْ صَارَ ثَخِينًا زَالَ
عَنْهُ رِقَّتُهُ الْأَصْلِيَّةُ لَمْ يَجُزْ .
وَقَوْلُهُ : ( هُوَ
الصَّحِيحُ ) نَفْيٌ لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ الْغَلَبَةَ
بِتَغَيُّرِ اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا قِيلَ
الطَّاهِرُ الْمَخْلُوطُ بِالْمَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَوْنُهُ كَلَوْنِ
الْمَاءِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَاللَّبَنِ وَالزَّعْفَرَانِ
وَالْعُصْفُرِ فَالْعِبْرَةُ لِلَّوْنِ ، فَإِنْ غَلَبَ لَوْنُ الْمَاءِ
جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ لَمْ يَجُزْ ، فَإِنْ كَانَ
الْأَوَّلُ كَمَاءِ الْبِطِّيخِ وَالْأَشْجَارِ فَالْعِبْرَةُ لِلطَّعْمِ
عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَعْمٌ فَالْعِبْرَةُ
لِكَثْرَةِ الْأَجْزَاءِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَوَّلُ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ
الْغَلَبَةَ بِالْأَجْزَاءِ غَلَبَةٌ حَقِيقِيَّةٌ ، إذْ وُجُودُ
الشَّيْءِ الْمُرَكَّبِ بِأَجْزَائِهِ فَكَانَ اعْتِبَارُهَا أَوْلَى .
وَقَوْلُهُ
: ( بَعْدَمَا خُلِطَ بِهِ غَيْرُهُ ) إنَّمَا قُيِّدَ بِهِ ؛ لِأَنَّ
الْمَاءَ إذَا طُبِخَ وَحْدَهُ وَتَغَيَّرَ جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ .
وَقَوْلُهُ
: ( إلَّا إذَا طُبِخَ فِيهِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ
التَّوَضُّؤُ بِهِ ، وَإِنَّمَا جَازَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ
وَرَدَتْ بِهِ فِي غُسْلِ الْمَوْتَى بِالْمَاءِ الَّذِي أُغْلِيَ
بِالسِّدْرِ إلَّا إذَا صَارَ غَلِيظًا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَسْيِيلُهُ
عَلَى الْعُضْوِ لِزَوَالِ اسْمِ الْمَاءِ عَنْهُ .
( وَكُلُّ مَاءٍ
وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ لَمْ يَجُزْ الْوُضُوءُ بِهِ قَلِيلًا كَانَتْ
النَّجَاسَةُ أَوْ كَثِيرًا ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجُوزُ
مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ لِمَا رَوَيْنَا .
وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجُوزُ إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ
قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا } " وَلَنَا حَدِيثُ الْمُسْتَيْقِظِ
مِنْ مَنَامِهِ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا
يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ
مِنْ الْجَنَابَةِ } " مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَاَلَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَدَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ وَمَاؤُهَا كَانَ جَارِيًا
فِي الْبَسَاتِينِ ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُد ، وَهُوَ يَضْعُفُ عَنْ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ .
قَالَ
( وَكُلُّ مَاءٍ وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ لَمْ يَجُزْ الْوُضُوءُ بِهِ
) أَرَادَ بِالْمَاءِ مَا لَا يَكُونُ جَارِيًا وَلَا فِي حُكْمِهِ وَهُوَ
الْغَدِيرُ الْعَظِيمُ لِذِكْرِهِ هَذَا بَعْدَ هَذَا ، وَقَدْ وَقَعَ فِي
بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ : قَلِيلًا كَانَتْ النَّجَاسَةُ أَوْ
كَثِيرًا ، وَفِي بَعْضِهَا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ، وَهُوَ لَفْظُ
الْمُخْتَصَرِ .
وَتَوْجِيهُ الْأُولَى أَنْ يُقَالَ شَبَّهَ فَعِيلًا
بِمَعْنَى فَاعِلٍ بِفَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فِي حَذْفِ عَلَامَةِ
التَّأْنِيثِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ
مِنْ الْمُحْسِنِينَ } وَفِي قَوْلِهِ ( قَلِيلًا ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ
مَالِكٍ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ عِنْدَهُ إذْ لَمْ يُرَ لَهَا
أَثَرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( كَثِيرًا ) مُسْتَدْرَكٌ ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ إذَا كَانَ مَانِعًا فَالْكَثِيرُ أَوْلَى .
وَتَوْجِيهُ
الثَّانِيَةِ الْمَاءُ الرَّاكِدُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا إذَا
وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ ، وَالْقَلِيلُ مَا
يَكْفِي الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ كَذَا قِيلَ .
وَقَوْلُهُ : قَلِيلًا
احْتِزَازٌ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ ، وَقَوْلُهُ : كَثِيرًا احْتِرَازٌ عَنْ
قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّ مَالِكًا يُجَوِّزُ الْوُضُوءَ
بِالْقَلِيلِ وَإِنْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ
أَوْصَافِهِ ، وَيَسْتَدِلُّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ ،
إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ } الْحَدِيثَ .
وَالشَّافِعِيُّ
يُجَوِّزُهُ إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ
خَبَثًا } وَاضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي مِقْدَارِ الْقُلَّتَيْنِ ،
فَقِيلَ الْقُلَّتَانِ خَمْسُ قِرَبٍ كُلُّ قِرْبَةٍ خَمْسُونَ مَنًّا ،
وَقِيلَ ثَلَثُمِائَةِ مَنٍّ تَقْرِيبًا لَا تَحْدِيدًا ، وَقِيلَ
الْقُلَّةُ جَرَّةٌ تُحْمَلُ مِنْ الْيَمِينِ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ
وَشَيْئًا .
وَلَنَا حَدِيثُ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ مَنَامَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اسْتَيْقَظَ
أَحَدُكُمْ
مِنْ مَنَامَةِ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا
ثَلَاثًا } وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ النَّهْيُ
عَنْ الْغَمْسِ لِأَجْلِ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ ، فَحَقِيقَةُ
النَّجَاسَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ نَجِسًا .
وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ
الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلَنَّ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ } رَوَاهُ أَبُو
هُرَيْرَةَ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ ، أَمَّا عَلَى مَالِكٍ
فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ وَأَنَّهُ لَا يُغَيَّرُ أَحَدُ
أَوْصَافِ الْمَاءِ بِيَقِينٍ ، وَأَمَّا عَلَى الشَّافِعِيِّ فَلِأَنَّهُ
نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ، وَمُطْلَقُ النَّهْيِ
يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ، لَا سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِهِ وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ مُنَجَّسًا كَانَ كَسَكْبِ الْمَاءِ فِيهِ وَهُوَ لَيْسَ
بِمُحَرَّمٍ .
وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ دَائِمٍ وَدَائِمٍ فَكَانَ الْقُلَّتَانِ وَغَيْرُهُمَا سَوَاءً .
لَا
يُقَالُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِلتَّنْزِيَةِ ؛ لِأَنَّ
تَأْكِيدَهُ وَتَقْيِيدَهُ بِالدَّائِمِ يُنَافِيهِ ، فَإِنَّ الْمَاءَ
الْجَارِي يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى ، فَإِنَّ الْبَوْلَ كَمَا
أَنَّهُ لَيْسَ بِأَدَبٍ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ فَكَذَلِكَ فِي الْجَارِي
فَلَا يَكُونُ لِلتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ ، وَكَلَامُ الشَّارِعِ مَصُونٌ
عَنْ ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ الِاسْتِدْلَال بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ
حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ ؛ لِأَنَّ الْغَدِيرَ الْعَظِيمَ مَاءٌ دَائِمٌ
فَيَدْخُلُ تَحْتَ إطْلَاقِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْجَارِي بِالْإِجْمَاعِ فِي عَدَمِ اخْتِلَاطِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ .
(
قَوْلُهُ : وَاَلَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ جَوَابٌ عَنْ حَدِيثِ مَالِكٍ
بِأَنَّهُ وَرَدَ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ ) وَهِيَ بِكَسْرِ الْبَاءِ
وَضَمِّهَا : بِئْرٌ قَدِيمَةٌ بِالْمَدِينَةِ تُلْقَى فِيهَا الْجِيَفُ
وَمَحَايِضُ النِّسَاءِ ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَوَضَّأَ مِنْهَا فَقَالَ { الْمَاءُ
طَهُورٌ } الْحَدِيثَ ، وَقَدْ كَانَ مَاؤُهَا جَارِيًا فِي الْبَسَاتِينِ
يُسْقَى مِنْهُ خَمْسُ بَسَاتِينَ ، وَالْمَاءُ
الْجَارِي لَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ عِنْدَنَا .
فَإِنْ
قِيلَ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ فَكَيْفَ
اخْتَصَّ بِئْرُ بُضَاعَةَ مَعَ وُجُودِ دَلِيلِ الْعُمُومِ فِيهِ وَهُوَ
الْأَلِفُ وَاللَّامُ ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ
فِي شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْحَمْلِ لِلتَّوْفِيقِ ،
فَإِنَّ الْحَدِيثَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَجُهِلَ تَارِيخُهُمَا جُعِلَا
كَأَنَّهُمَا وَرَدَا مَعًا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ
بِهِمَا يُحْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَحْمَلٍ إنْ أَمْكَنَ
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ
يَتَهَاتَرَانِ ، وَهَاهُنَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِأَنْ يُحْمَلَ هَذَا
الْحَدِيثُ عَلَى بِئْرِ بُضَاعَةَ وَحَدِيثُ الْمُسْتَيْقِظِ ، وَقَوْلُهُ
: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ }
الْحَدِيثَ عَلَى غَيْرِهَا فَعَمِلْنَا كَذَلِكَ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ .
فَإِنْ
قِيلَ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ أَوَّلَ الْبَابِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى
طَهُورِيَّةِ الْمِيَاهِ الْمَذْكُورَةِ هُنَاكَ وَحَمَلَهُ هَاهُنَا
عَلَى بِئْرِ بُضَاعَةَ ، فَإِنْ كَانَتْ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ الْمَاءُ
لِلْجِنْسِ صَحَّ الِاسْتِدْلَال وَبَطَلَ الْحَمْلُ ، وَإِنْ كَانَتْ
لِلْعَهْدِ صَحَّ الْحَمْلُ وَبَطَلَ الِاسْتِدْلَال .
أَجَابَ
الْعَلَّامَةُ عَلَاءُ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بِمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ
لِلْجِنْسِ وَالِاسْتِدْلَالُ صَحِيحٌ ، وَالْحَمْلُ لَيْسَ بِبَاطِلٍ ؛
لِأَنَّ الْحَدِيثَ مُشْتَمِلٌ عَلَى قَضِيَّتَيْنِ : إحْدَاهُمَا الْمَاءُ
طَهُورٌ ، وَالثَّانِيَةُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ ، وَالِاسْتِدْلَالُ
بِالْأُولَى ؛ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْمَقْصُودَ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ
إلَى الثَّانِيَةِ وَالْحَمْلُ لِلثَّانِيَةِ .
وَرُدَّ بِأَنَّ
الضَّمِيرَ فِي لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ رَاجِعٌ إلَى مَا دَخَلَ عَلَيْهِ
اللَّامُ فَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسَ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُهُ
عَلَى مُعَيَّنٍ .
وَأَجَابَ بِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا احْتَمَلَ
مَعْنَيَيْنِ وَأُرِيدَ بِهِ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أُرِيدَ بِضَمِيرِهِ
الْآخَرُ جَازَ ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ اسْتِخْدَامًا كَمَا فِي قَوْلِ
الشَّاعِرِ
: إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا
غِضَابًا وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ } فِي
كَوْنِهِ جَوَابًا زَائِدًا عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ ، فَإِنَّ
الْحَاجَةَ كَانَتْ فِي دَفْعِ النَّجَاسَةِ عَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ ،
وَكَانَ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ { لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } إلَّا
أَنَّهُ زَادَ قَوْلَهُ { الْمَاءُ طَهُورٌ } وَقَدْ يَكُونُ تَقْدِيرُ
الْكَلَامِ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ مِنْ شَأْنِهَا التَّطْهِيرُ ، وَمَاءُ
بِئْرِ بُضَاعَةَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ إلَى آخِرِهِ
لِكَوْنِهِ جَارِيًا ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْبَالِغُ
قُلَّتَيْنِ طَاهِرًا إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ .
عَلَى نَجَاسَتِهِ وَهُوَ حَدِيثُ الْمُسْتَيْقِظِ ، وَقَوْلُهُ : { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ } الْحَدِيثَ .
وَقَوْلُهُ
: ( وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ) يُرِيدُ بِهِ حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ
ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُد مَعْنَاهُ لَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهَذَا
الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ فِي إسْنَادِهِ ضَعْفًا ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُد
سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ قَالَ حَدِيثُ
الْقُلَّتَيْنِ مِمَّا لَا يَثْبُتُ ، وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ
أُسْتَاذُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَعِيلَ الْبُخَارِيِّ .
وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ بَلَغَنِي بِإِسْنَادٍ لَا يَحْضُرُنِي مَنْ
ذَكَرَهُ وَمِثْلُ هَذَا دُونَ الْمُرْسَلِ وَفِي مَتْنِهِ اضْطِرَابٌ
فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ
قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، وَفِي بَعْضِهَا أَرْبَعِينَ قُلَّةً هَكَذَا
رَوَاهُ جَابِرٌ وَأَخَذَ بِهِ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالْقُلَّةُ
فِي نَفْسِهَا مَجْهُولَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا قَامَةُ
الرَّجُلِ ، وَتُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا رَأْسُ الْجَبَلِ ، وَتُذْكَرُ
وَيُرَادُ بِهَا الْجَرَّةُ ، وَالتَّعْيِينُ بِقِلَالِ هَجْرٍ لَا
يَثْبُتُ بِقَوْلِ جُرَيْجٍ ؛ لِأَنَّ جُرَيْجًا مِمَّنْ لَا يُقَلَّدُ
فَيَبْقَى مُحْتَمَلًا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : لَا يَحْتَمِلُ خُبْثًا
يُحْتَمَلُ مَا قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ : أَيْ لَا يَقْبَلُ النَّجَاسَةَ وَيَدْفَعُهَا ، وَيَحْتَمِلُ إذَا قَلَّ الْمَاءُ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْقُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ يَضْعُفُ عَنْ احْتِمَالِ الْخُبْثِ فَيَنْجَسُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ التَّمَسُّكُ بِهِ صَحِيحًا .
( وَالْمَاءُ الْجَارِي إذَا وَقَعَتْ فِيهِ
نَجَاسَةٌ جَازَ الْوُضُوءُ مِنْهُ إذَا لَمْ يُرَ لَهَا أَثَرٌ لِأَنَّهَا
لَا تَسْتَقِرُّ مَعَ جَرَيَانِ الْمَاءِ ) وَالْأَثَرُ هُوَ الرَّائِحَةُ
أَوْ الطَّعْمُ أَوْ اللَّوْنُ ، وَالْجَارِي مَا لَا يَتَكَرَّرُ
اسْتِعْمَالُهُ ، وَقِيلَ مَا يَذْهَبُ بِتِبْنَةٍ .( قَوْلُهُ :
وَالْمَاءُ الْجَارِي إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ ) اخْتَلَفَ النَّاسُ
فِي تَعْرِيفِ الْمَاءِ الْجَارِي ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ مَا لَا
يَتَكَرَّرُ اسْتِعْمَالُهُ ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ إذَا غَسَلَ يَدَهُ
وَسَالَ الْمَاءُ مِنْهَا إلَى النَّهْرِ فَإِذَا أَخَذَهُ ثَانِيًا لَا
يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَاءِ الْأَوَّلِ .
وَقِيلَ مَا يَذْهَبُ بِتَبِنَةٍ .
وَقِيلَ هُوَ مَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْ وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ فِي الْمَاءِ عَرَضًا لَمْ يَنْقَطِعْ جَرَيَانُهُ .
قِيلَ وَالْأَصَحُّ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا ، وَحُكْمُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ
: ( إذَا لَمْ يُرَ لَهَا أَثَرٌ ) أَيْ لَمْ يُبْصَرْ لَهَا أَثَرٌ ،
إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا كَانَتْ مَرْئِيَّةً لَا
يَتَوَضَّأُ مِنْ جَانِبِ الْوُقُوعِ .
قَالَ فِي الْمُحِيطِ : إذَا
وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِي الْمَاءِ الْجَارِي ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ
مَرْئِيَّةٍ كَالْبَوْلِ لَا يَنْجُسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ
طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ
وَالْعَذِرَةِ ، فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ كَبِيرًا لَا يُتَوَضَّأُ مِنْ
أَسْفَلِ الْجَانِبِ الَّذِي فِيهِ الْجِيفَةُ وَيُتَوَضَّأُ مِنْ
الْجَانِبِ الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَإِنْ لَاقَاهَا أَكْثَرُ
الْمَاءِ فَهُوَ نَجِسٌ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّهُ فَهُوَ طَاهِرٌ ، وَإِنْ
كَانَ النِّصْفَ جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ فِي الْحُكْمِ ، وَالْأَحْوَطُ
أَلَّا يُتَوَضَّأَ .
قَالَ ( وَالْغَدِيرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا
يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحْرِيكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ إذَا
وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ جَازَ الْوُضُوءُ مِنْ
الْجَانِبِ الْآخَرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَصِلُ
إلَيْهِ ) إذْ أَثَرُ التَّحْرِيكِ فِي السِّرَايَةِ فَوْقَ أَثَرِ
النَّجَاسَةِ .
ثُمَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ
يَعْتَبِرُ التَّحْرِيكَ بِالِاغْتِسَالِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ
رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَنْهُ التَّحْرِيكُ بِالْيَدِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ بِالتَّوَضُّؤِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ
الْحَاجَةَ إلَى الِاغْتِسَالِ فِي الْحِيَاضِ أَشَدُّ مِنْهَا إلَى
التَّوَضُّؤِ ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرُوا بِالْمِسَاحَةِ عَشْرًا فِي عَشْرٍ
بِذِرَاعِ الْكِرْبَاسِ تَوْسِعَةً لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ ، وَعَلَيْهِ
الْفَتْوَى ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْعُمْقِ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ لَا
يَنْحَسِرُ بِالِاغْتِرَافِ هُوَ الصَّحِيحُ .
وَقَوْلُهُ فِي
الْكِتَابِ وَجَازَ الْوُضُوءُ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ، إشَارَةٌ إلَى
أَنَّهُ يَنْجُسُ مَوْضِعُ الْوُقُوعِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِظُهُورِ أَثَرِ النَّجَاسَةِ فِيهِ
كَالْمَاءِ الْجَارِي .
( قَوْلُهُ : وَالْغَدِيرُ الْعَظِيمُ )
الْغَدِيرُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ غَدَرَ : أَيْ تَرَكَ ،
وَهُوَ الَّذِي تَرَكَهُ مَاءُ السَّيْلِ ، وَقِيلَ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ
أَيْ مُغَادِرٍ وَقِيلَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ؛ لِأَنَّهُ يَغْدِرُ بِأَهْلِهِ
لِانْقِطَاعِهِ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ
أَصْحَابَنَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إذَا خَلَصَ بَعْضُهُ : أَيْ
وَصَلَ إلَى بَعْضٍ كَانَ قَلِيلًا ، وَإِذَا لَمْ يَخْلُصُ كَانَ
كَثِيرًا لَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ ، إلَّا أَنْ
يَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ كَالْمَاءِ الْجَارِي .
ثُمَّ
اخْتَلَفُوا فِيمَا يُعْرَفُ بِهِ الْخُلُوصُ ، فَذَهَبَ
الْمُتَقَدِّمُونَ إلَى أَنَّهُ يُعْرَفُ بِالتَّحْرِيكِ : فَإِذَا حُرِّكَ
طَرَفٌ مِنْهُ وَلَمْ يَتَحَرَّكْ الْجَانِبُ الْآخَرُ فَهُوَ مِمَّا لَا
يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ ، وَالْمُرَادُ بِالتَّحَرُّكِ هُوَ
التَّحَرُّكُ بِالِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ سَاعَةَ تَحْرِيكِهِ لَا
بَعْدَ الْمُكْثِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْحَبَابِ ، فَإِنَّ الْمَاءَ وَإِنْ
كَثُرَ يَعْلُوهُ وَيَتَحَرَّكُ .
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي
سَبَبِ التَّحْرِيكِ ، فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالِاغْتِسَالِ ،
وَهُوَ أَنْ يَغْتَسِلَ إنْسَانٌ فِي جَانِبٍ مِنْهُ اغْتِسَالًا وَسَطًا
وَلَمْ يَتَحَرَّكْ الْجَانِبُ الْآخَرُ ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ .
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالْيَدِ لَا غَيْرُ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّحْرِيكُ بِالتَّوَضُّؤِ .
وَجْهُ
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى
الِاغْتِسَالِ فِي الْحِيَاضِ أَشَدُّ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى التَّوَضُّؤِ ؛
لِأَنَّ الْوُضُوءَ يَكُونُ فِي الْبُيُوتِ عَادَةً .
وَوَجْهُ
الثَّانِي أَنَّ التَّحْرِيكَ يَكُونُ بِالِاغْتِسَالِ وَبِالتَّوَضُّؤِ
وَبِغَسْلِ الْيَدِ ، إلَّا أَنَّ التَّحْرِيكَ بِغَسْلِ الْيَدِ يَكُونُ
أَخَفَّ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِهِ أَوْلَى تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ .
وَوَجْهُ الثَّالِثِ أَنَّ مَبْنَى الْمَاءِ فِي حُكْمِ
النَّجَاسَةِ
عَلَى الْخِفَّةِ ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَنْجَسَ وَإِنْ كَثُرَ
الْمَاءُ ، إلَّا أَنَّهُ أَسْقَطَ حُكْمَ النَّجَاسَةِ عَنْ بَعْضِ
الْمِيَاهِ تَخْفِيفًا فَاعْتُبِرَ التَّحْرِيكُ الْوَسَطُ وَهُوَ
التَّحْرِيكُ بِالْوُضُوءِ .
وَذَهَبَ الْمُتَأَخِّرُونَ إلَى أَنَّهُ
يُعْرَفُ بِشَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ التَّحْرِيكِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَبَرَ
بِالْكُدْرَةِ فَقَالَ إذَا اُغْتُسِلَ فِيهِ وَتَكَدَّرَ الْمَاءُ فَإِنْ
وَصَلَتْ الْكُدَارَةُ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَهُوَ مِمَّا يَخْلُصُ
وَإِلَّا فَلَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ أَنَّهُ
اُعْتُبِرَ بِالصَّبْغِ فَقَالَ : يُلْقَى زَعْفَرَانٌ فِي جَانِبٍ مِنْهُ ،
فَإِنْ أَثَّرَ الزَّعْفَرَانُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ كَانَ مِمَّا
يَخْلُصُ وَإِلَّا فَلَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ
الْجُوزَجَانِيِّ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ بِالْمِسَاحَةِ إنْ كَانَ عَشْرًا فِي
عَشْرٍ فَهُوَ مِمَّا لَا يَخْلُصُ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي
النَّوَادِرِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَقَالَ : إنْ
كَانَ مِثْلَ مَسْجِدِي هَذَا فَهُوَ مَا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى
بَعْضٍ ، فَلَمَّا قَامَ مُسِحَ مَسْجِدُهُ فَكَانَ ثَمَانِيًا فِي ثَمَانٍ
، وَفِي رِوَايَةٍ وَعَشْرًا فِي عَشْرٍ فِي رِوَايَةٍ ، وَبِقَوْلِ أَبِي
سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ أَخَذَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ ، ثُمَّ
أَلْفَاظُ الْكُتُبِ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي تَعْيِينِ الذِّرَاعِ فَجُعِلَ
الصَّحِيحُ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ ذِرَاعُ الْمِسَاحَةِ وَهِيَ سَبْعُ
مُشِتَّاتٍ فَوْقَ كُلِّ مُشِتَّةٍ إصْبَعٌ قَائِمَةٌ ، وَالْمُصَنِّفُ
اخْتَارَ لِلْفَتْوَى ذِرَاعَ الْكِرْبَاسِ وَهِيَ سَبْعُ مُشِتَّاتٍ
لَيْسَ فَوْقَ كُلِّ مُشِتَّةٍ إصْبَعٌ قَائِمَةٌ تَوْسِعَةً لِلْأُمُورِ
عَلَى النَّاسِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْعُمْقِ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ لَا
يَنْحَسِرُ بِالِاغْتِرَافِ .
وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ )
احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ
ذِرَاعًا ، وَقَالَ آخَرُونَ أَنْ يَكُونَ قَدْرَ شِبْرٍ .
وَقَوْلُهُ : ( فِي الْكِتَابِ ) يَعْنِي مُخْتَصَرَ الْقُدُورِيِّ .
وَقَوْلُهُ : ( إشَارَةً إلَى أَنَّهُ يَنْجَسُ مَوْضِعُ الْوُقُوعِ ) لَمْ يُفَرَّقْ
بَيْنَ كَوْنِهَا مَرْئِيَّةً وَغَيْرَ مَرْئِيَّةٍ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَمَشَايِخِ بُخَارَى وَبَلْخِي ، فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فَقَالُوا فِي غَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ يُتَوَضَّأُ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ بِخِلَافِ الْمَرْئِيَّةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ إلَّا إذَا ظَهَرَ أَثَرُهَا فِيهِ : أَيْ فِي مَوْضِعِ الْوُقُوعِ كَالْمَاءِ الْجَارِي ، وَعَلَى هَذَا إذَا غَسَلَ وَجْهَهُ فِي حَوْضٍ كَبِيرٍ فَسَقَطَ غُسَالَةُ وَجْهِهِ فِي الْمَاءِ فَرَفَعَ الْمَاءَ مِنْ مَوْضِعِ الْوُقُوعِ قَبْلَ التَّحْرِيكِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ ، وَجَوَّزَهُ مَشَايِخُ بُخَارَى وَبَلْخِي تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى فِيهِ .
قَالَ ( وَمَوْتُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ كَالْبَقِّ وَالذُّبَابِ وَالزَّنَابِيرِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُفْسِدُهُ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ آيَةُ النَّجَاسَةِ ، بِخِلَافِ دُودِ الْخَلِّ وَسُوسِ الثِّمَارِ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً ، وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ { هَذَا هُوَ الْحَلَالُ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَالْوُضُوءُ مِنْهُ } " وَلِأَنَّ الْمُنَجَّسَ هُوَ اخْتِلَاطُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ بِأَجْزَائِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، حَتَّى حَلَّ الْمُذَكَّى لِانْعِدَامِ الدَّمِ فِيهِ وَلَا دَمَ فِيهَا ، وَالْحُرْمَةُ لَيْسَتْ مِنْ ضَرُورَتِهَا النَّجَاسَةُ كَالطِّينِ .
قَالَ ( وَمَوْتُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ )
إذَا مَاتَ مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ كَالْبَقِّ وَالذُّبَابِ
وَالزَّنَابِيرِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهَا ( فِي الْمَاءِ ) لَا
يُنَجِّسُهُ وَإِنَّمَا جَمَعَ الزَّنَابِيرَ دُونَ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهَا
أَنْوَاعٌ شَتَّى ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُفْسِدُهُ ؛ لِأَنَّهُ
حَرَامٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ }
وَالتَّحْرِيمُ لَا بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ آيَةُ النَّجَاسَةِ .
وَقَوْلُهُ : ( لَا بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ ) احْتِرَازٌ عَنْ الْآدَمِيِّ .
فَإِنْ قِيلَ دُودُ الْخَلِّ وَسُوسُ الثِّمَارِ إذَا مَاتَتْ فِيهَا مَعَ أَنَّهَا مَيْتَةُ لَا يُنَجِّسُ الْخَلَّ وَالثِّمَارَ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ : ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً .
وَلَنَا
مَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ بِإِسْنَادِهِ إلَى سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ { عَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ فِيهِ : أَيْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ إنَاءٍ فِيهِ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ
يَمُوتُ فِيهِ مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ فَقَالَ : هُوَ الْحَلَالُ
أَكْلُهُ وَشَرَابُهُ وَالْوُضُوءُ مِنْهُ } وَلِأَنَّ الْمُنَجِّسَ هُوَ
اخْتِلَاطُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ بِأَجْزَائِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ حَتَّى
حَلَّ الْمُذَكَّى لِانْعِدَامِ الدَّمِ فِيهِ ، وَلَا دَمَ فِي هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ إذْ الْفَرْضُ كَذَلِكَ فَلَا يَنْجَسُ هَاهُنَا .
فَإِنْ
قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُنَجِّسَ هُوَ اخْتِلَاطُ الدَّمِ
الْمَسْفُوحِ ، فَإِنَّ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَتَارِكِ
التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَيْسَ فِيهَا دَمٌ مَسْفُوحٌ وَهِيَ نَجِسَةٌ ،
وَذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ إذَا لَمْ يَسِلْ مِنْهَا دَمٌ يُعَارَضُ بِأَنْ
أَكَلَتْ وَرَقَ الْعُنَّابِ حَلَالٌ مَعَ أَنَّ الدَّمَ لَمْ يَسِلْ .
فَالْجَوَابُ
أَنَّ الْقِيَاسَ فِي ذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ
الطَّهَارَةُ كَذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ ، إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ
أَخْرَجَهُ عَنْ أَهْلِيَّةِ الذَّبْحِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي
نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي
ذَبَائِحِهِمْ } فَجَعَلَ الشَّرْعُ ذَبْحَهُ كَلَا ذَبْحٍ ، وَكَمَا جَعَلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ جَعَلَ ذَبِيحَةَ الْمُسْلِمِ إذَا لَمْ يَسِلْ مِنْهَا الدَّمُ كَذَبِيحَتِهِ إذَا سَالَ إقَامَةً لِأَهْلِيَّةِ الذَّابِحِ وَاسْتِعْمَالِ آلَةِ الذَّبْحِ مَقَامَ الْإِسَالَةِ لِإِتْيَانِهِ بِمَا هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ الدَّاخِلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْعَوَارِضِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْقَوَاعِدِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ حَيًّا لَا يَنْجَسُ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : الْمُصَلِّي إذَا اسْتَصْحَبَ فَأْرَةً أَوْ عُصْفُورَةً حَيَّةً لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَفَسَدَتْ ، وَلَوْ مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا وَاسْتَصْحَبَهَا فَسَدَتْ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الدَّمَ الَّذِي فِي الْحَيِّ فِي مَعْدِنِهِ وَبِالْمَوْتِ يَنْصَبُّ عَنْ مَجَارِيهِ فَيَتَنَجَّسُ اللَّحْمُ بِتَشَرُّبِهِ إيَّاهُ ، وَلِهَذَا لَوْ قُطِعَتْ الْعُرُوقُ بَعْدَهُ لَمْ يَسِلْ مِنْهَا دَمٌ ( قَوْلُهُ : وَالْحُرْمَةُ لَيْسَتْ مِنْ ضَرُورَتِهَا النَّجَاسَةُ ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّ الطِّينَ حَرَامٌ لَا لِكَرَامَتِهِ وَلَيْسَ بِنَجِسٍ .
قَالَ
( وَمَوْتُ مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ فِيهِ لَا يُفْسِدُهُ كَالسَّمَكِ
وَالضُّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
يُفْسِدُهُ إلَّا السَّمَكُ لِمَا مَرَّ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَاتَ فِي
مَعْدِنِهِ فَلَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ كَبَيْضَةٍ حَالَ
مُحُّهَا دَمًا ، وَلِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهَا ، إذْ الدَّمَوِيُّ لَا
يَسْكُنُ الْمَاءَ وَالدَّمُ هُوَ الْمُنَجِّسُ ، وَفِي غَيْرِ الْمَاءِ
قِيلَ غَيْرُ السَّمَكِ يُفْسِدُهُ لِانْعِدَامِ الْمَعْدِنِ .
وَقِيلَ لَا يُفْسِدُهُ لِعَدَمِ الدَّمِ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَالضُّفْدَعُ الْبَحْرِيُّ وَالْبَرِّيُّ فِيهِ سَوَاءٌ .
وَقِيلَ
الْبَرِّيُّ مُفْسِدٌ لِوُجُودِ الدَّمِ وَعَدَمِ الْمَعْدِنِ ، وَمَا
يَعِيشُ فِي الْمَاءِ مَا يَكُونُ تَوَلُّدُهُ وَمَثْوَاهُ فِي الْمَاءِ ،
وَمَائِيُّ الْمَعَاشِ دُونَ مَائِيِّ الْمَوْلِدِ مُفْسِدٌ .
قَالَ (
وَمَوْتُ مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ فِيهِ لَا يُفْسِدُهُ ) مَا يَعِيشُ
فِي الْمَاءِ : يَعْنِي مَا يَكُونُ مَوْلِدُهُ وَمَثْوَاهُ فِيهِ إذَا
مَاتَ فِي الْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ كَالسَّمَكِ وَالضُّفْدَعُ
وَالسَّرَطَانُ .
قِيلَ إنَّمَا قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَا
يُنَجِّسُهُ وَفِي هَذِهِ لَا يُفْسِدُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي
الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي غَيْرِ مَعْدِنِهِ فَيُتَوَهَّمُ التَّنْجِيسُ
فَيُنَاسَبُ نَفْيَهُ ، وَفِي الثَّانِيَةِ فِي مَعْدِنِهِ فَلَا
يُتَوَهَّمُ تَنْجِيسُهُ بِوَاسِطَةِ الضَّرُورَةِ ، لَكِنْ اُحْتُمِلَ
تَغَيُّرُ صِفَةِ الْمَاءِ فَنَفَاهُ بِقَوْلِهِ لَا يُفْسِدُهُ ( وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ : يُفْسِدُهُ إلَّا السَّمَكَ لِمَا مَرَّ ) يَعْنِي مِنْ
قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ آيَةُ
النَّجَاسَةِ .
قِيلَ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّ
الضُّفْدَعَ وَالسَّرَطَانَ يَجُوزُ أَكْلُهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ عَلَى مَا سَيَأْتِي .
وَالْجَوَابُ
أَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ عَنْ الشَّافِعِيِّ
أَنَّهُ أَطْلَقَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ رِوَايَةً
أُخْرَى عَنْهُ فَيَكُونُ الْإِلْزَامُ عَلَيْهَا ( وَلَنَا أَنَّهُ مَاتَ
فِي مَعْدِنِهِ ) وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكُلُّ مَا مَاتَ فِي مَعْدِنِهِ كَانَ
نَجِسًا فِي مَعْدِنِهِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ نَجِسًا فِي مَعْدِنِهِ لَا
يُعْطَى لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ كَبَيْضَةٍ حَالَ مَجِّهَا دَمًا : أَيْ
تَغَيَّرَتْ صُفْرَتُهَا دَمًا ، حَتَّى لَوْ صَلَّى وَفِي كُمِّهِ تِلْكَ
الْبَيْضَةُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَهَا ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ فِي
مَعْدِنِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى وَفِي كُمِّهِ قَارُورَةٌ فِيهَا
دَمٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَيْسَتْ فِي
مَعْدِنِهَا .
قِيلَ هَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي أَلَّا يُعْطَى
لِلْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ حُكْمُ النَّجَاسَةِ إذَا مَاتَتْ فِي الْبَرِّ ؛
لِأَنَّهُ مَعْدِنُهَا ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ
يَعْنُونَ بِالْمَعْدِنِ مَا يَكُونُ مُحِيطًا فَإِنَّهُمْ يُمَثِّلُونَ
بِالدَّمِ فِي الْعُرُوقِ وَالْمُخَّ فِي الْبَيْضَةِ
وَأَشْبَاهَهُمَا وَلَيْسَ الْبَرُّ كَذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ
: ( وَلِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهَا ) أَيْ فِي هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ إذْ
الدَّمَوِيُّ لَا يَسْكُنُ الْمَاءَ وَالدَّمُ هُوَ الْمُنَجِّسُ كَمَا
تَقَدَّمَ ( وَ ) إذَا مَاتَ ( فِي غَيْرِ الْمَاءِ ) كَالْخَلِّ
وَالْعَصِيرِ وَالْحَلِيبِ وَنَحْوِهَا ( قِيلَ غَيْرُ السَّمَكِ
يُفْسِدُهُ لِانْعِدَامِ الْمَعْدِنِ ) وَهُوَ قَوْلُ نُصَيْرِ بْنِ
يَحْيَى وَمُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (
وَقِيلَ لَا يُفْسِدُهُ ) وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ وَهُوَ
رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ (
لِعَدَمِ الدَّمِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ) لِاطِّرَادِهِ ، قِيلَ فِي كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْ التَّعْلِيلَيْنِ نَظَرٌ ، أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ
التَّعْلِيلَ بِالْعَدَمِ عَلَى وُجُودِ الشَّيْءِ لَا يَجُوزُ ، وَأَمَّا
فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعِلَّةِ لَا يَسْتَلْزِمُ
انْتِفَاءَ الْمَعْلُولِ لِجَوَازِ أَنْ يَثْبُتَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى ،
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَعْلِيلٍ بَلْ هُوَ
بَيَانُ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ ، فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
النَّجَاسَةَ لَا تُعْطَى حُكْمَ النَّجَاسَةِ فِي مَعْدِنِهَا فَكَانَ
الْمَعْدِنُ مَانِعًا عَنْ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهَا .
وَعَنْ
الثَّانِي أَنَّ الْعِلَّةَ الشَّخْصِيَّةَ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاؤُهَا
انْتِفَاءَ الْحُكْمِ ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ دَمًا
مَسْفُوحًا هُوَ الْمُنَجِّسُ لَا غَيْرُ ( وَالضُّفْدَعُ الْبَرِّيُّ
وَالْبَحْرِيُّ فِيهِ سَوَاءٌ ) وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْبَرِّيُّ مِنْ
الْبَحْرِيِّ بِأَنَّ الْبَحْرِيَّ مَا يَكُونُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ
سُتْرَةٌ ، وَقِيلَ الْبَرِّيُّ مُفْسِدٌ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَهُوَ
الدَّمُ وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَهُوَ الْمَعْدِنُ .
وَقَوْلُهُ : (
وَمَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ ) بَيَانٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا يَعِيشُ فِي
الْمَاءِ مَا كَانَ تَوَالُدُهُ وَمَثْوَاهُ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي
أَوَّلِ الْبَحْثِ ( وَمَائِيُّ الْمَعَاشِ دُونَ مَائِيِّ الْمَوْلِدِ )
كَالْبَطِّ وَالْإِوَزِّ وَنَحْوِهِمَا ( مُفْسِدٌ ) .
قَالَ (
وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي طَهَارَةِ
الْأَحْدَاثِ ) خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
هُمَا يَقُولَانِ إنَّ الطَّهُورَ مَا يُطَهِّرُ غَيْرَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى كَالْقَطُوعِ .
وَقَالَ
زُفَرُ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ
كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ مُتَوَضِّئًا فَهُوَ طَهُورٌ ، وَإِنْ كَانَ
مُحْدِثًا فَهُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ لِأَنَّ الْعُضْوَ طَاهِرٌ
حَقِيقَةً ، وَبِاعْتِبَارِهِ يَكُونُ الْمَاءُ طَاهِرًا لَكِنَّهُ نَجِسٌ
حُكْمًا ، وَبِاعْتِبَارِهِ يَكُونُ الْمَاءُ نَجِسًا فَقُلْنَا
بِانْتِفَاءِ الطَّهُورِيَّةِ وَبَقَاءِ الطَّهَارَةِ عَمَلًا
بِالشَّبَهَيْنِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهُوَ رِوَايَةٌ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ ،
لِأَنَّ مُلَاقَاةَ الطَّاهِرِ لِلطَّاهِرِ لَا تُوجِبُ التَّنَجُّسَ ،
إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَتْ بِهِ قُرْبَةٌ فَتَغَيَّرَتْ بِهِ صِفَتُهُ
كَمَالِ الصَّدَقَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ : هُوَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ } "
الْحَدِيثَ ، وَلِأَنَّهُ مَاءٌ أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ
الْحُكْمِيَّةُ فَيُعْتَبَرُ بِمَاءٍ أُزِيلَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ
الْحَقِيقِيَّةُ ، ثُمَّ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً اعْتِبَارًا
بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي النَّجَاسَةِ الْحَقِيقَةِ ، وَفِي
رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُهُ إنَّهُ
نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً لِمَكَانِ الِاخْتِلَافِ .
قَوْلُهُ : (
وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي طَهَارَةِ
الْأَحْدَاثِ ) قَدَّمَ الْكَلَامَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ؛
لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي طَهَارَةِ
الْأَحْدَاثِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي طَهَارَةِ
الْأَنْجَاسِ فِيمَا رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ
الْمُوَافِقُ لِمَذْهَبِهِ ، فَإِنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ
بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ تَجُوزُ عِنْدَهُ ( قَوْلُهُ : خِلَافًا
لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ) لِلشَّافِعِيِّ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ
ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَظْهَرُهَا كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَفِي قَوْلٍ
طَاهِرٌ وَطَهُورٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَفِي آخَرَ إنْ كَانَ
الْمُسْتَعْمِلُ مُحْدِثًا فَهُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ ، وَإِنْ كَانَ
مُتَوَضِّئًا فَهُوَ طَاهِرٌ وَطَهُورٌ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ( هُمَا )
أَيْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ( يَقُولَانِ : إنَّ الطَّهُورَ مَاءٌ
يُطَهِّرُ غَيْرَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى كَالْقَطُوعِ ) وَلَا يَكُونُ
كَذَلِكَ إلَّا إذَا لَمْ يَتَنَجَّسْ بِالِاسْتِعْمَالِ .
وَالْجَوَابُ
أَنَّهُ الْمَحْكِيُّ عَنْ ثَعْلَبٍ ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا إنْ
كَانَ لِزِيَادَةِ بَيَانٍ لِنِهَايَتِهِ فِي الطَّهَارَةِ كَانَ سَدِيدًا
، وَيُعَضِّدُهُ قَوْله تَعَالَى { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ
السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } وَإِلَّا فَلَيْسَ فَعُولٌ مِنْ
التَّفْعِيلِ فِي شَيْءٍ ، وَإِذَا كَانَ بَيَانًا لِنِهَايَتِهِ فِيهَا
لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَطْهِيرِ الْغَيْرِ فَضْلًا عَنْ التَّكْرَارِ
فِيهِ .
وَقَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْأَعْضَاءَ طَاهِرَةٌ حَقِيقَةً
مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ طَاهِرَةٌ حَقِيقَةً نَجِسَةٌ
حُكْمًا ، فَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيهَا بِالنَّظَرِ إلَى الْأَوَّلِ
طَاهِرٌ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الثَّانِي نَجِسٌ ، وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ
بِأَحَدِهِمَا إبْطَالٌ لِلْآخَرِ ، وَإِعْمَالُهُمَا وَلَوْ بِوَجْهٍ
أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ أَحَدِهِمَا ، فَقُلْنَا بِانْتِفَاءِ
الطَّهُورِيَّةِ وَبَقَاءِ الطَّهَارَةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ .
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ رِوَايَةٌ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى لِعُمُومِ الْبَلْوَى .
وَقَوْلُهُ
( لِأَنَّ مُلَاقَاةَ الطَّاهِرِ ) وَهُوَ الْمَاءُ ( لِلطَّاهِرِ )
وَهُوَ الْعُضْوُ الْمَغْسُولُ ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ حَقِيقَةً لَا يُوجِبُ
التَّنَجُّسَ كَمَا لَوْ غُسِلَ بِهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ ( إلَّا أَنَّهُ
أُقِيمَتْ بِهِ قُرْبَةٌ ) وَلِإِقَامَتِهَا تَأْثِيرٌ فِي تَغْيِيرِ مَا
أُقِيمَتْ بِهِ ( فَتَغَيَّرَتْ بِهِ ) أَيْ بِالِاسْتِعْمَالِ ( صِفَةُ
الْمَاءِ كَمَالُ الصَّدَقَةِ ) الَّذِي أُقِيمَتْ بِهِ قُرْبَةٌ وَقَدْ
تَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ فَلَمْ يَبْقَ طَيِّبًا ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ
أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَادَرُوا
إلَى وُضُوئِهِ فَمَسَحُوا بِهِ وُجُوهَهُمْ } ، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا
لِمَنْعِهِمْ كَمَا مَنَعَ أَبَا طَيْبَةَ الْحَجَّامَ عَنْ شُرْبِ دَمِهِ .
وَوَجْهُ
الِاسْتِدْلَالِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ
الدَّائِمِ } الْحَدِيثَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا
نَهَى عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَهُوَ الْبَوْلُ فَكَذَلِكَ
نَهَى عَنْ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَهُوَ الِاغْتِسَالُ فِيهِ
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ فِيهِ كَالْبَوْلِ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ
: ( وَلِأَنَّهُ مَاءٌ ) أَيْ وَلِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ مَا
أُزِيلَ بِهِ أَحَدُ الْمَانِعَيْنِ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَهُوَ
النَّجَسُ الْحُكْمِيُّ فَيَتَنَجَّسُ قِيَاسًا عَلَى مَا أُزِيلَ بِهِ
الْمَانِعُ الْآخَرُ مِنْهُ وَهُوَ النَّجَسُ الْحَقِيقِيُّ ، وَلِقَائِلٍ
أَنْ يَقُولَ : الْمُتَوَضِّئُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَوْصُوفٌ
بِكَوْنِهِ مُحْدِثًا ، فَإِذَا اسْتَعْمَلَهُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
تَتَحَوَّلَ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْهُ إلَى الْمَاءِ أَوْ لَا ، وَلَا
سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَاضَ لَا تَقْبَلُ
الِانْتِقَالَ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ
فَتَعَيَّنَ الثَّانِي ، وَحِينَئِذٍ لَا وَجْهَ لِلْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ
الْمَاءِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَنَا لَيْسَ فِي الْمُتَوَضِّئِ وَصِفَتِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ أَعْضَاءَ
الْوُضُوءِ
مُتَّصِفَةٌ بِالنَّجَاسَةِ حُكْمًا وَقَدْ زَالَتْ شَرْعًا بِالْوُضُوءِ
الَّذِي أُقِيمَتْ بِهِ قُرْبَةٌ ، وَقَدْ أَقَمْنَا الدَّلِيلَ آنِفًا
عَلَى أَنَّ لِإِقَامَتِهَا تَأْثِيرًا فِي تَغَيُّرِ مَا أُقِيمَتْ بِهِ
فَصَارَ الْمَاءُ بِهِ خَبِيثًا شَرْعًا كَمَالِ الصَّدَقَةِ وَلَا نَعْنِي
بِصَيْرُورَةِ الْمَاءِ نَجَسًا إلَّا اتِّصَافُهُ بِالْخُبْثِ شَرْعًا ،
وَالِانْتِقَالُ عَلَى الْأَعْرَاضِ الْحَقِيقِيَّةِ لَا يَجُوزُ ،
وَأَمَّا الْأُمُورُ الِاعْتِبَارِيَّةُ الْحُكْمِيَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ
تُعْتَبَرَ قَائِمَةً بِمَحَلٍّ بَعْدَ قَطْعِ الِاعْتِبَارِ عَنْ
قِيَامِهَا بِمَحَلٍّ آخَرَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمِلْكَ لِلْبَائِعِ
أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ حُكْمِيٌّ ، وَبَعْدَ أَنْ قَالَ بِعْت وَقَبِلَ
الْمُشْتَرِي انْتَقَلَ الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ إلَيْهِ ، وَبَعْدَمَا
ثَبَتَتْ نَجَاسَتُهُ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي غِلَظِهَا
وَخِفَّتِهَا ، فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَجَسٌ
نَجَاسَةً غَلِيظَةً اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَعْمَلِ فِي النَّجَاسَةِ
الْحَقِيقِيَّةِ فَتُقَدَّرُ بِالدِّرْهَمِ ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ
وَهُوَ قَوْلُهُ : ( إنَّهُ نَجَسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً لِمَكَانِ
الِاخْتِلَافِ ) فَإِنَّ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ يُورِثُ التَّخْفِيفَ
كَمَا سَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( وَالْمَاءُ
الْمُسْتَعْمَلُ هُوَ مَا أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي
الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا
يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إلَّا بِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ لِأَنَّ
الِاسْتِعْمَالَ بِانْتِقَالِ نَجَاسَةِ الْآثَامِ إلَيْهِ وَإِنَّهَا
تُزَالُ بِالْقُرَبِ ، وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ :
إسْقَاطُ الْفَرْضِ مُؤَثِّرٌ أَيْضًا فَيَثْبُتُ الْفَسَادُ
بِالْأَمْرَيْنِ ، وَمَتَى يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا الصَّحِيحُ
أَنَّهُ كَمَا زَايَلَ الْعُضْوَ صَارَ مُسْتَعْمَلًا ، لِأَنَّ سُقُوطَ
حُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا
ضَرُورَةَ بَعْدَهُ ،
وَقَوْلُهُ : ( وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ )
بَيَانُ الْحَقِيقَةِ وَكَانَ حَقُّهُ التَّقْدِيمَ ، وَلَكِنْ قَدَّمَ
الْحُكْمَ لِمَا ذُكِرَ آنِفًا ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ
السَّبَبِ فَصَارَ مِنْ الْوَسَائِلِ فَلَمْ يَجِبْ تَقْدِيمُهُ ، ثُمَّ
سَبَبُ كَوْنِ الْمَاءِ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ هُوَ إزَالَةُ الْحَدَثِ أَوْ قَصْدُ الْقُرْبَةِ ، وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ هُوَ قَصْدُ الْقُرْبَةِ فَقَطْ ، وَعِنْدَ زُفَرَ
وَالشَّافِعِيِّ إزَالَةُ الْحَدَثِ لَا غَيْرُ ، فَلَوْ تَوَضَّأَ
مُحْدِثٌ بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا
بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ زُفَرَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لِعَدَمِ
قَصْدِ الْقُرْبَةِ ، وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِعَدَمِ إزَالَةِ
الْحَدَثِ عِنْدَهُ بِلَا نِيَّةٍ ، وَلَوْ تَوَضَّأَ الْمُتَوَضِّئُ
بِقَصْدِ الْقُرْبَةِ صَارَ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الثَّلَاثَةِ خِلَافًا
لِزُفَرَ ، وَالشَّافِعِيُّ اسْتَدَلَّ لِمُحَمَّدٍ بِقَوْلِهِ ( ؛ لِأَنَّ
الِاسْتِعْمَالَ بِانْتِقَالِ نَجَاسَةِ الْآثَامِ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى
الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ ، وَانْتِقَالُهَا
بِإِزَالَتِهَا عَنْ مَحَلِّهَا وَإِزَالَتُهَا بِالْقُرَبِ كَمَا فِي
مَالِ الصَّدَقَةِ ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ إسْقَاطُ الْفَرْضِ مُؤَثِّرٌ
أَيْضًا ؛ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَكُونُ بِزَوَالِ
نَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ عَنْ الْمَحَلِّ وَانْتِقَالُهَا إلَى الْمَاءِ ،
وَقَدْ انْتَقَلَتْ إلَى الْمَاءِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا كَمَا
تَقَدَّمَ مِنْ اعْتِبَارِهَا بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَيَثْبُتُ
فَسَادُ الْمَاءِ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا .
وَقَوْلُهُ : ( وَمَتَى يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا ) بَيَانٌ لِوَقْتِ أَخْذِهِ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ .
وَقَدْ
اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ مَا دَامَ
مُتَرَدِّدًا فِي الْعُضْوِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ ، فَإِذَا
زَايَلَ الْعُضْوَ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي مَكَان أَوْ إنَاءٍ اخْتَلَفُوا
فِيهِ ، فَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ
وَبَعْضُ مَشَايِخِ بَلْخِي وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ إنَّهُ لَا
يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا .
وَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إلَى أَنَّهُ كَمَا
زَايَلَ الْعُضْوَ صَارَ مُسْتَعْمَلًا حَتَّى لَوْ أَصَابَ ثَوْبَهُ
تَنَجَّسَ وَقَالُوا : إنَّ مَنْ نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ فَأَخَذَ مِنْ
لِحْيَتِهِ مَاءً وَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ لَا يَجُوزُ وَاخْتَارَهُ
الْمُصَنِّفُ وَقَالَ ( الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَمَا زَايَلَ الْعُضْوَ )
وَالْكَافُ هَذِهِ تُسَمَّى كَافُ الْمُفَاجَأَةِ كَمَا تَقُولُ كُلَّمَا
خَرَجْت مِنْ الْبَيْتِ رَأَيْت زَيْدًا : أَيْ فَاجَأَتْ رُؤْيَةَ زَيْدٍ ،
وَمَعْنَاهُ يَصِيرُ الْمَاءُ مُفَاجِئًا وَقْتَ زَوَالِهِ عَنْ الْعُضْوِ
وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ إلَى وَقْتِ
الِاسْتِقْرَارِ فِي مَكَان وَهُوَ إسْنَادُ الْفِعْلِ إلَى الزَّمَانِ
فَيَكُونُ مَجَازًا عَقْلِيًّا .
وَقَوْلُهُ : ( ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ حُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ ) ظَاهِرٌ .
وَأَوْرَدَ
بِأَنَّ فِيهِ حَرَجًا فَكَانَ ضَرُورَةً ، وَقِيلَ فِي جَوَابِهِ حُكْمُ
الِاسْتِعْمَالِ سَقَطَ فِي الْمِنْدِيلِ وَالثِّيَابِ لِلْحَرَجِ وَهُوَ
مُنَاقِضٌ لِأَصْلِ الْمَذْهَبِ وَلَعَلَّ الْمُخَلِّصَ أَنْ يُقَالَ
بِثُبُوتِ حُكْمِ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ الْمُزَايَلَةِ عَنْ الْعُضْوِ
فِي الْجَمِيعِ ، وَلَا حَرَجَ فِيهِ إذْ الْمُخْتَارُ مِنْ الْأَقْوَالِ
لِلْفَتْوَى أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ .
وَالْجُنُبُ إذَا
انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ لِطَلَبِ الدَّلْوِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
رَحِمَهُ اللَّهُ الرَّجُلُ بِحَالِهِ لِعَدَمِ الصَّبِّ وَهُوَ شَرْطٌ
عِنْدَهُ لِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ وَالْمَاءُ بِحَالِهِ لِعَدَمِ
الْأَمْرَيْنِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كِلَاهُمَا
طَاهِرَانِ : الرَّجُلُ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الصَّبِّ ، وَالْمَاءُ
لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ : كِلَاهُمَا نَجِسَانِ : الْمَاءُ لِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ
الْبَعْضِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ وَالرَّجُلُ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ فِي
بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ .
وَقِيلَ عِنْدَهُ نَجَاسَةُ الرَّجُلِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ .
وَعَنْهُ
أَنَّ الرَّجُلَ طَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ
الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ ، وَهُوَ أَوْفَقُ الرِّوَايَاتِ
عَنْهُ .
قَالَ ( وَالْجُنُبُ إذَا انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ ) جُنُبٌ
لَيْسَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ انْغَمَسَ لِطَلَبِ الدَّلْوِ لَمْ
يَطْهُرْ وَلَمْ يَنْجَسْ الْمَاءُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَطَهُرَ
الرَّجُلُ وَلَمْ يَنْجَسْ الْمَاءُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَلَمْ يَطْهُرْ
وَنَجِسَ الْمَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ (
لِطَلَبِ الدَّلْوِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ
لِلِاغْتِسَالِ لِلصَّلَاةِ فَسَدَ الْمَاءُ عِنْدَ الْكُلِّ .
لِأَبِي
يُوسُفَ فِي بَقَاءِ الرَّجُلِ نَجِسًا أَنَّ الصَّبَّ عِنْدَهُ شَرْطٌ ؛
لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي التَّطْهِيرَ بِالْغُسْلِ لِتَنَجُّسِ
الْمَاءِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ ، وَإِنَّمَا حَصَلَ ضَرُورَةَ خُرُوجِ
الْمُكَلَّفِ عَنْ الْأَمْرِ بِالتَّطْهِيرِ ، وَالْمَاءُ الْجَارِي
أَقْرَبُ إلَى ذَلِكَ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِهِ وَالصَّبُّ بِمَنْزِلَتِهِ
فَيُشْتَرَطُ تَحْصِيلًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ،
وَهَذَا الشَّرْطُ لَمْ يُوجَدْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، وَانْتِفَاؤُهُ
يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ ، وَفِي بَقَاءِ الْمَاءِ طَاهِرًا
أَنَّ سَبَبَ اسْتِعْمَالِهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إسْقَاطُ الْفَرْضِ ،
وَنِيَّةُ الْقُرْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ لَا سَبَبَ لَهُ غَيْرُهُمَا ،
وَقَدْ انْتَفَيَا جَمِيعًا فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ .
فَإِنْ قِيلَ
انْتِفَاءُ إسْقَاطِ الْفَرْضِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عِنْدَهُ
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَقَدْ سَقَطَ فَيَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا
لِكَوْنِهِ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أُجِيبَ بِأَنَّهُ تَرَكَ أَصْلَهُ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ضَرُورَةَ الْحَاجَةِ إلَى طَلَبِ الدَّلْوِ ، فَلَوْ
سَقَطَ الْفَرْضُ تَنَجَّسَ الْمَاءُ وَفَسَدَ الْبِئْرُ وَفِيهِ ضَرَرٌ
لَا يَخْفَى .
وَلِمُحَمَّدٍ فِي طَهَارَةِ الرَّجُلِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ
الصَّبِّ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لَا يَسْتَلْزِمُ
انْتِفَاؤُهُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ ، وَفِي طَهَارَةِ الْمَاءِ عَدَمُ
نِيَّةِ التَّقَرُّبِ ، فَإِنَّ السَّبَبَ عِنْدَهُ لَيْسَ إلَّا إقَامَةَ
الْقُرْبَةِ بِالنِّيَّةِ وَلَمْ تُوجَدْ ، وَكَانَ هَذَا السَّبَبُ
مُتَعَيِّنًا كَالسَّبَبِ فِي وَلَدِ الْغَصْبِ فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ
بِانْتِفَائِهِ .
وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ إسْقَاطُ الْفَرْضِ عَنْ الْبَعْضِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ ، فَإِنَّ الْمَاءَ يَصِيرُ بِهِ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ النِّيَّةُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِسُقُوطِ الْفَرْضِ وَفِي بَقَاءِ الرَّجُلِ نَجِسًا لِبَقَاءِ الْحَدَثِ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ ( وَقِيلَ عِنْدَهُ نَجَاسَةُ الرَّجُلِ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ) ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمَّا لَمْ تُشْتَرَطْ لِسُقُوطِ الْفَرْضِ عِنْدَهُ سَقَطَ الْفَرْضُ بِالِانْغِمَاسِ وَصَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا وَالرَّجُلُ مُتَلَبِّسٌ بِهِ فَيَتَنَجَّسُ بِنَجَاسَتِهِ ( وَعَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ وَهُوَ أَوْفَقُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ ) لِكَوْنِهِ أَكْثَرَ مُنَاسَبَةً لِأَصْلِهِ ، فَعَلَى أَوَّلِ أَقْوَالِهِ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَلَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ، وَعَلَى الثَّانِي تَجُوزُ لَهُ الْقِرَاءَةُ دُونَ الصَّلَاةِ وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَعَلَى الثَّالِثِ يَجُوزُ كِلَاهُمَا ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَلَمْ يُوَسِّطْهُ كَمَا هُوَ حَقُّهُ لِزِيَادَةِ احْتِيَاجِهِ إلَى الْبَيَانِ بِسَبَبِ تَرْكِهِ أَصْلَهُ كَمَا بَيَّنَّا .
قَالَ ( وَكُلُّ إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ وَجَازَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ وَالْوُضُوءُ مِنْهُ إلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } " وَهُوَ بِعُمُومِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ ، وَلَا يُعَارَضُ بِالنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ الِانْتِفَاعِ مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ وَحُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جِلْدِ الْكَلْبِ وَلَيْسَ الْكَلْبُ بِنَجِسِ الْعَيْنِ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا ، بِخِلَافِ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ ، إذْ الْهَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنَّهُ رِجْسٌ } مُنْصَرِفٌ إلَيْهِ لِقُرْبِهِ وَحُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِأَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ لِكَرَامَتِهِ فَخَرَجَا عَمَّا رَوَيْنَا ثُمَّ مَا يَمْنَعُ النَّتْنَ وَالْفَسَادَ فَهُوَ دِبَاغٌ وَإِنْ كَانَ تَشْمِيسًا أَوْ تَتْرِيبًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ غَيْرِهِ
قَالَ ( وَكُلُّ إهَابٍ
دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ ) يَتَعَلَّقُ بِدِبَاغِ الْإِهَابِ ثَلَاثُ
مَسَائِلَ : طَهَارَتُهُ ، وَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِكِتَابِ الصَّيْدِ
وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِكِتَابِ الصَّلَاةِ :
وَالْوُضُوءُ مِنْهُ بِأَنْ يُجْعَلَ قُرْبَةً وَبِهِ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا
الْبَابِ ، وَإِنَّمَا قَالَ وَالصَّلَاةُ فِيهِ بِأَنْ يُجْعَلَ ثَوْبًا
وَلَمْ يَقُلْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَجْعَلَ مُصَلَّى وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ .
فِيهِمَا
وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ فِي الثَّوْبِ بَيَانٌ فِي الْمُصَلَّى
لِزِيَادَةِ الِاشْتِمَالِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَثِيَابَك فَطَهِّرْ } وَطَهَارَةُ الْمَكَانِ مُلْحَقَةٌ بِهِ
بِالدَّلَالَةِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحُكْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ وَإِنْ
كَانَ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ الْأَوَّلِ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ
فَإِنَّهُ يَقُولُ : يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ فَيُصَلَّى
عَلَيْهِ لَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْخِنْزِيرَ عَلَى الْآدَمِيِّ ؛
لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ إهَانَةٍ لِكَوْنِهِ فِي بَيَانِ
النَّجَاسَةِ وَتَأْخِيرِ الْآدَمِيِّ فِي ذَلِكَ أَوْلَى ، وَاسْتَدَلَّ
عَلَى الطَّهَارَةِ دُونَ الْآخَرَيْنِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا يَسْتَلْزِمُ
ثُبُوتَهُمَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا
إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } ( وَهُوَ بِعُمُومِهِ ) لِكَوْنِهِ نَكِرَةً
اتَّصَفَتْ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ ( حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي جِلْدِ
الْمَيْتَةِ ) فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَا يَطْهُرُ لَكِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ
فِي الْجَامِدِ مِنْ الْأَشْيَاءِ دُونَ الْمَانِعِ فَيُعْمَلُ جِرَابًا
لِلْحُبُوبِ دُونَ السَّمْنِ وَالْخَلِّ وَغَيْرِهِمَا .
فَإِنْ قِيلَ :
جِلْدُ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ خَارِجٌ عَنْ عُمُومِهِ فَيَجُوزُ أَنْ
يُخَصَّ مِنْهُ جِلْدُ الْمَيْتَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ أَوْ بِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ
بِإِهَابٍ } أُجِيبَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِيهِ إبْطَالُ النَّصِّ وَهُوَ
قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ }
الْحَدِيثَ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْجِلْدَ الطَّاهِرَ لَيْسَ مِمَّا
نَحْنُ فِيهِ
بِالِاتِّفَاقِ ، وَجِلْدُ الْآدَمِيِّ وَالْخِنْزِيرِ
خَارِجَانِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَلَوْ خَرَجَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ
أَيْضًا لَزِمَ إبْطَالُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ
وَالنَّهْيُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْإِهَابِ وَهُوَ اسْمٌ لِجِلْدٍ غَيْرِ
مَدْبُوغٍ كَذَا قَالَ الْخَلِيلُ وَالْأَصْمَعِيُّ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ
دَاخِلًا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ } لِيَجُوزَ
تَخْصِيصُهُ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ .
قَوْلُهُ
: ( وَحُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ حُجَّةٌ عَلَى
مَالِكٍ ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ بِعَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ
الْكَلْبِ بِالدِّبَاغِ ، وَتَخْصِيصُ الْكَلْبِ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَ
فِي الْأَسْرَارِ ، وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ كُلَّ مَا لَا
يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ قِيَاسًا عَلَى جِلْدِ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ ، وَعَلَى
هَذَا لَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَيْسَ
الْكَلْبُ بِنَجِسِ الْعَيْنِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ
الْكَلْبَ عَلَى الْخِنْزِيرِ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي كَوْنِ الْكَلْبِ نَجِسَ الْعَيْنِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ .
قَالَ
شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي مَبْسُوطِهِ : وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ
عِنْدَنَا أَنَّ عَيْنَ الْكَلْبِ نَجِسٌ ، إلَيْهِ يُشِيرُ مُحَمَّدٌ فِي
الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ : وَلَيْسَ الْمَيِّتُ بِأَنْجَسَ مِنْ الْكَلْبِ
وَالْخِنْزِيرِ .
قِيلَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ
؛ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا وَلَيْسَ نَجِسَ
الْعَيْنِ كَذَلِكَ ، وَلَا يُشْكِلُ بِالسِّرْقِينِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ لَا
مَحَالَةَ وَيُنْتَفَعُ بِهِ إيفَادًا وَغَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ
بِالْإِهْلَاكِ ، وَهُوَ جَائِزٌ كَالدُّنُوِّ مِنْ الْخَمْرِ
لِلْإِرَاقَةِ ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ .
وَقَوْلُهُ : (
بِخِلَافِ الْخِنْزِيرِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ إلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ (
؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ ، إذْ الْهَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى {
فَإِنَّهُ رِجْسٌ } عَائِدٌ إلَيْهِ لِقُرْبِهِ ) فَإِنْ قِيلَ
الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ فِي الْكَلَامِ هُوَ الْمُضَافُ فَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ الضَّمِيرُ .
أُجِيبَ
بِأَنَّ الْمُضَافَ إلَيْهِ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ
مَثَلًا رَأَيْت ابْنَ زَيْدٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ وَحَرَّضْته
عَلَى الِاشْتِغَالِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إلَى الْمُضَافِ ؛
لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فَأَخْبَرْته بِأَنَّ
ابْنَك هَذَا فَاضِلٌ فَيَكُونُ رَاجِعًا إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ
بَعْدِ مِيثَاقِهِ } فَإِنَّ الضَّمِيرَ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى كُلٍّ
مِنْ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ وَرُجُوعُهُ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ
فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَشْمَلَ لِلْإِجْزَاءِ
وَأَحْوَطَ فِي الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ إنْ رَجَعَ إلَى اللَّحْمِ
لَمْ يَحْرُمْ غَيْرُهُ ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ حَرُمَ ،
فَغَيْرُ اللَّحْمِ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْرُمَ وَأَلَّا يَحْرُمَ
فَيَحْرُمُ احْتِيَاطًا وَذَلِكَ بِرُجُوعِ الضَّمِيرِ إلَى الْمُضَافِ
إلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَحُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِأَجْزَاءِ
الْآدَمِيِّ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَالْآدَمِيُّ ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ
بِخِلَافِ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالدَّبْغِ
لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ وَجِلْدُ الْآدَمِيِّ ( لِكَرَامَتِهِ ) لِئَلَّا
يَتَجَاسَرَ النَّاسُ عَلَى مَنْ كَرَّمَهُ اللَّهُ بِابْتِذَالِ
أَجْزَائِهِ .
( فَخَرَجَا عَمَّا رَوَيْنَا ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ } الْحَدِيثَ ،
فَإِنْ قُلْت : مَا وَجْهُ خُرُوجِهِمَا عَنْ الْمَرْوِيِّ ، هَلْ هُوَ
تَخْصِيصٌ فَيَحْتَاجُ إلَى مُخَصِّصٍ مُقَارِنٍ عَلَى مَا هُوَ
الْمَذْهَبُ ، أَمْ نَسْخٌ فَيَحْتَاجُ إلَى نَاسِخٍ مُتَأَخِّرٍ ؟ قُلْت :
عَدَمُ طَهَارَتِهِمَا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ ، فَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا
عَنْ الْحَدِيثِ فَهُوَ نَاسِخٌ لَا مَحَالَةَ ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا
عَلَيْهِ مَنَعَ التَّنَاوُلَ لِتَقَرُّرِهِ فِي الشَّرْعِ ، وَخَبَرُ
الْوَاحِدِ لَا يُعَارِضُهُ فَضْلًا أَنْ يَنْسَخَهُ ، وَإِنْ كَانَ
مُقَارِنًا صَارَ مُتَخَصِّصًا ،
وَالْخُرُوجُ عَنْ حُكْمِ الْحَدِيثِ ثَابِتٌ فِي الْجَمِيعِ فَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ فَخَرَجَا .
وَقَوْلُهُ
: ( ثُمَّ مَا يَمْنَعُ النَّتْنَ وَالْفَسَادَ ) بَيَانٌ لِمَا يُدْبَغُ
بِهِ ذَكَرَهُ اسْتِطْرَادًا بَعْدَ ذِكْرِ الدِّبَاغَةِ .
قَالَ
مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ
حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : كُلُّ شَيْءٍ يَمْنَعُ الْجِلْدَ مِنْ
الْفَسَادِ ( فَهُوَ دِبَاغٌ ) فَيَتَنَاوَلُ التَّشْمِيسَ وَالتَّتْرِيبَ (
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ) وَهُوَ مَنْعُ الْفَسَادِ بِإِزَالَةِ
الرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ ( يَحْصُلُ بِذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ
غَيْرِهِ ) مِنْ قَرَظٍ أَوْ عَفْصٍ أَوْ شَثٍّ أَوْ نَحْوِهَا كَمَا
شَرَطَهُ الشَّافِعِيُّ .
، ثُمَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدَّبَّاغِ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الدَّبَّاغِ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَةِ النَّجِسَةِ ، وَكَذَلِكَ يَطْهُرُ لَحْمُهُ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا .
( ثُمَّ
مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ ) يَعْنِي
الذَّكَاةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ الْأَهْلِ بِالتَّسْمِيَةِ ، فَإِنَّ ذَكَاةَ
الْمَجُوسِيِّ لَيْسَتْ مُطَهِّرَةً ، وَذَكَرَ الضَّمِيرَ فِي (
لِأَنَّهُ ) لِأَنَّ الذَّكَاةَ بِمَعْنَى الذَّبْحِ ، وَإِنَّمَا (
تَعْمَلُ عَمَلَ الدِّبَاغِ فِي إزَالَةِ الرُّطُوبَاتِ النَّجِسَةِ ) ؛
لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ اتِّصَالِهَا بِهِ ، وَالدِّبَاغُ مُزِيلٌ بَعْدَ
الِاتِّصَالِ ، وَلَمَّا كَانَ الدِّبَاغُ بَعْدَ الِاتِّصَالِ مُزِيلًا
وَمُطَهِّرًا كَانَتْ الذَّكَاةُ الْمَانِعَةُ مِنْ الِاتِّصَالِ أَوْلَى
أَنْ تَكُونَ مُطَهِّرَةً .
وَقَوْلُهُ : ( وَكَذَلِكَ يَطْهُرُ
لَحْمُهُ ) أَيْ لَحْمُ مَا ذُبِحَ حَتَّى إذَا صَلَّى وَمَعَهُ مِنْ
لَحْمِ الثَّعْلَبِ الْمَذْبُوحِ أَوْ نَحْوِهِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ
الدِّرْهَمِ جَازَتْ صَلَاتُهُ .
وَقَوْلُهُ : ( هُوَ الصَّحِيحُ )
احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ إنَّهُ نَجَسٌ ؛
لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِيمَا يَصْلُحُ لِلْأَكْلِ لَا لِكَرَامَتِهِ دَلِيلُ
النَّجَاسَةِ وَلَزِمَهُمْ طَهَارَةُ الْجِلْدِ مَعَ اتِّصَالِ اللَّحْمِ
بِهِ .
وَأَجَابُوا بِأَنَّ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ جِلْدَةٌ
رَقِيقَةٌ تَمْنَعُ مُمَاسَّةَ اللَّحْمِ الْجَلْدَ الْغَلِيظَ فَلَا
يَنْجُسُ ، وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ وَصَحَّحَهُ هُوَ
الْمَنْقُولُ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ التُّحْفَةِ ،
وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ يَطْهُرُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا
وَاللَّحْمُ مُتَّصِلٌ بِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ نَجِسًا ، وَمُلَاقَاةُ
النَّجِسِ الطَّاهِرَ مُنَجِّسَةٌ فَكَيْفَ بِالِاتِّصَالِ الَّذِي لَا
يَزُولُ إلَّا بِالسِّكِّينِ ، وَمَا قِيلَ مِنْ الْجِلْدَةِ الرَّقِيقَةِ
مُتَوَهَّمٌ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِهِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ
طَاهِرَةً أَوْ نَجِسَةً ، وَلَا يُحَسُّ عِنْدَ السَّلْخِ بَيْنَ
الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ أَمْرٌ ثَالِثٌ لَا مَحَالَةَ ، فَهِيَ إمَّا
مُتَّصِلَةٌ بِاللَّحْمِ أَوْ الْجِلْدِ ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً
بِاللَّحْمِ فَلَيْسَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً ، وَاللَّحْمُ
نَجِسٌ فَتَكُونُ نَجِسَةً ، وَالْجِلْدُ الْغَلِيظُ مُتَّصِلٌ بِهِ
أَيْضًا فَلَا يَكُونُ طَاهِرًا
لَكِنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ طَاهِرٌ ،
وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِالْجِلْدِ فَلَيْسَ يُتَصَوَّرُ أَنْ
تَكُونَ نَجِسَةً وَالْجِلْدُ طَاهِرٌ فَتَكُونُ طَاهِرَةً ، وَاللَّحْمُ
مُتَّصِلٌ بِهِ أَيْضًا فَكَيْفَ تَكُونُ نَجِسًا ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ لَا
يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي حَمَلَ الْمُصَنِّفَ
عَلَى تَصْحِيحِ رِوَايَةِ طَهَارَةِ اللَّحْمِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ
قَوْلِهِمْ إنَّ الْحُرْمَةَ فِيمَا يَصْلُحُ لِلْأَكْلِ لَا لِلْكَرَامَةِ
دَلِيلُ النَّجَاسَةِ أَنَّهُ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنَّ عِلَّةَ النَّجَاسَةِ
هُوَ اخْتِلَاطُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ بِأَجْزَائِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ
كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهِيَ عِلَّةٌ مُتَعَيِّنَةٌ قَدْ انْتَفَتْ هَاهُنَا
بِالذَّبْحِ فَتَنْتَفِي النَّجَاسَةُ كَمَا قُلْنَا فِي وَلَدِ
الْمَغْصُوبِ .
قَالَ ( وَشَعْرُ الْمَيْتَةِ وَعَظْمُهَا طَاهِرٌ )
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : نَجِسٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ
الْمَيْتَةِ ، وَلَنَا أَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِمَا وَلِهَذَا لَا
يَتَأَلَّمُ بِقَطْعِهِمَا فَلَا يَحُلُّهُمَا الْمَوْتُ ، إذْ الْمَوْتُ
زَوَالُ الْحَيَاةِ .وَقَوْلُهُ : ( وَشَعْرُ الْمَيْتَةِ وَعَظْمُهَا )
وَعَصَبُهَا ( طَاهِرٌ ) ذَكَرَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي
الْمَاءِ هَلْ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ أَوْ لَا ؟ عِنْدَنَا يَجُوزُ بِهِ
الْوُضُوءُ لِكَوْنِهَا طَاهِرَةً .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ نَجِسٌ ( ؛
لِأَنَّهُ ) أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ )
وَالْمَيِّتُ نَجِسٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ
أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ نَجِسٌ ، بَلْ النَّجِسُ
مِنْهُ مَا كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ زَالَتْ بِالْمَوْتِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ
لَا حَيَاةَ فِيهَا حَتَّى لَا يَتَأَلَّمَ بِقَطْعِهَا الْحَيَوَانُ ،
فَإِنَّ قَطْعَ قَرْنِ الْبَقَرَةِ لَا يُؤْلِمُهَا وَجَزُّ صُوفِ
الْغَنَمِ كَذَلِكَ فَلَا يُحِلُّهَا الْمَوْتُ إذْ الْمَوْتُ زَوَالُ
الْحَيَاةِ ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ
تَقَابُلُ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ :
هُمَا صِفَتَانِ وُجُودِيَّتَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَيَاةَ } وَالْمَخْلُوقُ لَا يَكُونُ عَدَمًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلْقِ التَّقْدِيرُ وَالْعَدَمُ مُقَدَّرٌ .
لَا
يُقَالُ : مَا ذُكِرَ تَمَّ مِنْ الدَّلِيلِ اسْتِدْلَالٌ فِي مُقَابَلَةِ
النَّصِّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ
وَهِيَ رَمِيمٌ } وَلَا خَفَاءَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ فِي الْعَظْمِ
حَيَاةً ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ يُحْيِي صَاحِبَ الْعِظَامِ .
(
وَشَعْرُ الْإِنْسَانِ وَعَظْمُهُ طَاهِرٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ :
نَجِسٌ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَلَنَا
أَنَّ عَدَمَ الِانْتِفَاعِ وَالْبَيْعِ لِكَرَامَتِهِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى
نَجَاسَتِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .( وَشَعْرُ الْإِنْسَانِ وَعَظْمُهُ
طَاهِرٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : نَجِسٌ ؛ لِأَنَّهُ
لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ) مَعَ إمْكَانِ
الِانْتِفَاعِ بِهِ فَكَانَ نَجِسًا ( وَلَنَا أَنَّ حُرْمَةَ
الِانْتِفَاعِ بِهِ وَالْبَيْعِ لِكَرَامَتِهِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى
نَجَاسَتِهِ ) وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ شَعْرَهُ وَقَسَّمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ }
وَذَلِكَ دَلِيلُ طَهَارَتِهِ .
.
( فَصْلٌ فِي الْبِئْرِ ) ( وَإِذَا وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةٌ نُزِحَتْ وَكَانَ نَزْحُ مَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ طَهَارَةً لَهَا ) بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ ، وَمَسَائِلُ الْآبَارِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْآثَارِ دُونَ الْقِيَاسِ
فَصْلٌ فِي الْبِئْرِ ) لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْمَاءِ
الْقَلِيلِ بِأَنَّهُ يَتَنَجَّسُ كُلُّهُ عِنْدَ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ
فِيهِ حَتَّى يُرَاقَ كُلُّهُ وَرَدَ عَلَيْهِ مَاءُ الْبِئْرِ نَقْضًا فِي
أَنَّهُ لَا يُنْزَحُ كُلُّهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَذَكَرَ مَاءَ
الْبِئْرِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ بَيَانًا لِوَجْهِ الْمُخَالَفَةِ .
قَوْلُهُ
: ( وَإِذَا وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةٌ نُزِحَتْ ) قِيلَ نُزِحَتْ
الْبِئْرُ : أَيْ مَاؤُهَا بِحَذْفِ الْمُضَافِ لِعَدَمِ الْإِلْبَاسِ
لِمَا أَنَّ نَزْحَ عَيْنِ الْبِئْرِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَبِنَزْحِ
النَّجَاسَةِ لَا يَتِمُّ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ فَتَعَيَّنَ مَا قُلْنَاهُ
، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْإِسْنَادِ الظَّاهِرِيِّ ؛ وَلِأَنَّ
قَوْلَهُ ( وَكَانَ نَزْحُ مَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ طَهَارَةً لَهَا )
دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَا ، فَكَانَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ إطْلَاقِ اسْمِ
الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ كَقَوْلِهِمْ جَرَى النَّهْرُ كَذَا فِي
النِّهَايَةِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ
لِإِخْرَاجِ النَّجَاسَةِ ذِكْرٌ وَلَا تَطْهُرُ الْبِئْرُ إلَّا
بِإِخْرَاجِهَا ، وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ إلَى أَنَّ
ضَمِيرَ نُزِحَتْ لِلنَّجَاسَةِ ، وَجَوَابُ " إذَا " هُوَ الْمَجْمُوعُ
مِنْ قَوْلِهِ نُزِحَتْ إلَى قَوْلِهِ طَهَارَةً لَهَا ، وَيَكُونُ
تَقْدِيرُهُ نُزِحَتْ النَّجَاسَةُ ، وَكَانَ نَزْحُ مَا فِيهَا مِنْ
الْمَاءِ طَهَارَةً لَهَا .
وَأَقُولُ : التَّرْكِيبُ الْجَزْلُ عَلَى
هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ نُزِحَتْ النَّجَاسَةُ وَالْمَاءُ وَكَانَ
نَزْحُ مَا فِيهَا إلَخْ ، وَلَوْ جَعَلْنَا نُزِحَتْ فِي الْحَقِيقَةِ
مُسْنَدٌ إلَى مَا حَتَّى يَعُودَ الْمَعْنَى نُزِحَتْ مَا فِي الْبِئْرِ
لِيَتَنَاوَلَ النَّجَاسَةَ وَالْمَاءَ جَمِيعًا ، وَكَانَ مِنْ بَابِ
جَرَى النَّهْرُ انْدَفَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ .
وَقَوْلُهُ : وَكَانَ
نَزْحُ مَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ طَهَارَةً لَهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ
يَطْهُرُ بِمُجَرَّدِ النَّزْحِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى غَسْلِ
الْأَحْجَارِ وَنَقْلِ الْأَوْحَالِ ، وَالْمُرَادُ بِالسَّلَفِ
الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ( وَمَسَائِلُ الْآبَارِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى
اتِّبَاعِ الْآثَارِ دُونَ
الْقِيَاسِ ) ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ
أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ تُطَمَّ الْبِئْرُ كُلُّهَا طَمًّا
لِتَنَجُّسِ الْأَوْحَالِ وَالْجُدْرَانِ ، وَإِمَّا أَلَّا تَنْجُسَ
أَبَدًا إذْ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهِ فَكَانَ كَالْمَاءِ
الْجَارِي .
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : اتَّفَقَ رَأْيِي
وَرَأْيِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ فِي حُكْمِ الْمَاءِ
الْجَارِي ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ وَاتَّبَعْنَا الْآثَارَ .
(
فَإِنْ وَقَعَتْ فِيهَا بَعْرَةٌ أَوْ بَعْرَتَانِ مِنْ بَعْرِ الْإِبِلِ
أَوْ الْغَنَمِ لَمْ تُفْسِدْ الْمَاءَ ) اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ
أَنْ تُفْسِدَهُ لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ .
وَجْهُ
الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ آبَارَ الْفَلَوَاتِ لَيْسَتْ لَهَا رُءُوسٌ
حَاجِزَةٌ وَالْمَوَاشِي تَبْعَرُ حَوْلَهَا فَتُلْقِيهَا الرِّيحُ فِيهَا
فَجَعَلَ الْقَلِيلَ عَفْوًا لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي
الْكَثِيرِ ، وَهُوَ مَا يَسْتَكْثِرُهُ النَّاظِرُ إلَيْهِ فِي
الْمُرَوِّي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَلَيْهِ
الِاعْتِمَادُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَالصَّحِيحِ
وَالْمُنْكَسِرِ وَالرَّوْثِ وَالْخِثْيِ وَالْبَعْرِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ
تَشْمَلُ الْكُلَّ
قَوْلُهُ : ( فَإِنْ وَقَعَتْ ) إشَارَةٌ إلَى مَا يَجِبُ نَزْحُهُ مِنْ الْمَاءِ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ النَّجَاسَةِ .
وَقَوْلُهُ
: ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ) هُوَ أَحَدُ وَجْهَيْ الِاسْتِحْسَانِ
وَهُوَ الضَّرُورَةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ، وَلَا فَرْقَ عَلَى هَذَا
الْوَجْهِ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَالصَّحِيحِ وَالْمُنْكَسِرِ
وَرَوْثِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ وَالْفَلَوَاتِ ، فَإِنَّ آبَارَ
الْأَمْصَارِ وَخَثَى الْبَقَرِ وَالْجَامُوسِ وَبَعْرَ الْإِبِلِ
وَالْغَنَمِ لِشُمُولِهَا الضَّرُورَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْكِتَابِ ،
لَكِنْ يُفَرَّقُ بَيْنَ آبَارِ الْأَمْصَارِ وَالْفَلَوَاتِ فَإِنَّ
آبَارَ الْأَمْصَارِ لَهَا رُءُوسٌ حَاجِزَةٌ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ
الْبَعْرَةَ شَيْءٌ صُلْبٌ وَعَلَى ظَاهِرِهَا رُطُوبَةُ الْأَمْعَاءِ لَا
يَتَدَاخَلُ الْمَاءُ فِي أَجْزَائِهَا ، وَعَلَى هَذَا لَا يُفَرَّقُ
بَيْنَ آبَارِ الْأَمْصَارِ وَالْفَلَوَاتِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الصَّحِيحِ
وَالْمُنْكَسِرِ ، فَإِنَّ الْمُنْكَسِرَ تَتَدَاخَلُهُ أَجْزَاءُ
النَّجَاسَةِ فَتُفْسِدُهُ ، وَكَذَا الْبَعْرُ وَالرَّوْثُ وَالْخَثَى ؛
لِأَنَّ الرَّوْثَ وَالْخَثَى لَا صَلَابَةَ لَهُمَا فَيَتَدَاخَلُ
الْمَاءُ فِي أَجْزَائِهِمَا فَيَنْجَسُ الْمَاءُ .
وَإِذَا عَرَفَتْ
هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ اخْتِلَافَ أَقْوَالِ الْمَشَايِخِ فِي جَعْلِ
الْكُلِّ غَيْرَ مُفْسِدٍ وَجَعْلِ بَعْضِهِ مُفْسِدًا دُونَ بَعْضٍ
مَرْجِعُهُ إلَى وَجْهَيْ الِاسْتِحْسَانِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَلَا
ضَرُورَةَ فِي الْكَثِيرِ ) هُوَ أَيْضًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ،
وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَيَقْتَضِي عَدَمَ التَّفْرِقَةِ
بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَابَةَ وَالْإِمْسَاكَ فِي
الْجَمِيعِ مَوْجُودٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَهُوَ مَا يَسْتَكْثِرُهُ
النَّاظِرُ ) إشَارَةٌ إلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ فِي حَدِّ
الْكَثْرَةِ ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْكَثِيرُ هُوَ أَنْ
يُغَطَّى وَجْهُ رُبْعِ الْمَاءِ ، وَقِيلَ وَجْهُ أَكْثَرِهِ ، وَقِيلَ
أَلَّا يَخْلُوَ دَلْوٌ مِنْ بَعْرَةٍ .
وَقَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ : ذَكَرَ الْبَعْرَتَيْنِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الثَّلَاثَ كَثِيرَةٌ ، وَإِنَّمَا قَالَ (
وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ ) ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقَدِّرُ شَيْئًا بِالرَّأْيِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى التَّقْدِيرِ فَكَانَ هَذَا مُوَافِقًا لِمَذْهَبِهِ فَلِهَذَا قَالَ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ .
وَفِي الشَّاةِ تَبْعَرُ
فِي الْمِحْلَبِ بَعْرَةً أَوْ بَعْرَتَيْنِ قَالُوا تُرْمَى الْبَعْرَةُ
وَيُشْرَبُ اللَّبَنُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ ، وَلَا يُعْفَى الْقَلِيلُ
فِي الْإِنَاءِ عَلَى مَا قِيلَ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ .
وَعَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّهُ كَالْبِئْرِ فِي حَقِّ
الْبَعْرَةِ وَالْبَعْرَتَيْنِوَقَوْلُهُ : ( تُرْمَى الْبَعْرَةُ
وَيُشْرَبُ اللَّبَنُ ) مَعْنَاهُ لَا يَنْجَسُ إذَا رُمِيَتْ قَبْلَ أَنْ
يَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ :
لَا تَنْجُسُ إذَا رُمِيَتْ مِنْ سَاعَتِهَا وَلَمْ يَبْقَ لَهَا لَوْنٌ
لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهَا أَنَّهَا تَبْعَرُ
عِنْدَ الْحَلْبِ ، وَلِلضَّرُورَةِ أَثَرٌ فِي إسْقَاطِ حُكْمِ
النَّجَاسَةِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ ) أَيْ
الْإِنَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْبِئْرِ فِي عَدَمِ تَنَجُّسِ الْإِنَاءِ
بِالْبَعْرَةِ وَالْبَعْرَتَيْنِ .
.
( فَإِنْ وَقَعَ فِيهَا خَرْءُ الْحَمَامِ أَوْ الْعُصْفُورِ لَا يُفْسِدُهُ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
لَهُ أَنَّهُ اسْتَحَالَ إلَى نَتَنٍ وَفَسَادٍ فَأَشْبَهَ خَرْءَ الدَّجَاجِ .
وَلَنَا
إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى اقْتِنَاءِ الْحَمَامَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ
مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِهَا وَاسْتِحَالَتِهِ لَا إلَى نَتْنِ
رَائِحَةٍ فَأَشْبَهَ الْحَمْأَةَ
قَالَ ( فَإِنْ وَقَعَ فِيهَا خَرْءُ الْحَمَامِ أَوْ الْعُصْفُورِ ) خَرْءُ الْحَمَامِ أَوْ الْعُصْفُورِ طَاهِرٌ عِنْدَنَا .
وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ نَجِسٌ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّهُ غِذَاءٌ
اسْتَحَالَ إلَى نَتْنٍ وَفَسَادٍ ، فَإِنَّ مَا يُحِيلُهُ الطَّبْعُ مِنْ
الْغِذَاءِ عَلَى نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ يُحِيلُهُ إلَى نَتْنٍ وَفَسَادٍ
كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَهُوَ نَجِسٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَنَوْعٌ
يُحِيلُهُ إلَى صَلَاحٍ كَالْبَيْضِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ .
وَهَذَا مِنْ نَوْعِ الْأَوَّلِ فَأَشْبَهَ خَرْءَ الدَّجَاجِ وَهُوَ نَجِسٌ بِالِاتِّفَاقِ .
وَاسْتَحْسَنَ
عُلَمَاؤُنَا طَهَارَتَهُ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّ الصَّدْرَ
الْأَوَّلَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى اقْتِنَاءِ الْحَمَامَاتِ
فِي الْمَسَاجِدِ حَتَّى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ
بِتَطْهِيرِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي } الْآيَةَ ،
وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ
صِبْيَانَكُمْ } وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى عَدَمِ
نَجَاسَتِهِ ، وَأَصْلُهُ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَرَ الْحَمَامَةَ وَقَالَ
إنَّهَا أَوْكَرَتْ عَلَى بَابِ الْغَارِ حَتَّى سَلِمْت فَجَازَاهَا
اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَ الْمَسَاجِدَ مَأْوَاهَا } وَقَوْلُهُ : (
وَاسْتِحَالَتُهُ لَا إلَى نَتْنٍ ) جَوَابُ الشَّافِعِيِّ .
وَوَجْهُهُ
أَنَّ مُوجِبَ التَّنَجُّسِ النَّتْنُ وَالْفَسَادُ وَالنَّتْنُ هُنَا
غَيْرُ مَوْجُودٍ وَانْتِفَاءُ الْجُزْءِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْكُلِّ
.
فَإِنْ قَالَ الْفَسَادُ وَحْدَهُ مِمَّا يُوجِبُهُ .
قُلْنَا
مَنْقُوضٌ بِالْمَنِيِّ فَإِنَّهُ قَدْ فَسَدَ وَهُوَ طَاهِرٌ ، وَسَائِرُ
الْأَطْعِمَةِ تَفْسُدُ بِطُولِ الْمُكْثِ وَلَا تَنْجُسُ ، عَلَى أَنَّهُ
إنْ تَنَجَّسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ سَقَطَ لِلضَّرُورَةِ .
وَقَوْلُهُ : ( فَأَشْبَهَ الْحَمْأَةَ ) يَعْنِي فِي النَّتْنِ دُونَ الْفَسَادِ .
( فَإِنْ بَالَتْ فِيهَا شَاةٌ نُزِحَ الْمَاءُ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ
مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُنْزَحُ إلَّا إذَا غَلَبَ عَلَى
الْمَاءِ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَهُورًا ) وَأَصْلُهُ أَنَّ بَوْلَ
مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ عِنْدَهُ نَجِسٌ عِنْدَهُمَا .
لَهُ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ
الْعُرَنِيِّينَ بِشُرْبِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا } "
وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اسْتَنْزِهُوا مِنْ
الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ } " مِنْ غَيْرِ
فَصْلٍ وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ إلَى نَتَنٍ وَفَسَادٍ فَصَارَ كَبَوْلِ
مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَرَفَ شِفَاءَهُمْ فِيهِ وَحْيًا ، ثُمَّ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ
لِلتَّدَاوِي وَلَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا يُتَيَقَّنُ بِالشِّفَاءِ
فِيهِ فَلَا يَعْرِضُ عَنْ الْحُرْمَةِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى يَحِلُّ لِلتَّدَاوِي لِلْقِصَّةِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
يَحِلُّ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِهِ لِطَهَارَتِهِ عِنْدَهُ .
وَقَوْلُهُ
: ( فَإِنْ بَالَتْ فِيهَا ) أَيْ فِي الْبِئْرِ ( شَاةٌ ) أَصْلُ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يُنَجِّسُهُ
وَيَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الْمَاءِ فَيَخْرُجُ
عَنْ طَهُورِيَّتِهِ نَجِسَ .
عِنْدَهُمَا إنْ وَقَعَ مِنْهُ قَطْرَةٌ فِي الْمَاءِ أَفْسَدَتْهُ ، وَالْكَثِيرُ الْفَاحِشُ مِنْهُ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ .
لِمُحَمَّدٍ
حَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ ، وَقِصَّتُهُ مَا رُوِيَ { أَنَّ قَوْمًا مِنْ
عُرَيْنَةَ تَصْغِيرِ عُرَنَةَ وَادٍ بِحِذَاءِ عَرَفَاتٍ سُمِّيَتْ بِهَا
قَبِيلَةٌ يُنْسَبُ إلَيْهَا الْعُرَنِيُّونَ بِحَذْفِ يَاءِ فَعِيلَةٍ
كَقَوْلِهِمْ الْجُهَنِيُّونَ أَتَوْا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا : أَيْ
لَمْ تُوَافِقْهُمْ فَاصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ وَانْتَفَخَتْ بُطُونُهُمْ
فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ
يَخْرُجُوا إلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ وَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا
وَأَلْبَانِهَا فَخَرَجُوا وَشَرِبُوا فَصَحُّوا ثُمَّ ارْتَدُّوا
وَقَتَلُوا الرُّعَاةَ وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَثَرِهِمْ قَوْمًا فَأُخِذُوا ،
فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَتَرَكَهُمْ
فِي شِدَّةِ الْحَرِّ حَتَّى مَاتُوا } .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِشُرْبِ أَبْوَالِ
الْإِبِلِ وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ حَرَامًا
، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } وَلَهُمَا
قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَنْزِهُوا مِنْ
الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ } وَوَجْهُ
الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ
بِاسْتِنْزَاهِ الْبَوْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ،
وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيَّعَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَكَانَ يَمْشِي
عَلَى رُءُوسِ
أَصَابِعِهِ مِنْ زِحَامِ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي
حَضَرَتْ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا وُضِعَ فِي الْقَبْر ضَغَطَتْهُ
الْأَرْضُ ضَغْطَةً كَادَتْ تَخْتَلِفُ أَضْلَاعُهُ ، فَسُئِلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَبِهِ فَقَالَ : إنَّهُ
كَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ الْبَوْلِ } وَلَمْ يُرِدْ بِهِ بَوْلَ
نَفْسِهِ ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَسْتَنْزِهْهُ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ ،
وَإِنَّمَا أَرَادَ بَوْلَ الْإِبِلِ عِنْدَ مُعَالَجَتِهَا .
وَقَوْلُهُ
: ( وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ إلَى نَتْنٍ ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ وَقَدْ
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَمَا رَوَاهُ مُحَمَّدٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فَقَدْ
ذَكَرَ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُمْ فِي شُرْبِ
أَلْبَانِ الْإِبِلِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَبْوَالَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي
حَدِيثِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ فَقَدْ دَارَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً
وَأَلَّا يَكُونَ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِهِ .
وَقِيلَ إنَّهُ
مَنْسُوخٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحَدِيثَيْنِ فِي التَّقْرِيرِ وَشَرْحِ
أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ
( وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَرَفَ شِفَاءَهُمْ فِيهِ وَحْيًا ) وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي زَمَانِنَا
فَلَا يَحِلُّ شُرْبُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَيَقَّنُ الشِّفَاءُ فِيهِ (
فَلَا يَعْرِضُ عَنْ الْحُرْمَةِ ) وَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى الْقِصَّةِ
فَقَالَ : يَحِلُّ لِلتَّدَاوِي لَا لِغَيْرِهِ .
وَمُحَمَّدٌ لَمَّا طَهَّرَهُ لَمْ يَبْقَ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّبَنِ فَيَحِلُّ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي وَغَيْرِهِ .
قَالَ
( وَإِنْ مَاتَتْ فِيهَا فَأْرَةٌ أَوْ عُصْفُورَةٌ أَوْ صَعْوَةٌ أَوْ
سُودَانِيَّةٌ أَوْ سَامٌّ أَبْرَصُ نُزِحَ مِنْهَا مَا بَيْنَ عِشْرِينَ
دَلْوًا إلَى ثَلَاثِينَ بِحَسَبِ كِبَرِ الدَّلْوِ وَصِغَرِهَا ) يَعْنِي
بَعْدَ إخْرَاجِ الْفَأْرَةِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {
أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَةِ إذَا مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ وَأُخْرِجَتْ
مِنْ سَاعَتِهَا نُزِحَ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا } وَالْعُصْفُورَةُ
وَنَحْوُهَا تُعَادِلُ الْفَأْرَةَ فِي الْجُثَّةِ فَأَخَذَتْ حُكْمَهَا ،
وَالْعِشْرُونَ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ وَالثَّلَاثُونَ بِطَرِيقِ
الِاسْتِحْبَابِ .
قَالَ ( فَإِنْ مَاتَتْ فِيهَا حَمَامَةٌ أَوْ
نَحْوُهَا كَالدَّجَاجَةِ وَالسِّنَّوْرِ نُزِحَ مِنْهَا مَا بَيْنَ
أَرْبَعِينَ دَلْوًا إلَى سِتِّينَ ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
أَرْبَعُونَ أَوْ خَمْسُونَ ) وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ قَالَ فِي
الدَّجَاجَةِ : إذَا مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ نُزِحَ مِنْهَا أَرْبَعُونَ
دَلْوًا } وَهَذَا لِبَيَانِ الْإِيجَابِ ، وَالْخَمْسُونَ بِطَرِيقِ
الِاسْتِحْبَابِ ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بِئْرٍ دَلْوُهَا الَّذِي
يُسْتَقَى بِهِ مِنْهَا ، وَقِيلَ دَلْوٌ يَسَعُ فِيهَا صَاعًا ، وَلَوْ
نُزِحَ مِنْهَا بِدَلْوٍ عَظِيمٍ مَرَّةً مِقْدَارُ عِشْرِينَ دَلْوًا
جَازَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ .
قَالَ ( وَإِنْ مَاتَتْ فِيهَا
فَأْرَةٌ أَوْ عُصْفُورَةٌ ) حَاصِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ
الْحَيَوَانَ الْوَاقِعَ فِي الْبِئْرِ لَا يَخْلُو مِنْ أَوْجُهٍ سَبْعَةٍ
: إمَّا أَنْ يَكُونَ فَأْرَةً أَوْ نَحْوَهَا ، أَوْ دَجَاجَةً أَوْ
نَحْوَهَا أَوْ شَاةً وَنَحْوَهَا ، وَكُلٌّ مِنْهَا إمَّا أَنْ يَخْرُجَ
حَيًّا أَوْ مَيِّتًا ، وَالْمَيِّتُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِخًا أَوْ
لَا ، فَمَا أُخْرِجَ حَيًّا لَا يُنَجِّسُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا إلَّا
الْخِنْزِيرُ لِكَوْنِهِ نَجِسَ الْعَيْنِ وَالْكَلْبُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ
بِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَيْسَ
بِنَجِسِ الْعَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمَا أُخْرِجَ مَيِّتًا فَفِي
الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْمَيِّتُ فِيهَا فَأْرَةً
أَوْ عُصْفُورَةً أَوْ صَعْوَةً .
قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ : الصَّعْوُ :
صِغَارُ الْعَصَافِيرِ الْوَاحِدَةُ صَعْوَةٌ ، وَالسَّوَادِيَّةُ :
طُوَيْرَةٌ طَوِيلَةُ الذَّنَبِ تَأْكُلُ الْعِنَبَ وَالْجَرَادَ .
وَسَامٌ
أَبْرَصُ : الْكَبِيرُ مِنْ الْوَزَغِ وَلَمْ يَنْتَفِخْ ( نُزِحَ مِنْهَا
مَا بَيْنَ عِشْرِينَ دَلْوًا إلَى ثَلَاثِينَ بِحَسَبِ كِبَرِ الدَّلْوِ
وَصِغَرِهَا ) قِيلَ الصَّاعُ كَبِيرٌ وَمَا دُونَهُ صَغِيرٌ : يَعْنِي
يَنْقُصُ عَنْ الْعِشْرِينَ فِي الْكَبِيرِ وَيُزَادُ عَلَيْهِ فِي
الصَّغِيرِ .
وَقَوْلُهُ : ( يَعْنِي بَعْدَ إخْرَاجِ الْفَأْرَةِ )
يَعْنِي أَنَّ النَّزْحَ إنَّمَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا إذَا كَانَ بَعْدَ
إخْرَاجِ الْفَأْرَةِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ نَجَاسَةِ الْبِئْرِ حُصُولُ
الْفَأْرَةِ الْمَيِّتَةِ فِيهَا فَلَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ
مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلنَّجَاسَةِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ
قَالَ فِي الْفَأْرَةِ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ وَأُخْرِجَتْ مِنْ
سَاعَتِهَا " يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا " وَالْعُصْفُورَةُ
حُكْمُهَا حُكْمُ الْفَأْرَةِ ، وَكَذَا حُكْمُ الْفَأْرَتَيْنِ حُكْمُ
الْوَاحِدَةِ إلَى الْأَرْبَعِ ، وَفِي الْخَمْسِ أَرْبَعُونَ إلَى
الْعُصْفُورِ ، وَفِي الْعَشْرِ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ فِيمَا
رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَالْعِشْرُونَ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ وَالثَّلَاثُونَ
بِطَرِيقِ
الِاسْتِحْبَابِ ) إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ
اخْتَلَفَتْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، فَوَرَدَ فِي بَعْضِ
الرِّوَايَاتِ يُنْزَحُ مِنْهَا دِلَاءٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ عِشْرُونَ ،
وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثُونَ ، وَفِي رِوَايَةٍ أَرْبَعُونَ ، فَإِنَّ
بَعْضَهُمْ أَوْجَبَ عِشْرِينَ وَبَعْضَهُمْ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ
وَبَعْضَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ ، فَأَخَذَ عُلَمَاؤُنَا
بِالْعِشْرِينِ ؛ لِأَنَّهُ الْوَسَطُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ،
وَكَانَ وَاجِبًا لِتَعَيُّنِهِ ، وَمَا زَادَ اسْتِحْبَابًا ، وَفِيهِ
نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي ثَلَاثِينَ فَلَمْ
يَتَعَيَّنْ عِشْرُونَ لِلْوُجُوبِ ، وَالْأَوْلَى مَا قِيلَ إنَّ
السُّنَّةَ جَاءَتْ فِي رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَأْرَةِ إذَا
وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ فَمَاتَتْ فِيهَا أَنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهَا
عِشْرُونَ دَلْوًا أَوْ ثَلَاثُونَ } هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عَلِيٍّ
الْحَافِظُ السَّمَرْقَنْدِيُّ بِإِسْنَادِهِ وَأَوْ لِأَحَدِ
الشَّيْئَيْنِ فَكَانَ الْأَقَلُّ ثَابِتًا بِيَقِينٍ وَهُوَ مَعْنَى
الْوُجُوبِ وَالْأَكْثَرُ يُؤْتَى بِهِ لِئَلَّا يُتْرَكَ اللَّفْظُ
الْمَرْوِيُّ وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ فِي الْعَمَلِ وَهُوَ
مَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ مَا يَكُونُ
الْمَيِّتُ فِيهَا حَمَامَةً أَوْ نَحْوَهَا كَالدَّجَاجَةِ وَالسِّنَّوْرِ
يُنْزَحُ مِنْهَا مَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ وَكَلَامُهُ
ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَهُوَ الْأَظْهَرُ ) قِيلَ ؛ لِأَنَّ
الْجَامِعَ الصَّغِيرَ آخِرُ الْمُصَنَّفَاتِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ
الْمَذْكُورُ فِيهِ هُوَ الْمَرْجُوعَ إلَيْهِ .
وَفِي الْوَجْهِ
الثَّالِثِ وَهُوَ مَا يَكُونُ الْمَيِّتُ فِيهَا شَاةً أَوْ آدَمِيًّا
أَوْ كَلْبًا يُنْزَحُ جَمِيعُ مَا فِيهَا وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ
: ( ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ ) تَفْسِيرٌ لِلدَّلْوِ فَإِنَّهُ ذَكَرَهَا
مُبْهَمَةً فَاحْتَاجَ إلَى تَفْسِيرِهَا وَقِيلَ دَلْوٌ يَسَعُ فِيهَا
صَاعٌ ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
قَوْلُهُ : ( وَلَوْ نُزِحَ مِنْهَا بِدَلْوٍ عَظِيمٍ مَرَّةً
مِقْدَارَ عِشْرِينَ دَلْوًا جَازَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ) وَهُوَ نَزْحُ الْمِقْدَارِ الَّذِي قَدَّرَهُ الشَّرْعُ .
قَالَ
فِي الْأَصْلِ إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ فَأْرَةٌ فَجَاءُوا بِدَلْوٍ
عَظِيمٍ يَسَعُ عِشْرِينَ دَلْوًا فَاسْتَقَوْا بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً
أَجْزَأَهُمْ ، وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ ؛ لِأَنَّ الْقَطْرَ الَّذِي يَعُودُ
مِنْهُ إلَى الْبِئْرِ أَقَلُّ .
وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا
يَطْهُرُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهُ بِتَوَاتُرِ الدِّلَاءِ يَصِيرُ
الْمَاءُ فِي مَعْنَى الْجَارِي .
وَقُلْنَا لَمَّا قَدَّرَ الشَّرْعُ
الدِّلَاءَ بِقَدْرٍ خَاصٍّ عَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْقَدْرُ
الْمَنْزُوحُ وَأَنَّ مَعْنَى الْجَرَيَانِ سَاقِطٌ وَذَلِكَ يَحْصُلُ
بِالدَّلْوِ الْعَظِيمِ ، هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَنْتَفِخْ الْحَيَوَانُ
وَلَمْ يَنْفَسِخْ ، .
قَالَ ( وَإِنْ مَاتَتْ فِيهَا شَاةٌ أَوْ كَلْبٌ أَوْ آدَمِيٌّ نُزِحَ جَمِيعُ مَا فِيهَا مِنْ الْمَاءِ ) لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَفْتَيَا بِنَزْحِ الْمَاءِ كُلِّهِ حِينَ مَاتَ زِنْجِيٌّ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ
(
فَإِنْ انْتَفَخَ الْحَيَوَانُ فِيهَا أَوْ تَفَسَّخَ نُزِحَ جَمِيعُ مَا
فِيهَا صَغَرَ الْحَيَوَانُ أَوْ كَبُرَ ) لِانْتِشَارِ الْبِلَّةِ فِي
أَجْزَاءِ الْمَاءِ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَتْ الْبِئْرُ مَعِينًا لَا
يُمْكِنُ نَزْحُهَا أَخْرَجُوا مِقْدَارَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ )
وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ أَنْ تُحْفَرَ حُفْرَةٌ مِثْلُ مَوْضِعِ الْمَاءِ
مِنْ الْبِئْرِ وَيُصَبُّ فِيهَا مَا يُنْزَحُ مِنْهَا إلَى أَنْ
تَمْتَلِئَ أَوْ تُرْسَلَ فِيهَا قَصَبَةٌ وَيُجْعَلَ لِمَبْلَغِ الْمَاءِ
عَلَامَةٌ ثُمَّ يُنْزَحُ مِنْهَا عَشْرُ دِلَاءٍ مَثَلًا ، ثُمَّ تُعَادُ
الْقَصَبَةُ فَيُنْظَرُ كَمْ اُنْتُقِصَ فَيُنْزَحُ لِكُلِّ قَدْرٍ مِنْهَا
عَشْرُ دِلَاءٍ ، وَهَذَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَنْ
مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ نَزْحُ مِائَتَا دَلْوٍ إلَى ثَلَثِمِائَةٍ
فَكَأَنَّهُ بَنَى قَوْلَهُ عَلَى مَا شَاهَدَ فِي بَلَدِهِ ، وَعَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي مِثْلِهِ مَا
يُنْزَحُ حَتَّى يَغْلِبَهُمْ الْمَاءُ وَلَمْ يُقَدِّرْ الْغَلَبَةَ
بِشَيْءٍ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ .
وَقِيلَ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ رَجُلَيْنِ لَهُمَا بَصَارَةٌ فِي أَمْرِ الْمَاءِ ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْفِقْهِ .
فَإِنْ
انْتَفَخَ أَوْ تَفَسَّخَ فِيهَا نُزِحَ جَمِيعُ مَا فِيهَا صَغُرَ
الْحَيَوَانُ أَوْ كَبُرَ لِانْتِشَارِ الْبِلَّةِ فِي أَجْزَاءِ الْمَاءِ ،
وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الِانْتِفَاخِ وَالتَّفَسُّخِ يَنْفَصِلُ
مِنْهُ بِلَّةٌ نَجِسَةٌ فَكَانَ كَالْقَطْرَةِ مِنْ الدَّمِ أَوْ
الْخَمْرِ يَنْتَشِرُ فِي الْمَاءِ ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي ذَنَبِ
الْفَأْرَةِ وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ : يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ ؛
لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ نَجَاسَةٍ مَائِعَةٍ
بِخِلَافِ الْفَأْرَةِ الصَّحِيحَةِ الْجَسَدِ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ
كَانَتْ الْبِئْرُ مَعِينًا ) يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمِيمُ زَائِدَةً
مِنْ عَنَتْ : أَيْ بَلَغَتْ الْعُيُونَ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ
أَصْلِيَّةً مِنْ مَعَنَتْ الْأَرْضُ : أَيْ رُوِيَتْ ، وَمَاءٌ مَعِينٌ :
أَيْ جَارٍ وَأَنْ يَكُونَ فَعِيلًا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ
مَعِينَةٌ ؛ لِأَنَّ الْبِئْرَ مُؤَنَّثَةٌ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا حَمْلًا
عَلَى اللَّفْظِ أَوْ تَوَهُّمِ أَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ،
وَقَوْلُهُ : ( لَا يُمْكِنُ نَزْحُهَا ) صِفَةٌ .
وَقَوْلُهُ : ( أَخْرَجُوا ) جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ .
وَقَوْلُهُ
: ( مِقْدَارُ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ
الِاعْتِبَارَ لِلْمَاءِ الَّذِي كَانَ زَمَنَ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ .
وَقَوْلُهُ
: ( فَيُنْزَحُ لِكُلِّ قَدْرٍ مِنْهَا عَشْرُ دِلَاءٍ ) حَتَّى إذَا
كَانَ طُولُ الْمَاءِ عَشْرَ قَبَضَاتٍ فَانْتَقَصَ لِعَشْرِ دِلَاءٍ
قَبْضَةً وَاحِدَةً يُعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْمَاءِ مِائَةُ دَلْوٍ
فَيُنْزَحُ تِسْعُونَ دَلْوًا أُخْرَى .
وَقَوْلُهُ : ( بَنَى جَوَابَهُ
عَلَى مَا شَاهَدَ فِي بَلَدِهِ ) ؛ لِأَنَّ بَلَدَهُ بَغْدَادُ وَغَالِبُ
مِيَاهِ آبَارِ بَغْدَادَ لَا تَزِيدُ عَلَى ثَلَثِمِائَةِ دَلْوٍ .
وَقَوْلُهُ
: ( وَلَمْ يُقَدِّرْ الْغَلَبَةَ بِشَيْءٍ ) ؛ لِأَنَّهَا مُتَفَاوِتَةٌ
وَالنَّزْحُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْعَجْزُ أَمْرٌ صَحِيحٌ فِي الشَّرْعِ ؛
لِأَنَّ الطَّاعَةَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ .
وَقَوْلُهُ : ( كَمَا هُوَ
دَأْبُهُ ) أَيْ عَادَتُهُ ، فَإِنَّ عَادَتَهُ أَنْ يُفَوِّضَ مِثْلَ
هَذَا إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ
مَا
يَسْتَكْثِرُهُ النَّاظِرُ وَكَمَا فِي حَبْسِ الْغَرِيمِ وَحَدِّ التَّقَادُمِ .
وَقَوْلُهُ
: ( وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْفِقْهِ ) أَيْ بِالْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطِ
مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِقَوْلِ الْغَيْرِ هُوَ
الْمَرْجِعُ فِيمَا لَمْ يَشْتَهِرْ مِنْ الشَّرْعِ فِيهِ تَقْدِيرٌ ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ } كَمَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ حَيْثُ قَالَ { يَحْكُمُ بِهِ
ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَالشَّهَادَةُ حَيْثُ قَالَ { وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَشَرْطُ الْبِصَارَةِ لَهُمَا فِي أَمْرِ
الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تُسْتَفَادُ مِمَّنْ لَهُ عِلْمٌ
بِهَا لِيَدْخُلَا تَحْتَ أَهْلِ الذِّكْرِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ : أَيْ
الْأَخْذُ بِقَوْلِ رَجُلَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ
سَلَّامٍ .
قَالَ ( وَإِنْ وَجَدُوا فِي الْبِئْرِ فَأْرَةً أَوْ
غَيْرَهَا وَلَا يُدْرَى مَتَى وَقَعَتْ وَلَمْ تَنْتَفِخْ وَلَمْ
تَنْفَسِخْ أَعَادُوا صَلَاةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إذَا كَانُوا تَوَضَّئُوا
مِنْهَا وَغَسَلُوا كُلَّ شَيْءٍ أَصَابَهُ مَاؤُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ
انْتَفَخَتْ أَوْ تَفَسَّخَتْ أَعَادُوا صَلَاةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
وَلَيَالِيِهَا ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا
: لَيْسَ عَلَيْهِمْ إعَادَةُ شَيْءٍ حَتَّى يَتَحَقَّقُوا مَتَى وَقَعَتْ
) لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ ، وَصَارَ كَمَنْ رَأَى فِي
ثَوْبِهِ نَجَاسَةً وَلَا يَدْرِي مَتَى أَصَابَتْهُ .
وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لِلْمَوْتِ سَبَبًا ظَاهِرًا وَهُوَ
الْوُقُوعُ فِي الْمَاءِ فَيُحَالُ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّ الِانْتِفَاخَ
وَالتَّفَسُّخَ دَلِيلُ التَّقَادُمِ فَيُقَدَّرُ بِالثَّلَاثِ ، وَعَدَمُ
الِانْتِفَاخِ وَالتَّفَسُّخِ دَلِيلُ قُرْبِ الْعَهْدِ فَقَدَّرْنَاهُ
بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ سَاعَاتٌ لَا يُمْكِنُ
ضَبْطُهَا ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ النَّجَاسَةِ فَقَدْ قَالَ الْمُعَلَّى :
هِيَ عَلَى الْخِلَافِ ، فَيُقَدَّرُ بِالثَّلَاثِ فِي الْبَالِي
وَبِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الطَّرِيِّ وَلَوْ سُلِّمَ فَالثَّوْبُ
بِمَرْأَى عَيْنِهِ وَالْبِئْرُ غَائِبَةٌ عَنْ بَصَرٍ فَيَفْتَرِقَانِ .
قَالَ : ( وَإِنْ وَجَدُوا فِي الْبِئْرِ فَأْرَةً أَوْ غَيْرَهَا ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ .
وَقَوْلُهُ
: ( لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ ) بَيَانُهُ أَنَّ
الْمَاءَ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي نَجَاسَتِهِ
فِيمَا مَضَى ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ فَلَا يُحْكَمُ
بِالنَّجَاسَةِ إلَّا زَمَانَ التَّيَقُّنِ بِوُقُوعِ النَّجِسِ ؛ لِأَنَّ
الْيَقِينَ يَزُولُ بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ ، كَمَنْ
رَأَى فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً لَا يَدْرِي مَتَى أَصَابَتْهُ فَإِنَّهُ لَا
يَلْزَمُهُ إعَادَةُ شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّ لِمَوْتِ الْحَيَوَانِ فِي الْبِئْرِ سَبَبًا ظَاهِرًا وَهُوَ
الْوُقُوعُ فِي الْمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكُلُّ مَا لَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ
يُحَالُ عَلَيْهِ كَمَنْ جَرَحَ إنْسَانًا فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ
حَتَّى مَاتَ يُحَالُ بِمَوْتِهِ عَلَى الْجِرَاحَةِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ
السَّبَبُ الظَّاهِرُ ، وَكَمَيِّتٍ الْتَوَتْ فِي عُنُقِهِ حَيَّةٌ
فَإِنَّهُ يُحَالُ بِمَوْتِهِ عَلَى نَهْشِهَا ، وَإِنْ اُحْتُمِلَ أَنْ
يَكُونَ الْمَوْتُ بِغَيْرِ الْجَرْحِ وَالنَّهْشِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُومَ
فِي مُقَابَلَةِ الْمُحَقَّقِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، إلَّا أَنَّ
الِانْتِفَاخَ دَلِيلُ تَقَادُمِ الْعَهْدِ ، وَأَدْنَى حَدِّ التَّقَادُمِ
فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، أَلَا يُرَى أَنَّ مَنْ دُفِنَ بِلَا
صَلَاةٍ يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَا يُصَلَّى
عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَسِخُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ
فَيُقَدَّرُ بِالثَّلَاثِ ، وَعَدَمُ الِانْتِفَاخِ وَالتَّفَسُّخِ دَلِيلُ
قُرْبِ الْعَهْدِ فَقَدَّرْنَاهُ بِيَوْمٍ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ
الْمَقَادِيرِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، فَإِنَّ مَا
دُونَهُ سَاعَاتٌ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا ( وَأَمَّا مَسْأَلَةُ
النَّجَاسَةِ فَقَدْ قَالَ الْمُعَلَّى إلَخْ ) ظَاهِرٌ
( وَعَرَقُ
كُلِّ شَيْءٍ مُعْتَبَرٌ بِسُؤْرِهِ ) لِأَنَّهُمَا يَتَوَلَّدَانِ مِنْ
لَحْمِهِ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا حُكْمَ صَاحِبِهِ .
قَالَ ( وَسُؤْرُ
الْآدَمِيِّ وَمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ ) لِأَنَّ الْمُخْتَلِطَ بِهِ
اللُّعَابُ وَقَدْ تَوَلَّدَ مِنْ لَحْمٍ طَاهِرٍ فَيَكُونُ طَاهِرًا ،
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَوَابِ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالْكَافِرُ .
فَصْلٌ
فِي الْأَسْآرِ وَغَيْرِهَا : لَمَا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ فَسَادِ الْمَاءِ
وَعَدَمِهِ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِ نَفْسِ الْحَيَوَانَاتِ فِيهِ
ذِكْرُهُمَا بِاعْتِبَارِ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا وَهُوَ السُّؤْرُ وَهُوَ
بَقِيَّةُ الْمَاءِ الَّتِي يُبْقِيهَا الشَّارِبُ فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ
عَمَّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ وَفِي الطَّعَامِ .
وَالْجَمْعُ الْأَسْآرُ ،
وَهِيَ أَرْبَعَةٌ عِنْدَنَا : طَاهِرٌ كَسُؤْرِ الْآدَمِيِّ وَمَا
يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، وَمَكْرُوهٌ كَسُؤْرِ الْهِرَّةِ ، وَنَجِسٌ كَسُؤْرِ
الْخِنْزِيرِ وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَمَشْكُوكٌ فِيهِ كَسُؤْرِ الْبَغْلِ
وَالْحِمَارِ .
قَالَ ( وَعَرَقُ كُلِّ شَيْءٍ مُعْتَبَرٌ بِسُؤْرِهِ )
قِيلَ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ وَسُؤْرُ كُلِّ شَيْءٍ مُعْتَبَرٌ
بِعَرَقِهِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي السُّؤْرِ لَا فِي الْعَرَقِ ،
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي
ضِمْنِ الْأَسْآرِ الْعَرَقَ ، فَلَوْ قَالَ وَسُؤْرُ كُلِّ شَيْءٍ
مُعْتَبَرٌ بِعَرَقِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ عَرَقُ الْآدَمِيِّ
كَذَا وَعَرَقُ الْكَلْبِ كَذَا وَعَرَقُ الْخِنْزِيرِ كَذَا ، وَكَانَ
الْفَصْلُ إذْ ذَاكَ لِلْعَرَقِ لَا لِلسُّؤْرِ ، وَلَا يُنْتَقَضُ
بِسُؤْرِ الْحِمَارِ فَإِنَّهُ مَشْكُوكٌ ، وَعَرَقُهُ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ
الشَّكَّ فِي طَهُورِيَّتِهِ لَا فِي طَهَارَتِهِ .
وَقَوْلُهُ : (
لِأَنَّهُمَا ) أَيْ اللُّعَابَ وَالْعَرَقَ أُضْمِرَ عَلَى اللُّعَابِ
وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ ؛ لِأَنَّ السُّؤْرَ هُوَ مَا خَالَطَهُ اللُّعَابُ
فَكَانَ ذِكْرُ السُّؤْرِ ذِكْرًا لَهُ .
وَقَوْلُهُ : ( وَسُؤْرُ
الْآدَمِيِّ وَمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ) كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ وَنَحْوِهَا ( طَاهِرٌ ) قِيلَ يَعْنِي بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ
لِئَلَّا يَدْخُلَ فِيهِ سُؤْرُ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ فَإِنَّهُ
مَأْكُولُ اللَّحْمِ وَسُؤْرُهُ مَكْرُوهٌ كَمَا سَيَأْتِي ، وَلَيْسَ
بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ مَأْكُولَ اللَّحْمِ طَاهِرُ السُّؤْرِ فَلَا مَانِعَ
مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ : ( ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِطَ بِهِ اللُّعَابُ ) وَاضِحٌ .
وَقَوْلُهُ : ( وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْجَوَابِ الْجُنُبُ ) لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا وَالْجَنَابَةُ لَا أَثَرَ لَهَا فِي
أقسام الكتاب/ 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34
35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47--
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق